بيتر هندكه.. سيفا اللغة والسرد
تاريخ النشر: 5th, December 2023 GMT
تتفق الكتابة الأدبية، بشكل عام، على استخدام اللغة الاجتماعية، وعلى مكانة الإنسان في المجتمع. ولكن، «في الوقت عينه»، هناك حضور لا يُحصى من الإيماءات، والأحاسيس، والأماكن، والانطباعات العابرة إلى حدّ ما، والتي تبقى كامنة أي غير معلن عنها في معظم الأوقات، والتي تشكل مع ذلك نسيج الحياة ذاته. كلّ أعمال الكاتب النمساوي بيتر هندكه -(مواليد 1942 وحائز نوبل للآداب العام 2019)- تمثل سعيًا مستمرًا لتحقيق هذا الهدف، وتتمايز عن الهياكل السردية المعتادة.
«السيف الثاني» (منشورات غاليمار في باريس، 128 صفحة) هو جزء كامل من هذا النهج المتواصل والمستمر، والذي، مثل التنفس، هو بصمة الحياة ذاتها، التي يمكن نقلها إلى أي قارئ كاحتمال خاص به، وخاصة عبر الترجمة الجميلة والدقيقة والمرنة لجوليان لابير دو كابانا، وكأنه يعيد إنشاء النص بشكل مثالي، بعيدا عن عملية النقل من الألمانية إلى الفرنسية.
ما من شيء خاص، أو حصري في سردية بيتر هندكه هذه، فما يحدث للشخصية (الروائية) يمكن له أن يحدث للجميع، وكل ما يعيشه هذا الرجل، الذي يتحدث عنه الكتاب هو «شائع» وخاص بالجميع. باستثناء أنه زار ذات يوم ضاحية باريس الشمالية، وما إن عاد حتى أحس أن نزهته كانت أشبه «بترحال في داخل الأرض»، فما كان أمامه، إلا أن عاد إلى هناك بعد ثلاثة أيام؛ وحين غادر تلك البقعة مجددا، سيطرت عليه هذه المرة الحاجة إلى مكان آخر «مصنوع من الانتقام».
كانت حاجة هذه الشخصية، أو لنقل مشروعها، الانتقام في قلب المشهد الطبيعي. والقصد من ذلك هو قتل الصحفي الذي كتب أن والدة الراوي، في زمن مضى، انحازت إلى جانب المحتلين الألمان للنمسا. فاتح بالأمر صديقه إيمانويل، رسام هياكل السيارات، لغاية أنه سأله عمّا إذا كان قد قتل أحدا من قبل.
يقع الراوي تحت تأثير ضيق الوجود الأساسي، الذي يشكل أساس بعض المواجهات المعينة مع الواقع. إنه الانتقام كقوة دافعة للذات البشرية، كمحتوى أساسي له، لكن الانتقام ربما يكون مجرد فرصة مكثفة لهذا الوجود، لا في إنجازه، بل في مدته الزمنية المستمرة. في أي حال، تنتهي الرغبة في القتل إلى أن تتوزع على أشياء متعددة، مرئية، إلى لقاءات. الرحلة التي تبدو وكأنها خارجه، سوف تمنحه فرصة اكتشاف الذات.
تهدف هذه الرحلة، من دون حتى إطالتها، إلى مصالحة غريبة مع التاريخ الذي حرص بيتر هندكه دائمًا على إبعاد نفسه عنه: تستعيد هذه السردية قصة الــ«Wanderung» (التجول) سيرًا على الأقدام في «إيل دو فرانس»، والتي سبق أن بدأتها شخصية الممثل في كتاب سابق لهندكه وهو «السقوط العظيم» (2011)؛ ففي روايته هذه، يستيقظ الممثل ذات يوم على صوت الرعد الشديد، لينتهي به الأمر بالسقوط العظيم. كان قد نام في منزل امرأة كان قد التقى بها في ذلك المساء نفسه، هناك، في المدينة الكبرى. هل هما شخصان متواطئان أم عاشقان؟ في أي حال، كان الثنائي الذي يشكلانه لا يزال غامضا للغاية في نظر الراوي الذي يتابع إعداد «ممثله» خطوة بخطوة. كان من المقرر أن يبدأ التصوير في اليوم التالي، لكن يتعين عليه أولا مغادرة المنزل وعبور الغابة ثم الوصول إلى العاصمة. أغرب اللقاءات تتبع بعضها البعض دون أن نعرف حقًا أي الشخصيات موجودة وأيها متخيلة. يأخذنا هندكه في كتابه هذا في رحلة شعرية. ونجد أن المجتمع والسياسة وحتى الطبيعة تتحدث عبر هذا الممثل الذي يتجه بلا هوادة نحو السقوط العظيم، الذي لم يكن سوى عراك يسقط فيه مضرجا بالدماء حتى الموت، بعد أن وصل على ساحة المدينة. هنا أيضا نجد طريقا مماثلا من الضواحي الداخلية إلى وسط باريس. لكن هذه الرحلة هي أيضًا رحلة يكون فيها، على الرغم من نفسه، منغمسًا على وجه التحديد في هذا التاريخ الذي ينضم إلى أسسه بينما يبدو أنه يتحداه.
يُظهر عنوان الكتاب الفرعي «قصة في مايو» كيف يتم استيعاب الانتقام وعكسه و«تضمينه» في التكوين العام للمكان، لذا ليس من قبيل الصدفة أن يظهر «بور رويال» مرة أخرى في قصة لبيتر هندكه؛ إذ يُعدّ «بور رويال» مكانًا لاضطراب الروح، وقطبًا للتعافي الذاتي، وهو على وجه التحديد في قلب التاريخ البشري منذ أن نشأ باسكال وراسين هناك، وفي الأسس ذاتها التي تجعل هناك لغة: الصرف والنحو.
اللغة في الواقع هي اللحظة الحاسمة في كلّ ما يكتبه بيتر هندكه، اللغة في تزامنها مع ما يقوله (هل هذا هو سبب اللجوء إلى النص الكتابي، «السيفان» اللذان يظهران في «إنجيل لوقا» «فَقَالُوا: «يَا رَبُّ، هُوَذَا هُنَا سَيْفَانِ». فَقَالَ لَهُمْ: «يَكْفِي!»، 22:38)؟ إنها اللغة التي تشكل السيف الأول، ولكن بكونها غير مبرمجة مسبقا.
تشكل المناظر الطبيعية في «إيل دو فرانس»، وفي قلبها مقهى «المحطات الثلاث»، الإطار الأسطوري. كل العناصر المادية الصغيرة، والأصوات، ومواقف الأشخاص الذين نواجههم، هي علامات على هذه الاستمرارية. «ما رأيته، الشيء مثل الكلمة، كان استمرارًا. - الأبدية؟ - لا شيء سوى الاستمرار. لنستمر في التجول إذًا». كتاب هندكه هذا، وكأنه بمثابة رحلة عبر كتبه الأخرى؛ إذ مع بعض الإيهام، نجدها حاضرة كلها تقريبًا هنا، حتى كتابه «مقالة عن مجنون الفطر».
لكن ما يهم هو السيف الثاني، سيف السرد، وبالتالي سيف الفعل (الكلمة)، إنه علامة الاستمرار، وربما يشير شهر مايو إلى الوعد العبثي والضروري المطلوب دائما: تراجع العنف. أحد هذه الأماكن الأساسية هو بالقرب من حظائر مزرعة بور رويال، وهو جزء من جدار منقوش عليه «اليوم، 8 مايو 1945، أجراس النصر تقرع» الحرب العالمية الثانية مع تحقيق الانتقام.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
خبراء لـ"يورونيوز" حول المجمع المقدس: هناك حرب ثقافية دائرة في الفاتيكان
في 7 أيار/مايو، يبدأ المجمع الكنسي المغلق، وهو عملية انتخاب الكرادلة لخليفة البابا فرنسيس. يُعقد قبله مجمعان للكرادلة الذين سيجتمعون داخل كنيسة سيستين ليقرروا من سيتولى قيادة الكنيسة الكاثوليكية. اعلان
في أجواء مفعمة بالرمزية، ودّعت الكنيسة الكاثوليكية البابا فرنسيس، الذي توفي يوم عيد الفصح عن عمر ناهز 88 عامًا، ووري الثرى يوم السبت 26 نيسان/أبريل في بازيليك "السيدة العذراء الكبرى" في روما، عقب جنازة مهيبة في الفاتيكان شارك فيها قادة من مختلف أنحاء العالم وحشود غفيرة من المؤمنين.
"حرب ثقافية في الفاتيكان"ومع اقتراب انطلاق المجمع الكنسي لاختيار الحبر الأعظم الجديد، تطرح يورونيوز تساؤلات حول هوية البابا المقبل، وسط مؤشرات تفيد بأن القرار لن يكون محصورًا بالاعتبارات الروحية وحدها، بل سيتأثر بما وصفه بعض المتابعين بـ"الحرب الثقافية" الدائرة في قلب الفاتيكان.
البروفيسور أركاديوش ستيمبين، المؤرخ المتخصص في شؤون الكرسي الرسولي، يرى أن الكنيسة الكاثوليكية منخرطة اليوم في صراع داخلي بين تيارين متضادين: الأول يناصر الديمقراطية الليبرالية، والثاني يميل إلى الشعبوية ويجاهر بتوجهات سلطوية. ويرى ستيمبين أن هذا التوتر سينعكس بالضرورة على مداولات المجمع واختياراته، إذ قال: "ما نشهده هو حرب مصغّرة داخل الفاتيكان، بين رؤيتين متنافستين للعالم والكنيسة، وستُترجم هذه المواجهة في قرار انتخاب البابا".
وفي تحليل لموازين القوى داخل المجمع، يشير ستيمبين إلى أن تعيينات البابا فرنسيس السابقة من الكرادلة أسهمت في تشكيل كتلة وازنة ذات طابع وسطي – ليبرالي، ما يجعل من غير المرجح أن ينجح الجناح المحافظ المتشدد في فرض مرشحه. وقال في هذا السياق: "الحسابات العددية تُظهر بوضوح أن الفصيل المحافظ، الذي يمثل امتدادًا للقوى الشعبوية في العالم، لا يمتلك القدرة على تمرير مرشح يحظى بقبول الأغلبية الوسطية".
وأضاف: "من المستبعد تمامًا انتخاب شخصيات مثل الكاردينال روبرت سارة أو لودفيغ مولر أو ريموند ليو بورك، لأنهم يجسّدون الخط التقليدي الصارم الذي فقد الكثير من الزخم داخل الكنيسة في عهد فرنسيس".
"التوق إلى حبريّة منظّمة"في خضم المشهد المعقّد الذي يسبق انعقاد المجمع المقدّس، يبرز توجه داخلي واضح في أروقة الفاتيكان نحو مرشح يجسّد الاعتدال ويملك القدرة على مدّ الجسور بين التيارات المتنافسة داخل الكنيسة. فبحسب ستيمبين، يبدو أن الكرسي الرسولي يميل نحو اختيار كاردينال يمثّل "الطريق الوسط"، قادر على مواصلة الإرث الرعوي والانفتاحي الذي طبع عهد البابا فرنسيس، دون أن يصطدم مباشرةً بتطلعات التيار المحافظ.
ويشير ستيمبين إلى أن هذه المقاربة تعزز فرص شخصيات بارزة ذات توجه وسطي، تحظى بثقة الكرادلة الليبراليين، لكنها في الوقت ذاته لا تثير قلق المحافظين. ومن بين الأسماء التي تكتسب زخماً في هذا السياق، يبرز الكاردينال بييترو بارولين، أمين سر دولة الفاتيكان، بوصفه مرشحاً يعكس رغبة ضمنية لدى كثيرين في العودة إلى حبرية أكثر تنظيمًا وتماسكًا، بعيدًا عن الطابع غير التقليدي والعفوي الذي اتسمت به مرحلة فرنسيس.
ويضيف ستيمبين أن هذا "الحنين إلى الاتساق" يمنح الأوروبيين، ولا سيما الإيطاليين، أفضلية واضحة في المشهد الانتخابي الحالي، إذ يعتبرون أكثر قدرة على إدارة المؤسسة البابوية بهيكلية كلاسيكية ومقاربات مألوفة.
ويلفت الكاتب المختص بشؤون الفاتيكان إلى أن الكاردينال بارولين، إلى جانب الكاردينال المالطي ماريو غريتش، يدخلان المجمع المقدّس بحظوظ قوية، حيث يُتوسّم فيهما تقديم صيغة جامعة توازن بين الرؤية الإصلاحية لفرنسيس وبين مقتضيات الاستقرار البنيوي الذي يتوق إليه جزء كبير من المؤسسة الكنسية.
"ابتعاد الكنيسة عن المركزية"في تحليله لمرحلة ما بعد البابا فرنسيس، يسلط البروفيسور ستيمبين الضوء على التحوّل البنيوي العميق الذي رسّخه البابا الراحل، والمتمثل في الابتعاد عن المركزية الصارمة داخل الكنيسة الكاثوليكية، لصالح مزيد من الاستقلالية للأقاليم الكنسية حول العالم. ويرى ستيمبين أن هذا التحول لن يكون مجرد خيار رعوي، بل عاملاً حاسماً في تحديد هوية المجموعة التي سينبثق منها البابا الجديد.
Relatedحتى بعد رحيله... سيارة البابا فرنسيس في خدمة أطفال غزةما حقيقة غلاف "شارلي إيبدو" الساخر من زيلينسكي والبابا؟الكرادلة يدخلون مرحلة الصمت الانتخابي قبيل انعقاد المجمع المغلق لاختيار البابا الجديدويشرح ذلك بالقول: "لقد أصبحت الأقاليم اليوم أكثر قدرة على تقرير شؤونها بنفسها: أوروبا لأوروبا، بولندا لبولندا، إسبانيا لأسبانيا، ألمانيا لألمانيا، والأمازون للأمازون. وهذا التوجه ليس محل ترحيب لدى التيارات المحافظة المتشددة، إذ يرونه تهديداً للوحدة العقائدية والانضباط الكنسي المركزي".
رغم ذلك، يقر ستيمبين بأن الإرث "البيرغولي"، في إشارة لخورخي ماريو بيرغوليو وهو الاسم الأصلي للبابا فرنسيس، لا يخلو من الثغرات. ويشير إلى أن كثيراً من الملفات التي أطلقها الراحل لم تُستكمل، وعلى رأسها فشل الكنيسة في استعادة حضورها الفعّال في أوروبا الغربية، حيث لا تزال الكنائس فارغة رغم الطابع الإصلاحي المنفتح لحبرية فرنسيس، وهو ما يستند إليه خصومه المحافظون في انتقاداتهم.
ويضيف ستيمبين أن مسؤولية البابا الجديد لن تقتصر على تبني نهج جديد، بل ستشمل أيضاً استيعاب ضرورة استمرارية المؤسسة، مع إدراك أن أي مشروع إصلاحي لا يمكن أن يكتمل في عهد بابوي واحد. ويستحضر في هذا الإطار مثالاً تاريخياً قائلاً: "قبل خمسين عاماً، كان يوحنا الثالث والعشرون بابا تقدمياً دشن المجمع الفاتيكاني الثاني، لكن الذي أكمله وثبّت نتائجه كان بولس السادس، المعروف بحذره النسبي. وهذا النموذج قد يتكرر اليوم".
ويختم بالقول: "كل عملية إصلاحية تحتاج إلى أكثر من رجل واحد. ما بدأه فرنسيس، سيبقى مفتوحاً، وتقع مسؤوليته مواصلته وتثبيته على من سيُنتخب بعده".
"الأهم أن يضمن المرشح وحدة الكنيسة"وفي حديث ليورونيوز، قدّم الأب ستانيسلاو تاسيمسكي، الكاهن الدومينيكاني ومترجم النصوص البابوية ونائب رئيس وكالة الأنباء الكاثوليكية، إضاءة على مسار المجمع الكنسي الذي سيُنتخب خلاله خليفة للبابا فرنسيس، متناولًا في الوقت نفسه مواقف الكنيسة البولندية وتحديات المرحلة الراهنة داخل المؤسسة الكاثوليكية.
وأوضح تاسيمسكي أن عملية الاقتراع منظمة بدقة، تبدأ بجلسة أولى تنتهي عادة عند الساعة السابعة مساءً، تليها ثلاث جولات يومية من التصويت تمتد لثلاثة أيام، ثم يوم استراحة يليه مؤتمر، وثلاثة أيام إضافية من التصويت ثم استراحة أخرى، مما يمنح المشاركين فسحة من الوقت للتفكير والتشاور والوصول إلى توافق.
وأشار إلى أن 133 كاردينالًا يُتوقّع أن يشاركوا في انتخاب البابا الجديد، رغم احتمال تغيّر هذا الرقم، إذ بلغ بعض الكرادلة السنّ القصوى المسموح بها للمشاركة (80 عامًا)، في حين انسحب آخرون لأسباب صحية. ومن أبرز المنسحبين، الكاردينال أنجيو بيشيو، الذي قرر عدم المشاركة بعد إدانته بتهمة الاختلاس من قبل محكمة الفاتيكان الابتدائية عام 2023، وهو ما أثار جدلاً واسعاً.
Relatedكرادلة الفاتيكان يجتمعون قبل انعقاد المجمع المقدّس لانتخاب خليفة للبابا فرنسيسمئات المؤمنين يبيتون في الشوارع استعدادًا لجنازة البابا فرنسيس في الفاتيكانالفاتيكان يغلق كنيسة سيستين استعدادًا لانتخاب بابا جديد بعد وفاة فرنسيسوفي ما يتعلق بموقف الكنيسة البولندية، المعروفة بميلها إلى المحافظة العقائدية، شدّد تاسيمسكي على أن الأولوية الكبرى من منظورها هي الحفاظ على وحدة الكنيسة. وقال: "الكنيسة في بولندا تفكر من منظور كوني، لا محلي. الكاردينالان البولنديان المشاركان في المجمع، ريش ونيتش، يمضيان معظم وقتهما في الكوريا الرومانية، ما يمنحهما إلمامًا واسعًا بتعقيدات الكنيسة الجامعة".
وأضاف: "الرهان الأساسي من وجهة نظر بولندية يتمثل في انتخاب بابا قادر على حماية وحدة الكنيسة، خصوصًا في ظل الضغوط المتزايدة من جهات متباينة داخلها: فهناك مطالب إصلاحية متقدمة في ألمانيا، تقابلها تحفظات شديدة في إفريقيا، وإذا لم تتم إدارة هذه التباينات بحكمة، فهناك خطر حقيقي بوقوع انقسام. الكنيسة البولندية لا تقبل بهذا السيناريو، وترى أن الحفاظ على وحدة الكنيسة هو التحدي الأكبر".
وحين طُرح على الأب تاسيمسكي سؤال عمن هو المرشح الأكثر حظًا لتولّي السدة البابوية، كانت إجابته قاطعة في تواضعها: "لا يوجد شيء مؤكد". فحتى مَن يعرفون دهاليز الكوريا الرومانية عن كثب، قد يخطئون في قراءتهم لتوازنات المجمع، كما حدث مع البابا بنديكتوس السادس عشر، الذي، رغم قضائه ثلاثة عقود فيقلب الإدارة الفاتيكانية، لم يُنتخب أي من خلفائه المتوقعين بعد استقالته.
ويضيف تاسيمسكي ملمحًا إلى البعد الروحي العميق لهذا الحدث التاريخي: "طلب الكرادلة الصلاة اليوم، وهو نداء موجه إلى الكنيسة جمعاء. فهم يشعرون، في غياب هذه الصلاة، وكأنهم حجاج يسيرون نحو النور دون دليل".
في نظره، فإن ما يصنع الكاثوليكية الحقيقية ليس فقط شخص البابا، بل لحظة الالتفاف الروحي حوله بوصفه خليفة بطرس، وقائدًا للإيمان في زمن بالغ الحساسية. هذا الجوهر، كما يؤكد، هو جوهر الكنيسة الجامعة، وهو ما يجب أن يبقى حاضرًا في قلب كل من يترقب الحدث: الكنيسة ليست مجرد مؤسسة تنتخب زعيمًا، بل جسد حي يسير نحو الوضوح والإيمان وسط عتمة العالم.
"الأمر يعتمد على أولويات الكرادلة"يستعرض الأب تاسيمسكي جملة من العوامل التي قد تُؤثّر في اختيار البابا المقبل، مشيرًا إلى أن القرار لا يُبنى على الاعتبارات العقائدية فقط، بل يتأثر بمزيج من التحديات المعاصرة والانتماءات الثقافية والمرجعيات الجغرافية.
فإذا رأى الكرادلة أن الكنيسة بحاجة إلى دفع قوي في مجال التبشير، فقد تبرز حظوظ الكاردينال لويس أنطونيو تاغلي، الذي يتمتع بخبرة واسعة في قيادة العمل الرسولي، خصوصًا في آسيا. أما إذا كان التركيز على مواجهة تزايد التيارات العلمانية في الغرب، فقد يُختار كاردينال عاش تجربة الإيمان في قلب مجتمعات علمانية، ويعرف كيف توازن الكنيسة بين مبادئها وتحديات العصر.
ولا يُستبعد أيضًا، بحسب تاسيمسكي، أن تدخل الهوية الجغرافية في معادلة الانتخاب، إذ يُتداول اسم الكاردينال فريدولين أمبونغو من جمهورية الكونغو الديمقراطية، كوجه أفريقي يتمتع بقبول واسع، كما تُطرح أسماء أخرى مثل الكاردينال الإيطالي بييرباتيستا بيتسابالا، حارس الأراضي المقدسة، بوصفه خيارًا يعكس تواصلاً مع الشرق المسيحي ومع رمزية الأرض المقدّسة.
ويفتح تاسيمسكي الباب أمام فرضية غير تقليدية، وهي انتخاب كاردينال تجاوز سن الثمانين، رغم أن هذا الاحتمال يبقى استثنائيًا في أعراف المجمع. إلا أن الحوارات الجارية والتقارير الداخلية، كما يقول، تمنح الكاردينال بييترو بارولين –أمين سر دولة الفاتيكان– حضورًا قويًا في بورصة التوقعات، بالنظر إلى مكانته الإدارية والدبلوماسية داخل الكرسي الرسولي.
انتقل إلى اختصارات الوصولشارك هذا المقالمحادثة