وفي الليلة الظلماء تُفتقد “أنقذوا دارفور”
تاريخ النشر: 14th, December 2023 GMT
وفي الليلة الظلماء تُفتقد “أنقذوا دارفور” (2004) (1-2)
عبد الله علي إبراهيم
قال المحرر في “نيويورك تايمز”، مؤلف كتاب “مدفعيات الصحافة” (عام 1967)، جيمس روستن، إن الخبر ليس خبراً مجرداً إلا في مساقطه بين العالمين، أما في موطن نشأته فهو علم اجتماع. أي إن الخبر يخرج للعالم من صلب كيان اجتماعي وعليه بصمة من علائق هذا الكيان.
ولا أعرف مثل الأكاديمي اليوغندي محمود ممداني من طرق هذه التفرقة بين الخبر وعلم اجتماعه في كتابه “منقِذون ومنقَذون: دارفور، السياسة، والحرب على الإرهاب” (عام 2009). فأخضع نوعية المعرفة بدارفور من وراء نشاط منظمة “أنقذوا دارفور” الأميركية، التي خرجت في 2004 للتضامن مع دارفور في نكبتها الأولى، لاختبار المفارقة بين الخبر في منشئه والخبر في مساقطه في العالمين. وستجده أصاب كثيراً.
نبدأ بحصر ما نهضت به المنظمة من نشاطات حسب رصد ممداني لها.
كانت حملة “أنقذوا دارفور” التي عبأتها المنظمة من أنجح الحملات الأميركية الجماهيرية للوقفة مع قضية عامة بعد الحملة المناوئة لحرب فيتنام. فأجادت المنظمة فن التحشيد للقضية. فأنشأت موقعاً على الإنترنت. وعبأت من موارد سخية الإعلان في الصحف والتلفزيون ولوحات الإعلان. ووظفت البطاقات البريدية تدعو لـ”مليون صوت لدارفور”. ووزعت ملصقات صفراء عليها الأرقام من واحد إلى 400 ألف، والرقم الأخير هو إحصائية لمن قتلوا في دارفور. وجعلت يوماً من أبريل (نيسان) عام 2006 يوماً عالمياً لدارفور تجمع حشده في حدائق “سنترال بارك” بنيويورك مطالباً بتدخل الأمم المتحدة في الإقليم السوداني. وتكرر إعلان ملء صفحة على “نيويورك تايمز” يدعو إلى التدخل الدولي لمنع المقتلة في دارفور، ورخص للمتدخلين إطلاق الرصاص والقضاء على المتسببين في محرقة دارفور في سياق مطلب المنظمة بأن يفرض مجلس الأمن عدم تحليق الطيران من فوق سماء دارفور، وأن يعين “الناتو” بعثة الاتحاد الأفريقي في السودان لفرض ذلك الحظر. بل كانت دعوة المنظمة بوجه حرب أميركا في العراق التي وقعت في ذلك الوقت نفسه “اتركوا العراق، ولتطأ أحذية الجند دارفور”. وحين فرض الرئيس جورج بوش الابن المقاطعة على السودان لم يتفق ذلك لـ”أنقذوا دارفور” وقالت إنه ليس قليلاً فحسب، بل تأخر كثيراً أيضاً.
ووجدت “أنقذوا دارفور” إقبالاً وسط الطلاب. وكانت بدأت تلك التعبئة في أوساطهم باجتماع بمتحف الهولوكوست بواشنطن مع نفر منهم في سبتمبر (أيلول) 2004 سرت منه الطاقة في سائر الجسد الطلابي حتى أنهم كونوا منظمتهم المستقلة لإنقاذ دارفور في جامعة هارفرد في 2005 لتمتد إلى 26 جامعة أخرى، ولتبني 600 فرع لها. كما انبثقت من همة “أنقذوا دارفور” منظمة تخصصت في مقاطعة الشركات دون الاستثمار في السودان. وتقاطر عليها النجوم من الفنانين. فتبرعت أنجلينا جولي وبراد بيت بمليون دولار لجمعيات أعمال خير في دارفور. وأنشأ كل من جورج كلوني وبراد بيت ومات ديمون جمعية تدعو إلى المبادرة لوقف المذابح في دارفور باسم “ليس خلال نبطشيتنا”. وزار كلوني ووالده دارفور وعاد كلوني ليتحدث عن زيارته لأوبرا وينفري. بل ودعت أميركا كلوني ليخاطب الأمم المتحدة عن محنة دارفور. وبفضل قوة الحملة على الرأي العام جعل الكونغرس الأميركي يومي 16 و17 من يوليو (تموز) 2005 نهاية وطنية للأسبوع للصلاة لأجل دارفور والتأمل في محنتها.
ورشحت حملة “أنقذوا دارفور” على الصين التي كانت قد ارتكبت لوقتها فظائعها في التيبت. فارتبطت المنظمة بقضية التيبت إفحاماً للصين التي كانت نظمت دورة لأولمبياد الشتاء في 2006. وتبرع من أثر الحملة أحد نجوم الأولمبياد الأميركيين بجائزة نالها للاجئين من دارفور. وسمت النجمة ماي فرو، التي زارت دارفور، أولمبياد الشتاء بأولمبياد المحرقة. وتلاشت الحملة ضد الصين لوقفتها القوية عند أن ما جرى في التيبت شأن داخلي لا شأن لغيرها به.
إذا أردت اليوم، ودارفور في هذا العسر من أمرها، أن ترى ما تراها منظمة “أنقذوا دارفور” فاعلة معها وجدت موقعها لا يزال على الشبكة، ولكنه، في قول أهله، غير مفعل. فبينما بقي علم اجتماع محنة دارفور بشرورها جميعاً كما رأينا في هذه الحرب الآثمة فيها تبدد الخبر. وهذا علم اجتماع آخر عمن أضربوا هذه المرة عن إنقاذ دارفور.
ونواصل
حشد لأنقذوا دارفور بالسنترال بارك نيويورك 7 ديسمبر 2007
وفي الليلة الظلماء تُفتقد “أنقذوا دارفور” (2004) (2-2)
عبد الله علي إبراهيم
“إذا أردت اليوم، ودارفور في هذا العسر من أمرها، أن ترى ما تراها منظمة “أنقذوا دارفور” فاعلة معها وجدت موقعها لا يزال على الشبكة، ولكنه، في قول أهله، غير مفعل”.
قال المحرر في “نيويورك تايمز”، مؤلف كتاب “مدفعيات الصحافة” (عام 1967)، جيمس روستن، إن الخبر ليس خبراً مجرداً إلا في مساقطه بين العالمين، أما في موطن نشأته فهو علم اجتماع. أي إن الخبر يخرج للعالم من صلب كيان اجتماعي وعليه بصمة من علائق هذا الكيان. ولكن تنسلخ هذه السياقات عنه حيث بلغ المسامع ويستبدل بها ربما أخرى من علم اجتماع من تلقوه من الوسائط.
ولا أعرف مثل الأكاديمي اليوغندي محمود ممداني من طرق هذه التفرقة بين الخبر وعلم اجتماعه في كتابه “منقِذون ومنقَذون: دارفور، السياسة، والحرب على الإرهاب” (عام 2009). فأخضع نوعية المعرفة بدارفور من وراء نشاط منظمة “أنقذوا دارفور” الأميركية، التي خرجت في 2004 للتضامن مع دارفور في نكبتها الأولى، لاختبار المفارقة بين الخبر في منشئه والخبر في مساقطه في العالمين. وستجده أصاب كثيراً.
جاء ممداني في كتابه إلى مسألة دارفور بقريب مما رأينا روستون يفعل. فرأى مثله بعد البون ما بين الواقعة في موطنها ومساقط خبرها بين العالمين. فكانت واقعة دارفور، حيث انتهت إلى منظمة “أنقذوا دارفور” هي عن صراع استئصالي يقوم به الجنجويد العرب، مدعومين بنظام إسلامي عروبي، على الجماعات الأفريقية، الزرقة في المصطلح المحلي، بينما كان رأي محمداني أنه، حيث وقع، نزاع بين بين مالكي الحاكورة (تملك جماعة ما أرضاً حصرياً عليها) ومن لا يملكونها بغض النظر عن الأعراق. فمن ملكوا الحواكير في دارفور أفارقة وعرب سواء. وبين من خلت يدهم عنها عرب وأفارقة كذلك. والصراع بوجه آخر نزاع على الموارد بين الرعاة والمزارعين صدف أن كانت غالبية الرعاة من العرب وإن لم تخل قائمتهم من الأفارقة.
ولا تختلف الصحافية والسينمائية جولي فلنت عن ممداني في كتابها اللاحق لكتابه “الحرب الأخرى: حروب العرب البينية في دارفور” (عام 2010). فأهم ما خرجت به في كتابها أن العرب، الذين ارتكبوا الجرائم في حق أفارقة دارفور خدمة لنظام “الإنقاذ” حتى اتهموا بـ”التطهير الإثني”، كانوا في الأثناء قاتل بعضهم بعضاً طويلاً وبضراوة ودموية. وزادت بأن وقائع “داحس وغبراء” العرب تلك تخلفت في مواطنها، ولم تبلغ أسماع أهل الخبر عبر المحيطات، أو أنهم أسقطوها عمداً حتى لا تعكر صفاء الصراع محض بين العرب والأفارقة. وهو الصراع الذي كان من وراء استثارة المنظمة للحملة أول أمرها في قول ممداني. فغاية “أنقذوا دارفور”، في قوله، هي “تعريب” العنف في سياق الحملات ضد الإرهاب، والعرب موئله، القائمة على قدم وساق. فحملة إسعاف دارفور في أشرق جوانبها، في قوله، هي رومانس مدفوع برغبة في إشباع إنسانية مروعة عجلى لعلاج لمشكلة مؤرقة للضمير، أما في أسوأ حالاتها فهي نشاط متقن مدجج بالصحافة مصمم لتوزير العرب كجماعة مزهوة سكرى بعرقها مصممة على استئصال الأفارقة عن بكرة أبيهم.
وأخذ ممداني على “أنقذوا دارفور” مطابقة تضامنهم مع أفارقة دارفور مع التضامن الذي سبق لهم مع قضية أفارقة جنوب السودان. وهذا إبعاد في النجعة. فبينما ربما صح القول إن المواجهة في الجنوب كانت بين دولة مركزية سيطر عليها عرب مسلمون، إلا أن الصراع في دارفور خلا من هذا الصفاء كما تقدم. فهو بين عرب وعرب، وعرب وأفارقة، وأفارقة وأفارقة، ناهيك بأنه لم تكن لعرب دارفور وقتها شوكة عرب المركز الحاكم في الخرطوم. علاوة على أن حرب الجنوب كانت “تمرداً” ضد الدولة بينما دارفور حرب أهلية بين المزارعين المستقرين والرعاة عائدة إلى سنوات آخر الثمانينيات.
ويرى ممداني أن الخبر عن دارفور، الذي سماه “أثر السي أن أن” غطى على سياقه حيث وقع. فنشطاء “أنقذوا دارفور” جمعوا، في قوله، بين نهج يستحقر المعرفة عما هم بصدد التضامن معه إلى تذرع بأنه يكفيهم حسن المقصد في نشاطهم العملي لمثل هذا التضامن. ويستغشون بثيابهم دون العلم بحقائق القضية التي نهضوا للتضامن معها لأن العلم الوثيق بها مما يعقد السردية بتفاصيل متكاثرة تغطي على الجراح النازفة في مثل محنة دارفور. وفي المقابل فهم يعتمدون على الدليل الذي يرونه بالعين المجردة ويتحاشون التطرق إلى سياق ما يرونه محاشاة العمى. فالصور لجراح دارفور النازفة والمقابلات مع من تصادف من الضحايا هي التي تتحدث إليهم دون غيرها مما فتح حركتهم جمعاء لما سماه “أثر السي أن أن”، أي تغلب الخبر على ما عداه، كما تقدم. فنشطاء “أنقذوا دارفور” نشأوا على الثقة في الصورة فوق ما عداها، وإن كان لا بد من السؤال عن محتواها، فلهذا وقته لاحقاً. وصفوة الأمر أنهم يجردون خبر دارفور و”بورنوغرافي العنف” في أرجائها من السياق. فهم كمن يستعيض بالوثوق الأخلاقي عن المعرفة الوثقى بعلم اجتماع خبره.
وقال ممداني إنه درج على أنه، ما طرأت له مسألة مثل دارفور (وسبق أن كتب عن الاستئصال العرقي في رواندا)، حتى تحرى شجرة نسبها ليعرف من أي سياق خرجت للوجود: كيف يعيننا هذا السياق في تغبيش معرفتنا بها، أو في فض مغاليقها. وقال إن هذا ما ساقه بمر الزمن إلى أن تتخذ مباحثه الطابع التاريخي لأن التاريخ سياق لا مهرب منه لفهم الواقعة حيث وقعت.
ويبدو أن الخبر سحابة صيف سرعان ما تنقشع. فإذا أردت اليوم، ودارفور في هذا العسر من أمرها، أن ترى ما تراها منظمة “أنقذوا دارفور” فاعلة معها وجدت موقعها لا يزال على الشبكة، ولكنه، في قول أهله، غير مفعل. فبينما بقيت الواقعة تبدد الخبر. وهذا علم اجتماع آخر عمن أضربوا هذه المرة عن إنقاذ دارفور.
كتبت مرة عن بشاعة استتابة العلماء لتلاميذ الأستاذ محمود محمد طه أنه لا بد أن سبحانه وتعالي يقيم في عالم غادره هؤلاء العلماء إلى الفسوق. وهذا مشهد من الجنينة في عتامير تلاشى عنها الرب.
المصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: علم اجتماع بین الخبر دارفور فی فی دارفور الخبر فی فی قول
إقرأ أيضاً:
الغارديان: زهران ممداني يُطلق زلزالا سياسيا في نيويورك
نشرت صحيفة "الغارديان" تقريرًا يتناول النجاح الانتخابي المفاجئ والمزلزل لزهران ممداني، الاشتراكي الديمقراطي الشاب الذي هزم المؤسسة الديمقراطية التقليدية في نيويورك، أكبر مدينة في الولايات المتحدة.
وأفادت الصحيفة، في تقريرها الذي ترجمتها "عربي 21"، أن النجاح الانتخابي المفاجئ لزهران ممداني، الاشتراكي الديمقراطي البالغ من العمر 33 سنة والمرشح لمنصب عمدة مدينة نيويورك، أبرز مدينة في العالم، يُعد زلزالًا سياسيًا. فلم تتنبأ به أي استطلاعات، ولا أي محللين، ولا حتى "الحكماء" التقليديون. وستمتد تداعيات هذا الانقلاب السياسي لسنوات، ليس فقط في أنحاء الولايات المتحدة، بل في العالم المتقدم بأسره.
وأوضحت الصحيفة أن فوز زهران ممداني الساحق كشف انهيار مؤسسة الحزب الديمقراطي، التي واجهت ولاية ترامب الأولى بالمقاومة الخطابية، ثم تراجعت لاحقًا بمواقف مهادنة، مرجعة تراجع شعبية الحزب إلى نفور قاعدته الانتخابية، خاصة بعد رضوخ زعيم الأغلبية تشاك شومر أمام ترامب في تمرير قانون إنفاق مثير للجدل، ما مثّل القطيعة الأولى بين الحزب وادعائه مقاومة ترامب.
وقالت الصحيفة إن الولايات المتحدة تشهد غضبًا واسعًا من القيادة السياسية في كلا الحزبين، وسط تدهور اقتصادي غير مسبوق. ويتجلى ذلك بوضوح في نيويورك؛ حيث أبرم العمدة الديمقراطي المعتدل إريك آدامز صفقة تضمن عدم محاكمته في قضايا فساد مقابل تطبيق سياسات ترامب، رغم أن الأخير لا يتمتع بدعم سياسي يُذكر في المدينة.
وأشارت الصحيفة إلى أن ممداني برز في مشهد سياسي باتت فيه المدن الأمريكية الكبرى تشهد تنافسًا بين الديمقراطيين الوسطيين وجناحهم التقدمي، في ظل نظام انتخابي لا يعترف إلا بحزبين رسميين، وتُعد نيويورك معقلًا تاريخيًا لليسار الاشتراكي في الولايات المتحدة.
وأضافت الصحيفة أن ممداني يعد من نتاج الاشتراكيين الديمقراطيين في أمريكا، وهي أكبر منظمة اشتراكية في الولايات المتحدة منذ قرن، وأحد الشباب الذين ألهمتهم حملة بيرني ساندرز سنة 2016. ومع أن أغلبهم كانوا في سن مبكرة حينها، إلا أنهم ظلوا متمسكين بالاشتراكية، وتطوّروا سياسيًا مع مرور الوقت.
وذكرت الصحيفة أن ممداني انخرط في منظمة الاشتراكيين الديمقراطيين في أمريكا منذ شبابه، واكتسب خبرته من قيادة الحملات داخلها. وبعد أن بنى التنظيم في نيويورك قاعدة قوية، فاز بعضوية الجمعية التشريعية سنة 2020. ويرى ممداني أن الاشتراكية الديمقراطية تعني الانخراط في تنظيم ديمقراطي يمثل المجتمع العمالي، لا مجرد هوية أو مبادئ.
ويرتبط ممداني ارتباطًا وثيقًا بمنظمة الاشتراكيين الديمقراطيين، في تجسيد لنهج سياسي يرى أن التنظيمات تمثل طبقات متصارعة، ولكي تفوز لطبقتك، يجب أن تكون ممثلًا لديمقراطية الطبقة العاملة.
وقالت الصحيفة إن ممداني حقق فوزه اللافت من خلال الدمج بين تكتيكات حديثة وتقليدية؛ إذ قدّم حملة مبتكرة على وسائل التواصل الاجتماعي ركزت على الأصالة، واعتمد في الوقت نفسه على سياسة الشتات الشعبي؛ حيث خاطب مجتمعات نيويورك المتنوعة بلغاتها، وبنى تحالفًا بين اليسار التقدمي والطبقة العاملة متعددة الأعراق.
كيف فاز ممداني بالدعم؟
وأوضحت الصحيفة أنه بينما تقدم ممداني في استطلاعات الرأي بتنظيم شعبي مستمر، تعرض لهجمات متصاعدة من رأس المال والقوى الحاكمة، وبلغ إنفاقها الخارجي 25 مليون دولار. لقد ركزوا على اتهام معاداة السامية، وهو اتهام فعّال في الإطاحة بقادة اليسار مثل جيريمي كوربين. إن هذا الاتهام يثير قلق أي شخص يساري وذو ضمير، ولهذا كان استخدامه زائفًا وهجومًا خبيثًا يستهدف كسر اليسار. لكن في هذه الانتخابات، جاءت هذه التشويهات التي لا أساس لها بنتائج عكسية.
وأرجعت الصحيفة السبب إلى الإفراط في توجيه الاتهامات بدون دليل؛ حيث لا يصدق أن ديمقراطيين اجتماعيين متعاطفين في بيئة حضرية علمانية هم منظمون لمجازر أو جهاديون، رغم الحملات الإسلاموفوبية ضد خلفية ممداني.
والسبب الثاني هو الظروف الواقعية؛ حيث أن معظم اتهامات معاداة السامية على اليسار ترتكز على موقف من إسرائيل وليس على كراهية فعلية. مع استمرار إسرائيل في سياساتها القمعية وتوطيدها لعلاقات مع اليمين المتطرف الأمريكي، تحول دعم الناخبين الديمقراطيين في الولايات المتحدة بسرعة لصالح الفلسطينيين بنسبة تقارب ثلاثة إلى واحد، مما أضعف تأثير هذه الاتهامات في الانتخابات التمهيدية.
وأوضحت الصحيفة أن ممداني يمثل استمرارًا لتقاليد اليسار اليهودي في الولايات المتحدة، فلطالما كانت نيويورك موطنًا لأقوى يسار اشتراكي في الولايات المتحدة، وكانت الجالية اليهودية هي قاعدة الحزب الاشتراكي الأمريكي أو حزب العمال الأمريكي، وقد صوّت اليهود في نيويورك بمئات الآلاف للاشتراكيين لعقود. ويعد ممداني وريثًا لتقاليد الاشتراكيين والنقابات العمالية التي بنت نيويورك، ويظهر ذلك جليًا في عضوية الاشتراكيين الديمقراطيين الأمريكيين وموظفي حملته الانتخابية.
لقد اكتسب ممداني الدعم بإعادته للطبقية كقضية محورية في السياسة، على عكس بيرني ساندرز الذي رغم إثارته للاستقطاب الطبقي، فشل في كسب دعم الناخبين السود، واعتمد هو والاشتراكيون الديمقراطيون على رضا الطبقة المتوسطة العليا التقدمية، مما أخضعهم لمصالحها، وظل الاستقطاب الطبقي عصيًا على الحل رغم سنوات من العمل اليساري.
وأشارت الصحيفة إلى أن ممداني لم يحقق إنجازات تُذكر مقارنةً بمرشحي اليسار السابقين في المناطق التقدمية المهنية، لكنه حطم الحاجز العنصري الذي قسّم الطبقة العاملة، رغم أن أحدًا لم يتوقع ذلك قبل تدفق الأصوات. ورغم أن قاعدته ستكون بالتأكيد من المهنيين البيض ذوي التوجهات التنازلية، إلا أن رسالته الواضحة وحملته المبتكرة أعادتا السياسة الطبقية الحقيقية التي بدت خرافة في العصر الحديث.
ووفقًا لصحيفة نيويورك تايمز، كان أداء ممداني مع الناخبين الملونين أفضل من الناخبين البيض، ورغم أنه خسر أصوات التقدميين الموثوق بهم بين الليبراليين، إلا أنه ربح أضعاف تلك الأصوات بين الناخبين من الطبقة العاملة من الملونين الذين لم ينظروا إلى المرشحين اليساريين من قبل، وبهذا يكون قد عكس ما يقرب من 30 عامًا من نظريات العلوم السياسية المعادية للمادية.
اليسار يتنصل
قد يبدو هذا الأمر محصورًا في مدينة نيويورك، معقل التقدميين في ولاية ذات أغلبية ديمقراطية، ولكنه يُشير إلى مسارٍ مُستقبلي لليسار ولمناصري العدالة الاجتماعية والسياسات التحررية. لقد كانت أكثر المكاسب الصادمة هي تلك التي حققها دونالد ترامب في عام 2024 بين الناخبين الشباب، خاصة بين الرجال والناخبين اللاتينيين والآسيويين، وهذه هذه هي التركيبة السكانية التي دعمت ممداني.
لطالما تنصل اليسار من مسؤوليته في محاربة اليمين المتطرف تاركًا الأمر للوسط، لكن الوسط فشل وضحى بهذه التركيبة السكانية لترامب ولم يستطع استعادتها أبدًا، لكن اليسار الراديكالي استطاع فعل ذلك من خلال رسالة اقتصادية مستهدفة ومعادية للمؤسسة. لقد نجحت حملة ممداني من خلال ذلك في مناهضة الفاشية بنشاط وبطريقة حقيقية، من خلال استعادة المستهدفين من اليمين إلى اليسار.
وأكدت الصحيفة أن اليسار بحاجة إلى دراسة هذه الانتخابات الصادمة وتدوين ملاحظات دقيقة؛ لقد كان ممداني نتاج تنظيم حقيقي وعضوي للطبقة العاملة في الاشتراكيين الديمقراطيين الأمريكيين، ذلك النوع من التنظيم الذي يندثر في البلاد منذ نصف قرن، ويتجاهله معظم الناس.
في سنة 2017، قال مايكل كينوكان، أحد منظمي الاشتراكيين الديمقراطيين في أمريكا والفيلسوف: "لقد أصبحت الثقافة المدنية في الولايات المتحدة مجوفة للغاية على المستوى الشعبي لدرجة أنه إذا استطاعت مؤسستك جمع 40 إلى 50 شخصًا ملتزمًا في غرفة واحدة، فمن المحتمل أنك تدير واحدة من أقوى خمس أو ست منظمات شعبية محتملة في مدينتك".
واختتمت الصحيفة بالتأكيد على أن هذه الفكرة كانت أساسيةً بالنسبة للاشتراكيين الديمقراطيين الأمريكيين، وخاصةً في مدينة نيويورك، وشكّلت شخصية ممداني، رغم أنها بدت ضربًا من الخيال بالنسبة للكثيرين. لذا، إذا أراد اليسار هزيمة اليمين فعليه أن يتعلم من ممداني والاشتراكيين الديمقراطيين الأمريكيين، هذا أمرٌ لا يمكن للكيانات الجوفاء للحزبين الديمقراطي والجمهوري هزيمته أبدًا.
وفي نفس السياق، نشرت صحيفة "ذا نيشن" الأمريكية تقريرًا بعنوان "فشل حملة التشهير ضد ممداني.. تحول لافت في السياسة الأمريكية"، قالت فيه إن ممداني أثار صدمة بفوزه الساحق على أندرو كومو في الانتخابات التمهيدية لعمدة نيويورك، مخالفًا توقعات المحللين واستطلاعات الرأي. ويُتوقع أن يجعله هذا الانتصار شخصية بارزة في اليسار الأمريكي، ويثير اهتمامًا واسعًا بأسلوبه المختلف عن تقاليد الحملات الديمقراطية.
كان ذلك واضحًا بشكل خاص في موقفه من قضية إسرائيل وفلسطين، إذ إن محاولات كومو ووسائل الإعلام الموالية للمؤسسة الحاكمة لتأجيج المخاوف من مواقف ممداني قد فشلت، وهو ما يُعد جرس إنذار بشأن مدى تغيّر القاعدة الانتخابية للحزب الديمقراطي.
لقد تركزت حملة ممداني في المقام الأول على تكاليف المعيشة مثل الإيجارات والنقل، لكن كومو بذل جهدًا كبيرًا لتحويلها إلى استفتاء على آراء ممداني بشأن إسرائيل وفلسطين، وقد انساقت وسائل الإعلام التقليدية وراء هذا الطرح.
ممداني وإسرائيل
وتابعت الصحيفة أن ممداني واجه في كل ظهور إعلامي ومناظرة أسئلة متكررة حول إسرائيل، رغم أن مواقفه كانت معروفة، إذ وصف إسرائيل بأنها تمارس الفصل العنصري والإبادة وأيّد المقاطعة. وقد هيمنت القضية على النقاشات، وسط افتراض بأن نيويورك سترفض مرشحًا مؤيدًا لفلسطين.
وفي أول مناظرة له، كان الوحيد الذي رفض التعهد بزيارة إسرائيل، ما دفع المنظمين لسؤاله فقط عن "حق إسرائيل في الوجود كدولة يهودية"، دون توجيه سؤال مماثل لأي مرشح آخر، أو حتى طرح حق فلسطين في الوجود، ولم يسأل أحد أندرو كومو عن سبب انضمامه إلى الفريق القانوني لنتنياهو الذي يحاول منع مثوله أمام المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي.
إن حقيقة أن المرشح المسلم الوحيد لمنصب العمدة تم استهدافه بسبب آرائه حول قضية فلسطين وإسرائيل، تعكس مدى التحيز الذي لا يزال موجودا في البيئة السياسية الأمريكية تجاه العرب والجنوب آسيويين، وكل من يحاول الوقوف إلى جانب فلسطين.
وأفادت الصحيفة أن ممداني كان مستعدًا بإجابة مثالية. حين طرح عليه المُحاور سؤالًا يحمل نوايا سيئة، أجاب: "أعتقد أن لإسرائيل الحق في الوجود كدولة يتمتع فيها الجميع بحقوق متساوية... أعتقد أن كل الدول يجب أن تقوم على المساواة في الحقوق". وبدلاً من أن يرضخ للفرضية التي يطرحها السؤال، والتي تفترض أن من حق أي دولة أن تتبنى طابعًا قانونيًا وسياسيًا قائمًا على التمييز العرقي، استند ممداني إلى مفهوم الحرية والحقوق العالمية للجميع.
وقد لاقى هذا الخطاب صدى واسعًا لدى الأمريكيين، وخصوصًا الشباب والملونين، الذين يرون ما يعنيه ما تفعله إسرائيل بالفلسطينيين، ويتذكرون نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، والجنوب الأمريكي في عهد قوانين "جيم كرو".
وبالمثل، عندما سأله تيم ميلر على منصة _"_ذا بولورك" عمّا إذا كان مرتاحًا لاستخدام عبارات مثل "عولمة الانتفاضة" أو "من النهر إلى البحر"، لم يتردد ممداني أو يتراجع عن دعمه لتحرير فلسطين، بل شرح بهدوء وجهة نظره بشأن نضال الفلسطينيين من أجل الحرية.
وأوضحت الصحيفة أن ممداني أظهر انضباطًا واضحًا في تواصله طوال الحملة، ما عزز نجاحه. لكنه لم ينجح فقط برسائله السياسية، بل لأنه أدرك، خلافًا لمهاجميه، أن تشويه المرشحين بسبب دعمهم لفلسطين لم يعد فعالًا كما كان، خاصة داخل الحزب الديمقراطي.
وتتزايد الأدلة التي تؤكد هذا التوجه، فقد أظهر استطلاع أجرته جامعة كوينيبياك في وقت سابق من الشهر الجاري أن التعاطف مع الإسرائيليين وصل إلى "أدنى مستوى له على الإطلاق"، في مقابل "أعلى مستوى من التعاطف مع الفلسطينيين" منذ كانون الأول/ ديسمبر 2001. وعلى عكس ما قد يرغب به البعض في التيار المؤيد لإسرائيل، فذلك بسبب كراهية الناس للإبادة الجماعية.
وكشف استطلاع أجرته جامعة ماريلاند في مارس/ آذار الماضي أن 56 بالمائة من الناخبين الديمقراطيين يعتقدون أن إسرائيل ارتكبت جرائم حرب في غزة، فيما يرى 44 بالمائة أن ممارسات إسرائيل تشكل إبادة جماعية أو شيئًا قريبًا منها. ولعل اللافت في النتائج أن النظرة السلبية تجاه إسرائيل تزايدت بين الديمقراطيين في جميع الفئات العمرية دون استثناء.
ووفقًا لمركز بيو للأبحاث، فإن 71 بالمائة من الديمقراطيين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و49 عاما لديهم نظرة سلبية عن إسرائيل في 2025، وكذلك 66 بالمائة من الديمقراطيين ممن يبلغون 50 عاما أو أكثر.
وشددت الصحيفة على أن دعم القضية الفلسطينية لم يعد عبئًا على الناخبين الليبراليين في الولايات المتحدة. ولم يكن رفض ممداني التنازل عن هذا الدعم مجرد موقف مبدئي وأخلاقي فحسب، بل كان أيضًا خيارا سياسيًا ذكيًا، يتماشى مع مشهد إعلامي وسياسي جديد لم يتمكن خصومه من إدراكه.
رغم ذلك، سيكون من الخطأ القول إن ممداني فاز في التصويت بسبب مواقفه القوية المؤيدة لفلسطين؛ حيث يحمل خصمه كومو سجلا سيئا للغاية: اتهامات بسوء السلوك الجنسي وسوء الإدارة في مجال الصحة العامة والعنصرية واللامبالاة تجاه المدينة، فالشهرة وحدها لا تكفي للفوز بالسباق، خاصة إذا كان اسمك مرتبطًا بهذه الأمور.
وذكرت الصحيفة أن ممداني أدار حملة استثنائية ركزت على أزمة تكاليف المعيشة وبنبرة متفائلة، وشكّل تحالفًا واسعًا ضد كومو، بدعم بارز من التقدمي اليهودي براد لاندر. ورغم أن مواقفه من إسرائيل لم تكن العامل الحاسم، فقد حاول كومو ونيويورك تايمز تحويل الحملة إلى استفتاء على آرائه "الراديكالية" بشأنها.
ورغم اتهام اليسار بجعل فلسطين اختبارًا أيديولوجيًا للترشح للمناصب، لكن الأشهر الماضية أثبتت وجود إجماع مؤيد لإسرائيل يفرض دعم الوضع القائم. لكن هذا لم ينجح مع ممداني، الذي لم تتأثر فرصه، مما يؤكد أن دعم فلسطين لم يعد عائقًا كبيرًا لدى ناخبي الحزب الديمقراطي.
وأضافت الصحيفة أن مخاوف المؤسسة الحاكمة مبررة؛ فعمدة نيويورك لن يحسم السياسة الخارجية، لكن من المهم أن تقود أكبر مدينة تضم أكبر تجمع يهودي عالميًا شخصية تؤمن بالحرية وتقرير المصير للفلسطينيين واليهود على حد سواء.
واختتمت الصحيفة بالقول إن من المهم، مع تغيّر المزاج العام داخل الحزب الديمقراطي وخارجه لصالح الفلسطينيين، أن يُعبّر سياسي مثل ممداني عن هذا التحوّل. ورغم نجاح محاولات قمع هذا التوجه في السابق، من المرجح أن العقدين المقبلين سيشهدان صعود شخصيات شبيهة بممداني أكثر من أمثال سكوب جاكسون، وعاجلًا أم آجلًا، سيتعين على سياسات الحزب الديمقراطي تجاه فلسطين أن تنسجم مع هذا الواقع.