إن ذهنية الإنسان العربي تتشكل منذ السنوات الأولى من عمره على النحو الذي نراها عليه الآن؛ إذ يتلقى المرء أفكارًا ومعتقدات في مرحلة عمرية لا يملك خلالها نضجًا يُمَكَّنه من الفحص والفرز، ومن ثمَ يتلقى ما يتلقاه - من تصورات ومعتقدات - بوصفه الحق المبين، وبوصف تلك التصورات والمعتقدات مسلمات لا تقبل شكًا أو جدلًا؛ بل نجد الإنسان العربي - مهما بلغ تحصيله العلمي من علو – يتململ ممن يحاول مناقشته فيما يعتقد، قد يتعارك ويعتدي اعتداءً لفظيًا أو جسديًا على كل من يحاول فحص أو نقد تصوراته ومعتقداته الدينية.
إن الإنسان في المراحل الأولى من عمره يكون شديد الشبه بقِطَع الإسفنج الناصعة البياض؛ وتمثل بيئته إناءً يحتوي على سائل مصبوغ بلون معين (أحمر أو أخضر أو أزرق... إلخ). والإنسان يتشبع بالتصورات والمعتقدات الدينية السائدة في بيئته؛ تمامًا كقطعة الإسفنج التي تصطبغ بصبغة السائل الموجود بالإناء المنغمسة به، فإذا كان أحمر اللون؛ اكتسبت قطعة الإسفنج اللون الأحمر، وإذا كان أزرق اللون اكتسبت اللون الأزرق،... وهكذا.
وينشأ الاختلاف والخلاف بين الناس بسبب تباين تصوراتهم ومعتقداتهم الدينية والسياسية. فلو كانت قطعة الإسفنج التي اصطبغت باللون الأحمر تملك لسانًا تعبر به عن حالها، لدافعت عن اللون الأحمر التي هى عليه ولقالت؛ غافلةً عن أنها اكتسبت ذلك اللون من بيئتها: «إن اللون الأحمر هو أفضل الألوان عند الله، وهو اللون الوحيد الحقيقي، وإنه أول الألوان التي يمكن الاعتراف به بوصفه لونًا أصيلًا ونقيًا». وسوف تستطرد قائلةً بحماس وانفعال: «أما ما عدا الأحمر من ألوان؛ فهى باهتة وزائفة». ولو كانت قطعة الإسفنج التي اصطبغت باللون الأخضر تملك لسانًا لدافعت عن اللون الأخضر، وقالت عنه ما قالته القطعة الحمراء عن اللون الأحمر.
نحن جميعًا أشبه بتلك القطعة من الإسفنج؛ فلقد اصطبغت عقولنا بتصورات ومعتقدات اكتست رداء القداسة، وظلت كامنة داخل عقولنا، تحيط بكل عقل من تلك العقول طبقة فولاذية سميكة تحول دون وصول أية أفكار جديدة إلى العقل. ومهما اكتسبنا من خبرات، أو سافرنا إلى بلدان، أو تلقينا من علم ومعرفة، ومهما مرت السنون؛ بل والقرون ستظل التصورات والمعتقدات الكامنة بعقولنا كما هى دون أن يطرأ عليها تغير أو تطور؛ بل ستبقى على حالتها الأولى التي نشأت عنها منذ عشرات القرون، يتوارثها جيل بعد جيل، وستظل تصبغ حياتنا وتوجه سلوكنا وأفعالنا؛ رغم اختلاف الزمان والمكان.
كل إنسان يدافع عن معتقده الديني. إن المسلم (المولود في مكة) يدافع عن الإسلام، ويهاجم المسيحية. والمسيحي (المولود في الفاتيكان) يدافع عن المسيحية مهاجمًا الإسلام. لو أن «أحمد» الذي وُلِدَ في مكة؛ كان قد وُلِدَ في الفاتيكان؛ لدافع عن المسيحية التي كان يهاجمها، وهاجم الإسلام الذي كان يدافع عنه. ولو أن «جورج» الذي وُلِدَ في الفاتيكان؛ قد وُلِدَ في مكة، لدافع عن الإسلام وهاجم المسيحية. هذا هو حال أصحاب المعتقدات الدينية المختلفة إلا من رحم ربي!!
اللافت للنظر أن المسلم الذي تقع عيناه على سطور هذا المقال؛ سوف ينكر هذا الطرح، زاعمًا أنه كمسلم بنى اعتقاده اعتمادًا على تفكير عقلي خالص، واستنادًا إلى صفات ذاتية متوافرة في الإسلام نفسه ترجح كفته على سائر المعتقدات الدينية الأخرى. وسوف يدافع المسيحي عن المسيحية عارضًا المبررات والحجج نفسها التي عرضها المسلم دفاعًا عن الإسلام. تمامًا كقِطَع الإسفنج التي تدافع عن لونها الذي اكتسبته من بيئتها دون أن تكون لها يد في ذلك.
علينا أن ندرك أننا لسنا قِطَع إسفنج، نحن بشر نملك عقلًا ووعيًا، ومن ثمَ علينا أن ندرك أن هذه ليست دعوة لأن يتخلى كل منا عن معتقده الديني، بل ينبغي أن نتحلى بروح التسامح إزاء الآخرين. فكما أن لنا الحق في اعتناق دين معين؛ فإن الآخر له الحق ذاته في اعتناق ما يشاء. علينا أن نكف عن محاولة أن نكون أوصياء على معتقدات الغير. من حقنا أن نتمسك بما نؤمن به؛ ولكن لا يجوز بحال من الأحوال أن نضطهد الآخرين بسبب ما يتمسكون به من معتقدات، أو نحاول أن نفرض عليهم معتقداتنا. ويتحتم علينا أيضًا أن ننصت لكل صاحب رأي مخالف وناقد لما نعتقد؛ فلعله يرى ما لا نراه، أو قد يكون على صواب. أما التشنجات والانفعالات فهى صفات لا تليق حتى بقِطَع الإسفنج.
د.حسين علي: أستاذ المنطق وفلسفة العلوم بآداب عين شمس
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: الإنسان العربي التشنجات المسيحية الإسلام اللون الأحمر ط ع الإسفنج یدافع عن
إقرأ أيضاً:
تعرف على شرح حديث "قل آمنت بالله ثم استقم"
حديث "قل آمنت بالله ثم استقم" يتحدث الشيخ هشام البنا من علماء الازهر الشريف وقال هو قول جامع لمعاني الإسلام، حيث يعلمنا أن الإيمان بالله هو أساس كل شيء، وأن الاستقامة هي الثبات على هذا الإيمان بتطبيق الأوامر واجتناب النواهي. الاستقامة تشمل الإيمان القلبي، ثم التطبيق العملي المستمر في جميع جوانب الحياة، ابتغاء مرضاة الله وطلبًا للنجاة من النار.
شرح الحديث "قل آمنت بالله":هذا هو ركن الإيمان. وهو إقرار قلبي باللسان، اعتقاد بألوهية الله ربوبيته، وأسمائه وصفاته، وهذا هو أصل الدين وأساسه.
"ثم استقم": كلمة "ثم" تفيد الترتيب. الإيمان بالله أولًا، ثم الاستقامة بعد ذلك. الاستقامة تعني:
الثبات والالتزام: أن تبقى على هذا الطريق المستقيم.و ثبت عن النبي ﷺ أنه سأله سائل قال: يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولًا لا أسأل عنه أحدًا غيرك، قال: قل: آمنت بالله ثم استقم معنى آمنت بالله: يعني: وحدت الله وآمنت أنه ربي وإلهي الحق، ثم يستقيم على طاعة الله وتوحيد الله بأداء فرائض الله وترك محارم الله، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30].
فالإنسان يؤمن بالله يعني: يوحد الله ويخصه بالعبادة، ويشهد للرسول ﷺ بالرسالة، ويؤمن به، ثم ينقاد لطاعة الله ويستقيم عليها، على أداء فرائض الله وترك محارم الله، هذه هي الاستقامة.
الإيمانُ باللهِ إيمانًا صادقًا، والاستِقامةُ على شَرعِه قَدرَ الوُسعِ والطَّاقةِ: هما طَريقُ الفَلاحِ والنَّجاحِ في الدُّنيا والآخِرةِ، وقد كان الصَّحابةُ من أحرَصِ النَّاسِ على سُؤالِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عمَّا يَنفَعُهم في دُنياهم وآخِرتِهم.
وفي هذا الحديثِ يَسألُ الصَّحابيُّ سُفيانُ بنُ عبدِ اللهِ الثَّقَفيُّ رَضيَ اللهُ عنه النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن عَمَلٍ يُنجيه ويَكفيه عن الأعمالِ الأُخرى، وأن يُعَلِّمه بقولٍ جامِعٍ وشامِلٍ في مَبادِئ الإسلامِ وغاياتِه، فيكون كَلامًا جامِعًا لأمرِ الإسلامِ، يَكمُلُ به دينُه ويُرشِدُه إلى الحقِّ، ويَكفيه عن غَيرِه منَ الأعمالِ، ويَكون سببًا في نَجاتِه منَ النَّارِ يَومَ القيامةِ. وقَولُه: «في الإسلامِ»، أي: فيما يَكمُلُ به الإسلامُ، ويُراعَى به حُقوقُه، ويُستَدَلُّ به على تَوابِعِه، أوِ المَعنَى: علِّمني قولًا جامِعًا لِمَعاني الإسلامِ.
فقال له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «قُلْ: آمَنْتُ باللهِ، ثُمَّ اسْتَقِمْ»، أي: قُل وأنتَ مُوقِنٌ بقَلبِكَ: آمنتُ باللهِ، ثُمَّ داوِم على هذا الإيمانِ وأنت مُستَقيمٌ على هَديه ومُقتَضاهُ، والاستِقامةُ جامِعَةٌ للإتيانِ بجَميعِ الأوامِرِ، والانتِهاءِ عن جَميعِ المَناهي، فالمُعوَّلُ عليه هو الثَّباتُ على الإيمانِ مع الاستِمرارِ على العَملِ الصَّالِحِ الذي يَهدي صاحِبَه إلى الطَّريقِ المُستَقيمِ، ومن بُشرَياتِ الاستِقامةِ ما جاء في قَولِ اللهِ تَعالَى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}.