أماني أبوسليم
قراءة في الفيلم الذي احترم فن و صناعة السينما و احترم المشاهِد، فاستحق ما ناله من تقدير.
.
الفيلم اهتم بأي تفصيل في كل مشاهده و لقطاته، حتى ان كلٍ منها استحق الكتابة عنه منفصلاً.
بدأ الفيلم باكرم المتجهم الوجه دائما و زوجته منى المستسلمة له دائما و هما ينظران من علٍٍ الى مجموعة من الجنوبين المحتجين على مقتل جون قرنق و اكرم يصفهم بالعبيد.
اكرم الذي يمثل السلطة بكل انواعها، السياسية و الاجتماعية و الثقافية. و منى تمثل المواطن السوداني الشمالي الذي يُظَن انه يتمتع بالامتياز على الجنوبي في حين انه مسلوب الارادة، مكبوت الصوت، مسجون في الوضع و الافكار المفروضين من السلطة التي يمثلها اكرم. تظهر منى و هي تنظر من علٍ و كأنها في ذات مستوى اكرم إلا انها تنظر من خلف حديد النافذة الذي يحاكي قضبان السجون.
مجموعة من الجنوبيين يعلنون غضبهم على مقتل قائدهم باثارة الفوضى و الخوف في الشارع.
الصورة في المشهد الاول تختصر الوضع، سلطة ظالمة متسلطة و علاقتها بنوعين من المواطنين، ابن الشمال او المركز، و ابن الجنوب او الهامش، الاول ارتضى ان يتنازل عن حريته و قيمته الانسانية و يعيش في خنوع و استسلام مقابل الاستقرار الظاهري، و آخر لا يجد غير التنفيس عن الغضب بالتكسير و التهشيم.
سيستمر الفيلم شارحا هذه العلاقة الثلاثية باختيار للمَشاهِد و اللقطات بعناية لكل تفصيل و لو صغير. سنرى منى/ المواطن الشمالي و هي تتعرض للشك و التفتيش و الاستجواب في كل حركة و تصرف، و مع تزايد الضغط و اضطرارها للتنازل عن كل حلم او فكرة او محاولة تغيير و لجؤها دوما للكذب و المراوغة و محاولات الارضاء للنجاة من العقوبة و هي المزيد من الحبس و سلب الحرية و في آخره الطلاق.
و سنرى ايضا جوليا و سانتينو و ماجير من الجنوب و كيف يقابلون تسلط اكرم، بالغضب و التحدي من سانتينو و ماجير و بالاستسلام من جوليا.
اهم ما يسلبه اكرم من المواطن الشمالي و الجنوبي على السواء، حرية التفكير و التعبير و اهم صورها الفنون و اختار صناع الفيلم الغناء ليمثل كل انواع الفن و الثقافة. في استسلامهم او تحديهم، في التعامل مع السلطة سيتوارى العمل الفني و الثقافي الفاعل، سيقومان به خلسة و في الخفاء فلا يلعب دوراً في اكتشافهم انفسهم و لا في تقريبهم لبعضهم البعض رغم انهم يعانون نفس المعاناة من التسلط الغاشم.
نتيجة خوف منى من المساءلة من اكرم، و خوفها من تحمل مسؤولية نفسها و فعلها، كمواطن شمالي قد سلم امره للسلطة، سيلاحقها سانتينو مطالبا اياها بحق ابنه، و سيقتله اكرم بدعوى الدفاع عن الدولة او الشعب/منى. هذا المشهد يمثل النتيجة الحتمية للمشهد الاول. المشهد الاول الذي يعبر عن تسلط اكرم و استسلام منى و حبسها خلف قضبانه و تبريره فظاظته على الجنوبيين بادعاء الحماية و الدفاع عن البيت/البلد بالاستعلاء عليهم و انكاره حقهم. النتيجة الحتمية كانت ان يقتل اكرم سانتينو. و القتل هو سلب الحياة و الابعاد عن الفاعلية في المشهد و الارض او الدولة. سيتواطأ الجار و الشرطة و بعض الفاعلين لاخفاء الجريمةو اخراج اكرم من الورطة، و هو ما يحدث في الواقع، تتواطأ اجسام مع السلطة لاخفاء جريمة السلطة/الدولة في سلب حق الجنوب في لعب دور فاعل في الدولة، اجسام ربما مثل الاحزاب، القبائل او اي من له تأثير.
الفيلم يُحَمِّل الجميع المسؤولية، في عدم القدرة على التعايش و رفد الحياة بمزايا التنوع، و التركيز على الفوارق و نتائجها في التسلط او الاستسلام او الغضب و التحدي.
منى و جوليا وجهان لنفس العملة، الاستسلام لمنطقة الراحة، اكل و شرب و تعليم و لبس و سقف، دون العمل على تغيير الواقع بما يملكون من مواهب او الاستفادة مما نالاه من تعليم. منى/ المواطن من الشمال تعيش في بيت لا تملك فيه رأيا و لا قرار حتى فقدت الرغبة في مشاركة فاعلة، لا تتذكر لون ستائر بيتها و تستخدم ذات الاواني القديمة و الاثاث القديم لوالدي اكرم، شعب يعيش على الافكار القديمة و يتعامل مع الحياة و بناء دولته بادوات لم تعد تفيد احد، بدلا من فرض رأيه و مشاركته، يعيش على ارضاء السلطة و كسب ودها حتى يتقي شرها. المشاهد التي تعرض اهتمام منى بزينتها لزوجها و زجاجات العطور التقليدية التي يفضلها الزوج التقليدي/السلطة التقليدية و مشهد اهتمامها ايضا بتفاصيل التزين التقليدي/الدخان/ يعد من اهم مشاهد الفيلم للتعبير عن سلوك المواطن الذي يتزلف للسلطة ليتمكن من العيش حسب رأيها و قوانينها. متنازلا عن روحه و رغبته الحقيقية في العيش بطريقة اخرى.
جوليا ايضا تتنازل عن حق المطالبة بعقاب قاتل زوجها و تسكت في مقابل السكن و الاكل و الشرب و التعليم. جوليا و منى هما المواطن السلبي الذي يقعد عن العمل من اجل التغيير للافضل و يدفن فنه و ابداعه و يفضل ارضاء السلطة طلبا للسلامة.
في مشهدين ستتعرض كلٍ من جوليا و منى للتحرش، ستعلنان رفض الفعل في وجه المتحرش و تزجرانه، و هو ما يحدث من المواطنين السلبيين، يصرخون في مثل هذه المواقف ليقنعوا انفسهم بانهم يحافظون على الاخلاق و الفضيلة و ليعوضوا انفسهم عن شعورهم بالخذي و هم يتنازلون عن حرياتهم و حقهم في العيش الكريم مقابل اتقائهم شر السلطة عند ابداء رأيٍ مخالف.
اكرم و ماجير هما ايضا وجهين لنفس العملة، اختيار العنف و التحدي و فرض الرأي على الآخر، فتكون النتيجة العنيفة بالقتال لفرض الرأي و الثقافة بالقوة.
في كل ذلك لا ينتبه ابطال العمل للنهر الذي يجري بين اقدامهم، النهر الذي يجمعهم شمالا و جنوب، التعايش بلطف الذي حدث بين الجميع بسلاسة. لم يتمكنوا ان يروا تلك الامكانية بعيدا عن مشاعر الغضب من جهة و مشاعر الشعور بالذنب من الجهة الاخرى. العلاقة بين منى و جوليا و بين اكرم و الطفل دانيال، بين سانتينو و ميرغني، بين منى و جيمس. و في كل ذلك الفنون بصفتها الانسانية التي تجمع الناس باختلاف الوانهم و ثقافاتهم. بكل بديهية طلبت جوليا من منى ان تغني لسيد خليفة، تجاوب الجنوبيون في الكنيسة مع الاغنية، هذا وجدان مشترك ساهمت فيه الفنون رغم التسلط، جاري و انا جارو بتعذب بنارو، يا بت انا ود الحلة و عاشق وحياة الله، هذه كلمات تم اختيارها بعناية في هذا الفيلم. الجيرة التي تمثل علاقة اللطف و الود و السكن معا او بالجوار و لكن بحب.
هل يمكن ان اذهب بعيدا و اقول ان اختيار سيد خليفة ايضا كان لرمزية، فهو الفنان من جنوب الوادي الذي تفاعل معه الوجدان في شماله الذي غنى لملك مصر و السودان ابان وحدة وادي النيل، و فضل جنوبه الاستقلال على الوحدة و نال استقلاله في ظروف تشبه ما بين جزئ السودان على الاقل في البعد الثقافي، و اختيار منى الدندنة باغنية مصرية لوردة جاء لمعاني كلماتها، اطير و ارفرف في الفضا زي اليمامة، و للتلميح لعلاقة موضوع الفيلم للعلاقة بين مصر و السودان، و السودان و جنوبه.
كأن الفيلم يقول، كانت هناك طرق كثيرة للتلاقي و للود و لكن ضيعها الجميع بالتركيز على الفوارق. الفراق كان نتيجة حتمية للتسلط و الهيمنة و فرض الرأي من جهة و توالي التنازلات من جهة. قرار الطلاق و مغادرة زوجته لبيت الزوجية كان من اكرم لأنه لا يقبل التنازل عن طريقته، و قرار انفصال الجنوب كان نتيجة حتمية لذات التسلط.
اذا كانت الحياة حتى على المستوى الدقيق للاسرة، مبنية على استمرار تنازل طرف للآخر، و عدم اكتراث طرف لمشاعر الآخر فستكون حياة تعيسة و اجرائية فقط بلا روح لن تثمر و لن تزهر و هو ما مثلته حياة اكرم و منى و عدم انجابهما، شعب يرزح تحت التسلط الثقافي لطرف لن يثمر و لن يزهر و سيظل متأخرا. او شعب يتكون من مجموعة اسر تعيش الدكتاتورية في بيوتها لا تنتظر ان تنتج شوارعها حرية في التعبير تظهر بازدهار فنونها.
هذا فيلم كل مشهد و لقطة فيه تدرس في فن السينما. فيلم احترم فن و صناعة السينما و احترم المشاهد، فكان لا بد ان يلقى هذا الاحترام.
اداء سيران رياك/ جوليا و هي تمثل الحيرة و قلة الحيلة كان آسرا، و كذلك الطفل دانييال كلهم كانوا رائعين، ايمان يوسف و نزار جمعة و جير دواني.
الفيلم يدور باضواء خافتة، الاضاءة الخافتة ربما اشارة للوعي المنخفض، و عدم وضوح الرؤية لايجاد الطريق و المخرج من الوضع المرهِق للطرفين، انخفاض الوعي بالحب و التسامح و التعبير عن الابداع و قيمة و حق الحياة بسلام و ود و لطف. الاضاءة الخافتة تشير للارتباك الذي يسود في العلاقة بين الابطال و ما يمثلونه في الواقع ينتقل للمشاهِد الذي سيجتهد مع الابطال في ايجاد حل لهذه الربكة و البحث معهم عن حل.
التعالي و الشعور بالذنب و الغضب و التنازل، مشاعر معيقة للتقدم، للفرد و للشعوب لابد من التصارح و الاعتذار، لتأتي المسامحة و التصالح. انتزع ماجير الاعتذار من اكرم بالقوة، لن يجدي. وقوف منى لحقها و تحقيق حلمها امام اكرم رغم انها ستخسر حياتها الزوجية، و سعيها للاعتذار لجوليا، هو بداية الطريق للتعافي، و بداية علاقة جديدة تعتمد على المكاشفة و تحمل التبعات ثم يأتي التعاطف و التفهم و الاتكاء على الاخر في واحد من اجمل مشاهد الفيلم، حين اتكأت منى على حجر جوليا و سالت دموعها بينما تضع جوليا يدها برفق على كتفها سألتها عن دانييل بشوق، كان دليل الوشائج التي نمت و كان من الممكن ان تتشابك و تتجذر اكثر و لا يحدث فراق. بديل عدم الاعتراف و المكاشفة و الاعتذار سيكون المغاضبة و العنف الذي سيستمر كما ف مشهد ماجير و دانييال بالسيارة.
ربما يتمكن الجنوبيون من المسامحة كعمل فردي كما قال ماجير و لكن المصالحة عمل جماعي يأتي بارادة الطرفين، و ان لم يأت سيستمر العنف و الجفوة و الاقتتال، ليس بين شمال السودان و جنوبه فقط لكن بين كل الناس جماعات او قبائل او شعوب، او حتى افراد. على مستوى الاسرة الواحدة.
الفيلم يمكن قراءته على كل المستويات، الاسرة، البلد ، الرجل/المرأة، العالم.، لأنه يطرح ظرف انساني في محاولات العيش بانسانية في كل المجتمعات، العيش بحيث الامكانية في التعبير بحرية لنتيح فرصة للابداع و الفن، و للضوء ليسطع و يعكس جمال الحياة.
هذا الفيلم دليل ساطع ان الفنون يمكن ان تصنع الفرق. تصنع ارضية للتعايش في سلام و تعاون.
الفيلم من تأليف و سيناريو و اخراج محمد كردفاني و انتاج امجد ابوالعلا مخرج فيلم ستموت في العشرين
الوسومأماني أبوسليمالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
إقرأ أيضاً:
من المنصة إلى القفص
لم يكن خبر وفاة المستشار شعبان الشامي رئيس محكمة جنايات القاهرة وأحد رؤساء دوائر الإرهاب -دوائر استثنائية شُكلت نهاية عام 2013 بغرض الانتقام من خصوم السلطة الحالية- خبرا ككل الأخبار، فبمجرد ذكر اسمه بعد مرور أعوام من انقطاع أخباره وانتهاء أدواره العاصفة بكل الحقوق والمدنسة لقواعد القانون وقيم الإنسانية من على منصة القضاء؛ تذكرت صرخات المظلومين غير المسموعة أمامه من داخل قفص زجاجي عازل خلف قفص حديدي لا يوفر للمتهمين حقهم في مباشرة إجراءات محاكمتهم، حيث لا يُسمع لهم صوت إلا لمن يأذن له صاحب المعالي الذي لا يشغله قانون ولا هو بدستور يبالي، فيخرج أمامه لدقائق لا تخلو من عنفه اللفظي ومحاولات التشويش وكأن الكلام أصبح أمام القاضي في ساحة العدل حرام! تذكرت تلك الحنجرة الغليظة والكراهية الدفينة والتعالي والغطرسة التي لم تقتصر فقط على المتهمين المطلوب التنكيل بهم بل طالت فرق الدفاع عن هؤلاء، وفي مقدمتهم طبعا الرئيس المنتخب الوحيد في تاريخ مصر المرحوم الدكتور محمد مرسي، الذي لم يسلم من إعداماته.
تذكرت بخبر وفاته كيف سيطر العجز على كل آليات القانون أمام آلة توحش لم تكتف بما اقترفته من جرائم بل شرعنتها وحصّنت أدواتها من كل ملاحقة أو عقاب، كيف كانت الآلام وفيرة في نفوس من شاركناهم قصصهم رصدا وتوثيقا، تذكرت حناجر غلبتها في نهر حديثها عن ألم الظلم الواقع على أصحابها، دموع غزيرة تأكدت معها أننا أمام ضمائر ضريرة.
لت دوائر الإرهاب بصورة انتقائية وبمزيد من المخالفات القانونية، بحيث شملت تقريبا كل القضاة الذين أفصحوا عن مواقفهم الشخصية المعادية للفصيل الذي يحاكَم قادته وأعضاؤه أمام القضاء الاستثنائي، وهذا الإفصاح يكفي لإبعاد القضاة عن قضايا متعلقة بالمختلفين معهم، وفي هذا إهدار كبير لمبدأ استقلالية القضاء
تذكرت كيف عبّرت بالكلمات عن وقع أول هذه الأحكام والصدمة التي استيقظت عليها، لم أكن أتخيل أن هناك من بين المنتسبين للقضاء المصري من يُستخدم بهذا الشكل ويقبل أن يكون جزارا يعتلي منصة مقدسة ممسكا بيده سكينا ويذبح الأبرياء وكأن دماءهم ماء، وعلى غير عادتي في الكتابة التي تخضع للتنقيح والتعديل وجدت نفسي أنشر ما كتبته مرة واحدة بلا مراجعة وبلسان مصري أصيل، قلت عن هذه الصاعقة حينها:
"أحكام بتصدر جوّه قاعة محكمة، متفصلة بمقص دار، بمزاج أفنديهم كان القرار، عدموا العدالة بمشنقة، رفعوا قيمة البلطجة، في مهرجان اسمه البراءة للي إيده ملطخة، بدم اللي مات ماسك علم، رافع شعار أنا اللي سلاحي فلساني وبهتافي برج الكون. صلوا الجنازة عالقضاة، النهاردة يوم وفاتهم، والدفنة من غير الكفن، فـ المنيا واجب العزا، واللي رايح أوعى ينسى يجيب شموع، دي الشمس من كتر الدموع ضلمت واتألمت، لسانها حاله مكنش يومك يا عدالة، تبقي سجادة لرئيس يدوس عليكي بجزمته ويدنسك، مطرقة على راس بريء، كل ذنبه أن حلمه يعيش ضلك".
بكل تأكيد لكل إنسان محبوه ومقربون منه؛ له في قلوبهم محبة وود مهما كانت قسوته أو بطشه، ووجه بشوش يحمل لهم كل جميل مهما كان توحشه، يظل الإنسان إنسانا وبحاجة إلى مساحة مهما كانت خفية وصغيرة، يشعر فيها بالحب مهما عظمت بداخله الكراهية ويتمتع بالود والمحبة وإن فاض منه الظلم مع كل البشر. ولذلك فأنا دائما أتفهم كلمات الإطراء والثناء في أشخاص رصيدهم عند كل من يعرفونهم شر بل وشر مطلق، فربما يكونوا من قلائل عاملهم بوجه إنساني وأفاض عليهم من حبه الشحيح.
حالة الفرح التي غمرت قطاعا ليس بالقليل من الشعب المصري بخبر وفاة المستشار الشامي وصلت في بعض المواقف إلى حد الشماتة، وفي المقابل وجدنا هجوما عنيفا على هذا القطاع الذي يعاني من ظلم معالي المستشار المتوفى ومن معه من قضاة الدوائر الاستثنائية.
سارعت دار الإفتاء المصرية برد استنكرت فيه الشماتة وذكرت بأنها ليست من قيم الإسلام ولا الإنسانية! هي نفسها دار الإفتاء بمفتيها الذي لطالما أيد في رأيها الاستشاري المعمول به في القضاء المصري بإعدام مئات الأبرياء من المصريين، ولم تتحلّ ولو لمرة بالشجاعة وصون أمانة الإفتاء لتعلن رفضها هذه الأحكام رغم علمها اليقيني بأن هذه الأحكام ليست نتيجة محاكمات عادلة ولا أدلة صائبة. وهنا وجب سؤالها: ما هو حكم الإسلام في إهدار الدم بغير حق؟ وهل هو أشد عند الله من شماتة المظلوم في موت من ظلمه؟
على الجانب الآخر لم تتأخر أبواق السلطة الإعلامية والسياسية، وحضرت بوقاحتها المعتادة تصوّب سهام السفه والتشويه والطعن بوصلة نفاق واستنكار الشماتة. هؤلاء لم يتركوا نقيصة ولا جريمة إلا وارتكبوها؛ من تدليس وتحريض على الكراهية والقتل والطعن في ذمم الناس والشماتة في أموات المظلومين، وتعبيرهم في مشاهد غير إنسانية لا حصر لها على مدار سنوات عن مدى ابتهاجهم وشماتتهم مع كل حالة وفاة لرموز سياسية وفكرية لا تعترف بشرعية السيسي رئيسا لمصر وتراه قائد انقلاب عسكري! هذا أصدق مشهد لمقولة "الشيطان يعظ"! ولو أنّ في أمثال هؤلاء خيرا أو رجاء لسألتهم: أيهما أشد على النفس وعند الناس يا أهل التدليس والفتن؛ شماتة المظلوم أم فتنة المأجور المزموم؟
يقول أصحاب المصالح مع السلطة والمقربين منها، وغيرهم من المخدوعين فيها بشعارات الوطنية المزيفة، إن الرجل قد قال وقوله الحق وحكم وحكمه العدل، أُسندت إليه قضايا تمس أمن مصر فقضى بما يراه وعاقب بالقانون جناة! إذن فلماذا هذا السقوط الأخلاقي بهذه الشماتة في رجل قام بدوره ولقي الآن ربه؟
لن أخوض ساعيا في ردي على هذا السؤال في تفاصيل جرت في تلك المحاكمات، وعدد لا حصر له من المخالفات التي ستشهد عليها جدران تلك الباحات، ستشهد على اغتيال العدالة في عقر دارها. أستطيع أن أختصر ردي في بضعة سطور، لعل وعسى ترى تجتمع بها الحقيقة مع النور:
- دوائر الإرهاب التي ترأس إحداها المستشار الشامي هي دوائر استثنائية حالت دون مثول المتهمين أمام قاضيهم الطبيعي، وعلى الرغم من ذلك قبِل بالمشاركة في هذه المخالفة.
- تشكلت دوائر الإرهاب بصورة انتقائية وبمزيد من المخالفات القانونية، بحيث شملت تقريبا كل القضاة الذين أفصحوا عن مواقفهم الشخصية المعادية للفصيل الذي يحاكَم قادته وأعضاؤه أمام القضاء الاستثنائي، وهذا الإفصاح يكفي لإبعاد القضاة عن قضايا متعلقة بالمختلفين معهم، وفي هذا إهدار كبير لمبدأ استقلالية القضاء، وبالتالي فإن المستشار الشامي كان ضمن مجموعات استغلت منصبها القضائي في تصفية حسابات شخصية؛ سواء معهم أو مع من آلت إليهم مقاليد الحكم.
- بعيدا عن عدم التزام تلك الدوائر بقواعد المحاكمات العادلة وتمكين المتهمين من حقهم كاملا في الدفاع عن أنفسهم، اعتمدت تلك الدوائر تحريات الشرطة أو اعترافات انتُزعت من المتهمين تحت التعذيب كدليل إدانة وحيد استوجب توقيع عقوبات قاسية مثل الإعدام والسجن المؤبد، في تحد صارخ وفج للقواعد القانونية وما تواترت عليه أحكام محكمة النقض المصرية من عدم جواز الاستناد على تحريات الشرطة كدليل يُقضى به بأحكام قاسية مثل الإعدام والسجن المؤبد.
نحن أمام رئيس دائرة قضائية استثنائية تشكلت بصورة انتقائية للقيام بأدوار انتقامية في حق معارضي السلطة، لم تكتف بذلك بل لم تراع قواعد المحاكمات العادلة ولم تلتزم بالقانون عند إصدار أحكامها، وتغاضت عن وقائع تعذيب تحدث عنها أغلب المتهمين أمامها
إذن نحن أمام رئيس دائرة قضائية استثنائية تشكلت بصورة انتقائية للقيام بأدوار انتقامية في حق معارضي السلطة، لم تكتف بذلك بل لم تراع قواعد المحاكمات العادلة ولم تلتزم بالقانون عند إصدار أحكامها، وتغاضت عن وقائع تعذيب تحدث عنها أغلب المتهمين أمامها، ولعل حديث الشاب محمود الأحمدي عن وقائع التعذيب أبلغ مثال على عدم اهتمام المحكمة بالتحقيق في تلك الادعاءات والتأكد من الناحية الشكلية حفاظا على ما تبقى من قيمة مهنية لتلك الدوائر! لم يُفتح تحقيق واحد في وقائع التعذيب.
فإذا كان رصيده على هذا النحو من العصف بالحقوق وظلم الناس إرضاء لطرف على حساب العدل وقيمه، وهو في الأصل سيف العدالة وحصن المظلوم وملاذه، فلا وجه للاستغراب من فرحة من طالهم ظلمه، خاصة وأن آمالهم في الإنصاف منعدمة في الحياة الدنيا في ظل وجود السلطة التي نفذ لها ما تريد، ولكن آمالهم في خالقهم لم ولن تنقطع، لعل سر هذا الفرح يكمن في أن الحماية التي حالت دون محاسبته في الدنيا قد انتهت بوفاته وانتقل إلى حيث الحساب والعقاب.
هذا الموقف لا يعبر عن خصومة أو عداء مع القضاء المصري كمنظومة لها تاريخ كبير في تحقيق العدالة وإنصاف المظلوم وتطبيق صحيح القانون، وإنما هو موقف رافض لاستخدام القضاء المصري في عمليات انتقام غير قانونية لمواطنين مصريين على خلفية سياسية، فالقضاء المصري بتاريخه ورموزه أكبر من أن يكون أداة بهذا الشكل لسلطة تنفيذية ليس لها سلطان على السلطة القضائية.
وفي ختام هذا الكلام أقول إنه لا يملك أحد الحق في إلقاء لوم على مظلوم نتيجة شعوره بالراحة أو تلقيه خبر وفاة ظالمه بسعادة، فهذا شعور إنساني طبيعي لا يتعارض مع الفطرة السوية ولا النفس النقية، أما الشماتة فهي أمر آخر لا يأتي به قلب بالخير زاخر، لا يحمل في طياته وجه تفاخر.
هذا ما في نفسي ويحمله عقلي، والله أعلى وأعلم..