د. ناهد محمد الحسن

تشير تجارب التاريخ الثقافي إلى أن الفضاء الفني غالبًا ما يستعيد القدرة على قول ما تعجز السياسة عن الإفصاح عنه. تتقدّم الفنون لتصدح باللغة التي لا تستطيع السلطة سماعها او تحمّلها. فاللغة المصفّاة بنت السلطة، أما اللغة المنفلتة فهي بنت الحرية، ولا يجتمع الاثنان في حنجرة واحدة. من هنا، يصبح تتبّع البذاءة في الفنون أشبه بتتبّع التصدعات الدقيقة التي تظهر في جدار السلطة.

فكلما اتسعت التصدعات، ارتفع صدى الضحكات، سقطت الهيبة، تراجع الخوف وتطوّرت المقاومة.

فعندما تهيمن السلطة على القنوات الرسمية للخطاب، يصبح الفن بما يتضمنه من سخرية، انحراف لغوي، فجور رمزي، وتوظيف مقصود للابتذال وسيطًا معرفيًا يسمح بإعادة إنتاج الحقيقة خارج الأطر التي تفرضها البنى السلطوية. ولهذا، فإن دراسة البذاءة في الفن ليست بحثًا في الذوق، بل في إمكانات المقاومة داخل الخطاب الجمالي. فكل انحراف لغوي عن المعايير المفروضة هو — في لحظات التحولات السياسية — فعل مقاومة يكشف حدود السلطة ويعيد توزيع القوة الرمزية داخل المجتمع.

من المسرح الإغريقي إلى التنظير الحداثي: جذور البذاءة بوصفها نقدًا للسلطة

يبيّن تحليل مسرح أريستوفان _ الذي نشأ في القرن الخامس الميلادي_أن استخدام الألفاظ الجنسية الفجة لم يكن ناتجًا عن رغبة في الإضحاك وحده، بل عن سعي لفضح النفاق الأخلاقي والسياسي عبر تفكيك “هالة الخطاب الرسمي”. فالمحظور اللغوي، حين يُستدعى إلى المسرح، يعمل كـ أداة لكسر احتكار الطبقات الحاكمة لمعنى الأخلاق. بعد ذلك بقرون، وضع ميخائيل باختين إطارًا تنظيريًا لهذا الدور في مقولته حول الكرنفالية، حيث يتعرض النظام الرمزي السائد لانقلاب مؤقت يسمح للخطاب الشعبي بالهيمنة على الفضاء العام. موضحا للجمهور معنى اللحظة التي بمقدورهم فيها ان يسقطوا الملك، بحدّ الضحكة وليس بحد السيف.

ففي الكرنفال:

– يضحك الشعب على السلطان،

– تتلاشى الفواصل بين “المهذب” و”الوقح”،

– وتتحول البذاءة إلى آلية لنزع هالة السلطة.

في هذه اللحظة، يصبح الضحك أكثر ثورية من أي وثيقة سياسية، لأنه يطيح بالخوف — والسخرية تنزع الشرعية من السلطة أكثر مما تفعل المعارضة الرسمية. ويُظهر هذا التحليل أن البذاءة في سياق الكرنفال ليست انحرافًا أخلاقيًا، بل آلية لتفكيك الهرمية السياسية والاجتماعية عبر تعليق الحدود بين “الرفيع” و”الوضيع”. تدعم الدراسات اللاحقة في السخرية السياسية العربية هذا الطرح، مؤكدة أن الهزل — وخصوصًا حين يتضمن انحرافًا لغويًا — يخلق “عالمًا موازيًا” يتخفف من الرقابة ويتيح إمكانات جديدة للتعبير عن الرفض (Badarneh, 2011؛ Elsayed, 2021).

 الأدب والفجور اللغوي: إعادة تشكيل الذائقة وتقويض البنية الأخلاقية الرسمية

يمثل الأدب أحد أهم الحقول التي استخدمت البذاءة لتحدي السلطة الرمزية. رواية د. هـ. لورانس Lady Chatterley’s Lover (1928)   لم تُحاكم لأنها جنسية فقط، بل لأنها فضحت نفاق الأخلاق الطبقية في إنجلترا ما بعد الحرب العالمية الأولى. فالعلاقة بين امرأة من النخبة وخادم من الطبقة العاملة كانت جريمة رمزية تهدم المعمار الاجتماعي. القضاء اعتبر الرواية “بذيئة”، لكن التاريخ اعتبرها — لاحقًا — نقطة تحول في تحرير الجسد من رقابة الدولة. البذاءة هنا كانت تكشف ما تحجبه اللياقة: العطب الحقيقي في المجتمع.  وفي السياق ذاته، تُظهر دراسة أعمال هيلدا هيلست أن المزج بين السامي والوضيع ليس مجرد خيار جمالي، بل تقنية لزعزعة النسق الأخلاقي وإعادة توزيع السلطة داخل اللغة. وقد فسّرت قراءات باختين ومافيسولي هذا التداخل بوصفه آلية تكشف البنية القمعية التي تتخفى خلف اللغة المنقّاة.

في كتابه الوصايا المغدورة، يذهب ميلان كونديرا أبعد من الدفاع عن البذاءة — فهو يراها جزءًا من “حكمة الرواية”، التي تكشف السخافات الكبرى للسلطة من خلال ما يبدو تافهًا أو مبتذلًا. يلمس كونديرا جوهرًا مهمًا حين يؤكد أن  البذاءة ليست خروجًا عن اللغة، بل عودة اللغة إلى حقيقتها الأولى: أن تقول ما يخشاه الجميع.

يتضح من ذلك أن البذاءة في الأدب تؤدي وظيفة مزدوجة: نقد البنية الأخلاقية الرسمية، وفتح المجال لوعي مغاير يتجاوز الحدود التي ترسمها المؤسسات الثقافية والسياسية.

الموسيقى والراب: البذاءة كأرشيف للغضب الاجتماعي ( (NTM  نموذجًا

أشار محمد عباس — مشكورًا — إلى أهمية فرقة الراب الفرنسية Suprême NTM كنموذج لتسيس البذاءة. فالاسم ذاته (Nique Ta Mère) يشكل تصريحًا احتجاجيًا يتجاوز الخطاب الأدبي أو الصحفي، ليعبر عن الغضب البنيوي المتولد من تهميش الضواحي الفرنسية. تُظهر الأدبيات المعنية بثقافة الهيب–هوب أن البذاءة هنا ليست إساءة شخصية، بل لغة احتجاجية تشكّل هوية مشتركة ضد عنف الشرطة، العنصرية المؤسسية، الفقر، واستبعاد الفئات المهمشة من المشاركة السياسية.

في أغنية (شرطة Police)، حوّلت هذه الفرقة الشتيمة إلى وثيقة احتجاج سمعي. وعندما حوكمت المجموعة بسبب كلماتها، تحوّلت المحاكمة إلى اعتراف رسمي بأن اللغة يمكن أن تهدد النظام أكثر مما يهدده العنف المادي. لماذا تهمنا تجربة NTM؟

لأنها تجسّد ما يقوله باختين ومارك ليفين و(سارة عوض)، أن الفن يولد سلطة رمزية موازية، وأن اللغة البذيئة قد تكون الشكل الأوضح لانتزاع الاعتراف بوجود الهامش. وهذا يتقاطع مع دراسات الفن الاحتجاجي في المنطقة العربية (LeVine, 2015؛ Awad et al., 2017)، التي تُظهر أن ثقافة الهامش تنزع إلى استخدام أشكال لغوية “غير مصقولة” بوصفها وسيلة لمخاطبة السلطة مباشرة دون وساطة.

البذاءة في الفنون البصرية والشارعية: تفكيك الهيمنة الرمزية

تكشف البحوث الحديثة في الفن السياسي في شمال إفريقيا وغرب آسيا (2023–2024) أن الفضاءات الفنية غير الرسمية — الشوارع، الجدران، الفضاء الرقمي — أصبحت منصات مركزية لإعادة إنتاج خطاب مقاوم. في فلسطين مثلًا، يوضح Alım (2020)  أن الجداريات تشكل بنية رمزية مضادة تحافظ على الذاكرة وتؤسس لخطاب سياسي موازٍ. وفي مصر، رهنت Elsayed (2021) على أن السخرية الرقمية تمثل “كرنفالًا جديدًا” يتيح لغات هجينة تمزج بين الفحش والتهكم والصورة الرقمية لإنتاج مقاومة يومية. وتشير الكتب الحديثة عن الفن المقاوم (Art Against Authoritarianism in SWANA, 2024؛ الى أن الأنظمة السلطوية تميل إلى معاقبة النكتة أكثر من معاقبة المقال السياسي، لأنها: تنتشر خارج هياكل السيطرة، تُسقط الخوف، وتحوّل الجمهور إلى منتج للمعنى. وبذلك يتحول الفعل الفني البذيء إلى تحدٍّ مباشر للهالة السلطوية.

السياق السوداني: السخرية الشعبية كآلية لإسقاط الهالة السياسية

تُعد تجربة صحيفة حلمنتيش (أواخر ثمانينيات القرن العشرين) واحدة من أبرز الأمثلة السودانية على استخدام السخرية اللاذعة — وأحيانًا البذيئة — بوصفها آلية تفكيك رمزي للسلطة في سياق ديمقراطي هش. وينسب اليها نقل الصحافة السودانية المنضبطة الى البذاءة، في مفارقة مثيرة للتنظيم االإسلاموي الذي كان يتضرع للشعب السوداني بالطهرانية، مزاحما لأحزاب طائفيّة راسخة في القداسة، مشهرا الفن والكاريكاتير كأدوات لنزع القداسة عن منافسيه. وصول حلمنتيش إلى المجال العام لم يكن مجرد دخول صحيفة ساخرة، بل كان تفكيكًا مباغتًا لمنظومة الوقار السياسي التي حكمت المجال العام لعقود. وهو ما ينسجم مع ما تقترحه الأدبيات المتعلقة بالكرنفال الباختيني: أن السخرية — بما فيها من تهكّم وانحراف لغوي — تعمل على تعليق التسلسل الهرمي مؤقتًا، بما يسمح بإعادة توزيع السلطة الرمزية بين “المرموق” و”العادي”. اعتمدت حلمنتيش على هجاء سياسي مباشر، وعلى تفكيك الصورة المثالية للقيادات التقليدية عبر لغة شعبية غير منقّاة.

هذا النوع من الخطاب وفقا للباحثين، لا يقصد الإساءة الشخصية، بل يعمل — وفق تحليل زعزعة الرسميّة المفرطة للخطاب السياسي، كشف التوتر بين “القيمة الأخلاقية” المعلنة والسلوك السياسي العملي، وإعادة سلطة التقييم إلى الجمهور بدلاً من النخب. وفي إحدى اللحظات البالغة الدلالة — التي كثيرًا ما تُذكر في الذاكرة السياسية السودانية — هي قبول الإمام الصادق المهدي كتابة مقدّمة لكتاب احتوى الرسوم الساخرة التي استهدفته. تجسيد لفكرة أساسية في الثقافة الديمقراطية: أن السخرية جزء من المجال العام، وأن الهالة الرمزية للزعيم ليست ملكًا خاصًا، بل خاضعة للفحص الشعبي. هذا السلوك من جانب القيادات يشكّل مواجهة مختلفة تمامًا عن ردود الفعل السلطوية التي غالبًا ما تلاحق السخرية بالعقاب. وفي المفهوم الباختيني، هذه اللحظة تمثل قبول الحاكم بأن يدخل — طوعيًا — في فضاء الكرنفال، أي فضاء التساوي المؤقت بين السلطة والجمهور.

المفارقة التاريخية: عودة السلاح إلى أصحابه

تُظهر التجربة السودانية في ثورة ديسمبر أن الخطاب الساخر البذيء عاد مجددًا، لكن هذه المرة موجَّهًا إلى الحركة الإسلامية نفسها — التي كانت قد استخدمت حلمنتيش في الثمانينيات لتفكيك خصومها. وهذا يعزز فرضية مركزية في هذا البحث:

البذاءة ليست ملكًا لجماعة سياسية، بل ظاهرة لغوية–اجتماعية تتغير وظيفتها بحسب موقعها داخل الحقل السلطوي. فحين تنتقل الجماعة من الهامش إلى السلطة، تتحول البذاءة التي كانت فاعلة في مقاومتها إلى أداة موجَّهة ضدها، لأن الشروط التاريخية التي شَرعنت استخدامها آنذاك تنقلب عليها. وهكذا تُظهر حلمنتيش ما يسميه باختين بـ”قانون انقلاب الخطاب“: فباختين يرى أن الكلمات لا تنتمي لمن نطقها أول مرة، بل هي كيانات حيّة تتغير دلالتها حسب من يقولها، ولمن يقولها، وفي أي ظرف، وبأي نبرة. هذه الحركة المستمرة تجعل الخطاب غير ثابت وقابلًا دائمًا للانقلاب على سياقه الأصلي. الكلمة التي وُلدت خاضعة قد تتحول إلى كلمة متمرّدة، والكلمة التي صُنعت لتمجيد السلطة قد تنقلب فجأة إلى أداة للسخرية منها.

المفارقة التاريخية: السلاح يعود إلى أصحابه

بعد عقود، وفي ثورة ديسمبر، وُجِّه الخطاب البذيء إلى الإسلاميين أنفسهم — الذين سبق أن استخدموا حلمنتيش ضد خصومهم. هذا يؤكّد قانونًا لغويًا–سياسيًا مهمًا: البذاءة لا تظل سلاحًا بيد طرف واحد. حين تتغير موازين السلطة، يتغير اتجاه الشتيمة. فالبذاءة و إن وضعت في بنى تحت قشرة الدماغ في التشريح، ودفعت الى هامش المدينة، ووصمت بالانحطاط والقذارة فستبقى الخصم الناصع في مواجهة السلطة.

تُظهر التجربة السودانية في ثورة ديسمبر، كما وثّقها الخطاب الشعبي، أن البذاءة لم تكن مجرد رد فعل انفعالي، بل استراتيجية رمزية لإزالة الخوف والتحرر. وقد سبق وقدمت في حلقة لي في يوتيوب أيام الثورة تحليلا عن احتفاء الجماهير بعبارة غير لائقة القتها سيّدة ثائرة على الهواء مباشرة في قناة الجزيرة، لم تصدم المذيع وحده والمشاهدين، ولكنها الرصاصة التي خرّبت اللعبة. (يمكنك مشاهدة الحلقة هنا: https://youtu.be/y0CC8jksQxQ?si=P06xNUSxdab_7moz)

فتحت الثورة الباب الخلفي كما قال غوفمان واسقطت الستارة عن مسرحية الأدب المدّعاة. احتشد الاف المتابعين لصفحة ماما و لأنّها دون أن تحصل على شهادة في العلوم السياسية اين يمكن ان تنصع بذاءتها، فلم تصفق للسلطة، ولكنها دون ان تقرأ ماركس انحازت لمظالم طبقتها. وهكذا دمجت ثورة ديسمبر مظالم الشعب وحولت اللغة الصادمة إلى أداة لإعادة تعريف المسموح والممنوع في الخطاب العام، عبر تفكيك الهالة التي بنتها الأنظمة المتعاقبة حول رموزها. هذا يتسق مع ما تقترحه النظريات الحديثة في تحليل الحركات الاجتماعية حول دور اللغة المنحرفة في بناء التضامن وكسر الاحتكار الأخلاقي للخطاب الرسمي.

ختاما:

تكشف المراجعات التاريخية والنظرية والعملية أن البذاءة — حين تُستخدم في سياق جمالي مقصود — تعمل كآلية مقاومة تُعيد توزيع السلطة داخل الفضاء العام. فهي: تكسر احتكار السلطة للخطاب، تفتح المجال لأصوات الهامش، تعيد صياغة الحدود الأخلاقية بطريقة تُنتج معرفة بديلة، وتضمن خلق فضاء نقدي خارج سيطرة الدولة. وهكذا، تتحول البذاءة في الفن من “انحراف لغوي” إلى استراتيجية معرفية وجمالية وسياسية تستعيد بها الجماهير حقها في الكلام. أن البذاءة ليست انحرافًا عن الأخلاق، بل انحرافًا عن السلطة. وأن الفن — حين يقترب من حافة الممنوع — يحرر اللغة من السقف الذي تفرضه الدولة، المجتمع، والدين. الفن ليس مجرد مرآة، بل مطرقة لغوية تعيد تشكيل ما نجرؤ على قوله… وما نخشى قوله.

نواصل..

الوسومد. ناهد محمد الحسن

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: ثورة دیسمبر انحراف ا تفکیک ا التی ت

إقرأ أيضاً:

ما وراء الكواليس!

 

 

مدرين المكتومية

عادةً ما تُتداول كلمة "الكواليس" وهي فرنسية الأصل مقتبسة من لغة المسرح، والتي تعني الأماكن التي يتجهز فيها الممثلون قبل العرض المسرحي ولا يراها الجمهور، وتُستدعى الكلمة للإشارة إلى ما يجري إعداده من جهود لا يراها العامة من النَّاس، وربما تكون خافية عليهم، وهي ليست سلبية بالضرورة، لكن عادةً ما يستخدمها الكثيرون للحديث عن الأمور الخفية في عوالم السياسة والإعلام وغيرها!

وفي خضم التحولات المُتسارعة من حولنا، سواء الناتجة عن تأثيرات عالمية خارجية أو ظروف داخلية وطنية، تقف قطاعات الدولة كافةً أمام مسؤولية كبرى تتمثل في تعزيز جهود التنمية والمبادرات المختلفة والعمل على توسيع نطاق المشاريع الاقتصادية والاستثمارية والتجارية والاجتماعية التي تمس حياة المواطن بشكل مُباشر بحيث يؤثر عليه ويتأثر به.

العمل الحكومي اليوم يمضي على أكثر من مسار؛ بدءًا من تحسين البنية الأساسية إلى دعم القطاعات الواعدة وصولًا إلى خلق بيئة اقتصادية أكثر قدرة على استيعاب الطاقات والطموحات الوطنية المتنامية. وهذه الجهود التي قد لا تظهر للمواطن إلّا أنها تمثل القاعدة الأساسية والصلبة التي يُبنى عليها المستقبل، والتي تُشكل طموح وطن بأكمله، وهو ما يعد أيضًا امتدادًا لرؤية واضحة تهدف إلى الارتقاء بجودة الحياة وتعمل بشكل دائماً لدعم الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي بكافة جوانبه.

لكن كما نعلم أن الجهود الحثيثة والمستمرة لا تقوم على فعل آني عابر، وإنما هي نتيجة عمل تراكمي طويل يرتكز في أساسه على التخطيط والتقييم والعمل على استثمار الطاقات الوطنية القادرة على صياغة مسار تنموي متماسك، خاصةً وأنَّ المشاريع الكبرى لا تولد من قرار واحد؛ بل من منظومة متكاملة تبدأ بوضع السياسات وتستمر بمتابعة تنفيذها، وتقوم على تحديد مكامن القوة والضعف من ثم إعادة توجيه المسار كلما دعت الحاجة إلى ذلك. وهذا يعني أن ما يجري خلف المشهد "ما وراء الكواليس" هو الجانب الأعمق والأثقل في رحلة البناء والتشييد، غير أنَّ كل جهد حكومي وعمل مؤسسي مهما كان ضخمًا لن يكتمل أثره ما لم يصل إلى المواطن بشكل واضح ومقنع، عبر آليات إعلامية وترويجية تواكب الحدث والتطورات المتسارعة.

وبين ما يُنجَز على أرض الواقع وما يشعر به الناس، ثمة فجوة صريحة وواضحة تتسع يجب الاعتراف بها، فكثير من المشاريع مؤثرة بالفعل في حياة المواطن، إلّا أن ضعف عرضها وتقديمها للمجتمع وغياب الخطاب المؤسسي يجعلها تبدو باهتة وبلا جدوى، لأنها لا تملك القدرة على ملامسة هموم المواطن اليومية. والمواطن حين لا يرى انعكاسًا مباشرًا لهذه الجهود على حياته ومعيشته هو وعائلته، وحين تغيب عنه آليات استيضاح سياقها أو فهم أهدافها، فإنَّه يصبح أقل قدرة على تقديرها، وقد يرى أنه "غير معني" أو أن هذه المشاريع ليست له ولا تُلبي احتياجاته؛ بل ويصل بالبعض الأمر اعتقادهم أنهم خارج دائرة الاهتمام، حتى وان كان كل ذلك يتم وينفذ استثمارًا في مستقبله!

وتزداد هذه الفجوة حين تتكالب "مُنغصات الحياة" على المواطن؛ حيث يشعر بضغوط شديدة، اقتصادية واجتماعية، لا يمكنه تخطِّيها أو تجاوزها؛ فالإحباطات الاقتصادية والضغوط المعيشة وتحديات سوق العمل، كلها عوامل قد تجعل الفرد محاصرًا بشعور الخذلان، فيبحث عن جهة يُلقي عليها شعوره السلبي من إخفاق أو تعثر، وغالبا ما تكون الحكومة هي الطرف الأكثر حضورًا أمامه في هذا المشهد، ومع هذا التشابك يغيب التوازن في الحكم على الإنجازات والنجاحات وترتفع في المقابل أصوات العتاب واللوم، وبين هذا وذاك تضيع الرؤية الكاملة بين توقعات متسارعة وواقع مُعقَّد.

وبعد هذا كله.. فإنَّ السؤال الذي يفرض نفسه: ما الذي نحتاجه إذن لردم المسافة الفاصلة بين المواطن والحكومة؟

الإجابة واضحة وبسيطة؛ إذ إن أول خطوة تتمثل في تبنّي خطاب مؤسسي فاعل قادر على مخاطبة الناس بلغة سهلة وبسيطة وواضحة، لغة تستهويه وتعكس تطلعاته، وتُقدَّم من خلالها المعلومة في وقتها، وتُشرح فيها القرارات وأسبابها ونتائجها المتوقعة، بطريقة تشعر المواطن أنه شريك حقيقي في الخطط والاستراتيجيات التي تنفذها الجهات المختلفة. وهذا الخطاب يجب أن يعترف بالتحديات كما يُبرز النجاحات؛ حيث إنَّ غياب هذا الخطاب أحد أبرز أسباب اتساع فجوة الثقة؛ لأنه يحرم المجتمع من فَهم الصورة الكاملة والحقيقية.

وبجانب الخطاب المؤسسي، ثمَّة خطوة ثانية من خلال تعزيز الشفافية في عرض النتائج والبيانات والمراحل التنفيذية للمشاريع، حتى يشعر المواطن بأنَّه شريك في عملية البناء لا مجرد مُتلقٍ لنتائجها فقط. وثالث هذه الخطوات هو الاقتراب من الواقع اليومي للناس، عبر سياسات أكثر تلامسًا لاحتياجاتهم العملية والشعور بهم بطريقة قريبة جدًا، وإشراكهم في صنع القرار من خلال إيجاد قنوات استماع فعّالة وحقيقية وليست شكلية فقط.

وكما نعلم جميعًا أن بناء الجسور بين الحكومة والمواطن ليست مهمة علاقات عامة، وليست سهلة كذلك، مع اختلاف فئات المجتمع وطبيعتهم وبيئاتهم؛ بل إنها تمثل الأساس لاستدامة أي تنمية؛ فحين يُدرك المواطن ما يجري وراء الكواليس ويثق بأن صوته مسموع ورأيه محل تقدير واهتمام، وأن التحديات مشتركة، يُصبح الطريق نحو تحقيق الحلم أكثر وضوحًا ويُسرًا، وأكثر قدرة على جمع الطرفين في مشروع وطني واحد.

إنها رسالة مفتوحة للجميع، لأن يكون المواطن في صلب الاهتمام والرعاية، ليس فقط من خلال تقديم الخدمات، فهذا واجب أصيل على المؤسسات، ولكن أيضًا عبر سياسات إعلامية صريحة وخطاب مؤسسي شفّاف وملامسة صادقة لمشكلات المواطن، عندئِذٍ ستزداد الصلابة المجتمعية وتكون قادرة على صد التحديات، لا سيما الخارجية منها، بجانب التكاتف والإخلاص في جهود بناء وطننا العزيز الأبيّ.

رابط مختصر

مقالات مشابهة

  • خبير سياسي: مصر الوحيدة التي تواجه المشروع الدولي لتقسيم سوريا وتفكيك الدولة
  • كتلة الوفاء للمقاومة: إسرائيل تريد إبقاء لبنان تحت النار
  • الوفاء للمقاومة: تعيين مدني في لجنة الميكانيزم تنازل غير مبرّ
  • خالد عكاشة: إستراتيجية الأمن القومي الأمريكي مرتبكة وتفتقر للرؤية وتغيب عنها المؤسسي
  • جمال عبد الجواد: إستراتيجية الأمن القومي تعلن أمريكا الباحثة عن مصالحها لا قيادة العالم
  • صندوق الفعاليات الاستثماري يوقع اتفاقية شراكة لترسيخ مكانة المملكة بوصفها وجهة عالمية للترفيه
  • الوجوه المتعددة للبذاءة (2)
  • كاتب أميركي: إستراتيجية ترامب الجديدة للأمن القومي تصدم أوروبا
  • ما وراء الكواليس!