الشهيد سامر أبو دقة وكاميرته المقاومة بامتياز
تاريخ النشر: 27th, December 2023 GMT
لعلّ البؤرة الأهمّ والمذهلة والملهمة والمشرقة- فيما سمعناه عن شخصية الشاهد بحق على القضيّة، والشهيد بجدارة في صراع المخرز والكفّ سامر أبو دقّة- هي اختياره المكان الملتهب بالقصف والدمار- المكان الذي تنتشر فيه رائحة الموت والرعب الملتحم بالنار والدم- على مكان آمن ومستقر، تتوفّر فيه كل سبل العيش الرغيد والسّعيد المسمّى بلجيكا.
الحسابات الذاتية الخاصّة والرغبات الشخصيّة الراتعة بكلّ ملذّات هذه الحياة تختار الخيار الثاني، ولكن لا شيء يعدل حبّ الوطن، كما قال شوقي، غلبت كفّة الوطن عند سامر وزاغ عن قلبه كلّ شيء سوى ذلك.
حالة التفاني هذه لم تكن عادية أو شعارًا نظريًا يقال في الرخاء، ويختفي في وقت الشدّة، وإنما كانت الثبات بقناعة راسخة رسوخ الجبال، والتعبير عنها بتطبيقات عملية على محكّ صعب، بل في أقسى درجات الصعوبة، وهذا ما ترجمه من خلال الكاميرا المقاوِمة، الكاميرا التي يسخّرها صاحبها أعظم تسخير، ويجعل منها أداة من أهم أدوات المقاومة.
كان لكاميرا سامر نصيب كبير في هذا الفضح لحقيقة الاستعمار، فساهمت مساهمة عظيمة في اكتمال الصورة، ورفع كلّ حجب الزيف والادعاء عنها، لذلك أغاظ أعداء الحقّ
سامر ردّ على الأراجيف الصهيونيّة بقدرته العالية على التقاط الصورة المعبّرة عن واقع الحال، والمتضمّنة رسالة وروح القضيّة المحقّة العادلة، والقادرة على مواجهة ظلمات روايتهم المنكَرة الباطلة، بصورة احترافية، ومن عمق الهولوكوست الصهيونية التي نُصبت للشعب الفلسطيني، من هناك تخرج الصورة لسامر فتضيء سماء الكون، ولتضرب جحافل المعتدين، وتخلخل أسسهم الضيّقة.
جاء السابع من أكتوبر بعزّة مفعمة بكلّ المشاعر النبيلة والإرادة المنتصرة، وبروح قوية عالية، بعنفوان الحق في مراغمة الباطل، والقدرة على تحقيق الكرامة الوطنية الخالدة، فشقّ طريقه لقلوب الأحرار، ليسكن هناك في أعماقها.
انتابت الناس نشوة عزيزة سامية وحلّقت بهم في علّيين بالسماوات السبع، وكان لا بدّ من الكاميرا الحيّة التي تلتقط هذا المشهد العظيم، ثم تكالبت الدنيا على هذا النبض العالي بحرب ضروس لا تبقي ولا تذر.
جاءت أميركا بقضّها وقضيضها، ومن يلف لفّها من دول استعمارية غاشمة، مارست الاستعمار وما زالت تمارسه بطرق ملتوية ناعمة تارة، وخشنة تارة أخرى بما يقتضيه الحال والمآل، وقفت الكاميرا لترسم هذا الوجه القبيح، ولتزيل عنه كل الزيف والادعاء.
وكان لكاميرا سامر نصيب كبير في هذا الفضح لحقيقة الاستعمار، فساهمت مساهمة عظيمة في اكتمال الصورة، ورفع كلّ حجب الزيف والادعاء عنها. لذلك أغاظ أعداء الحقّ فكان لهم أن يستبيحوا دمه، وأن يجعلوه ينزف قطرةً قطرةً، تحوّل من صرامة المادّة إلى نقاوة الروح وطهر السماء، أصبح نورًا يسري في كلّ نور، وروحًا تدخل أرواحنا بسلاسة وجمال ودون استئذان.
ولا بدّ هنا من التنويه بأنّ قيام الجيش الإسرائيلي باغتيال الصحفي المصوّر في قناة الجزيرة، فإنه يرتكب جريمة مركّبة؛ أي عدة جرائم في جريمة واحدة:
أوّلًا: القتل عن سبق الإصرار والترصد؛ كونه فلسطينيًا مدنيًّا، وهم بعدوانهم هذا- فيما لا يقبل مجالًا للشكّ- يتعمّدون قتل المدنيين. ثانيًا: كونه صحفيًا يلبس علامات بارزة تظهر مهنته بكل وضوح، وفي ذلك ما فيه من مخالفة قوانين عالمية واضحة في حماية الصحفيين. ثالثًا: تركه ينزف دون إسعاف ما يزيد على خمس ساعات. رابعًا: استهداف وتعمد الدور الذي يقوم به؛ حيث إنّ إسرائيل تعتبر نشر صور الجريمة التي تقوم بها يعزّز صورتها المتوحّشة أمام العالم، وبالتالي يصبح سامر هدفًا مشروعًا للقضاء على هذه الصورة، خاصة أنه يعمل لصالح شبكة الجزيرة التي تتميّز بهذا الدور، وبطريقة احترافية عالية. خامسًا: إصرار الاحتلال على هذا النهج القاتل لصوت وصورة المأساة الفلسطينية، وما يقوم به من جرائم لا حدود لها في الكمّ والنوع، ودرجات الساديّة والتوحّش، وخير مثال قتله شيرين أبوعاقلة، ولامبالاته بالفضيحة المدوّية وحجم الإدانة الهائل لهذه الجريمة النكراء على المستوى العالمي.لذلك ولغيره، يجب أن يفهم العالم أنّ سامر وغيره من الشهداء ليسوا أرقامًا بل هم بشر لهم حياة كاملة الأركان، كما لبقية البشر، ولهم أسرة وأبناء ينتظرونهم كلّ يوم وكلّ مساء.
ولقد رأينا أبناءه وهم يغنّون بأرقى الألحان الإنسانية النبيلة، ويعبّرون عن لوعة الفراق وشوق اللقاء، وقد رأيناهم بعد الشهادة، وقد تقطّعت بهم السبل، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، لم تسع الأرض أحزانهم واحتاجت إلى سعة السماء، لولا يقين برحمة ربّ غفور، لما استطاعت هذه القلوب المكلومة أن تحمل أثقال هذه الأحزان.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: ة التی
إقرأ أيضاً:
الكيمياء تكشف عن أول علاج بالبخور في الجزيرة العربية قبل 2700 سنة
في واحة نائية شمال غرب المملكة العربية السعودية، وبينما كان فريق من الباحثين ينقب عن آثار حضارة قديمة، لم يتوقع أحد أن تقودهم حفريات صغيرة إلى اكتشاف مذهل يعيد كتابة تاريخ الطب الشعبي في المنطقة.
حيث كشفت دراسة جديدة عن أول دليل موثق على استخدام نبات "الحرمل"، المعروف علميا باسم "بيجانوم هارمالا"، كبخور علاجي ونفسي قبل نحو 2700 عام، أي في العصر الحديدي، لتصبح هذه هي أقدم ممارسة معروفة من نوعها في العالم.
هذا الاكتشاف، الذي نشر في 23 مايو/أيار في مجلة "كوميونيكيشن بيولوجي"، نتج عن تعاون مشترك بين معهد ماكس بلانك لعلوم الإنسان القديم بألمانيا، وجامعة فيينا بالنمسا، وهيئة التراث السعودية.
تقول قائدة فريق البحث باربرا هوبر -الباحثة المشاركة في علم الكيمياء الآثارية، في معهد ماكس بلانك لدراسة الجيو-أنثروبولوجي- إن الحفريات عثر عليها في موقع مستوطنة قديمة (واحة القرية) تقع في شمال غرب السعودية، وتعرف حاليا بأوانيها المزخرفة التي أطلق عليها علماء الآثار اسم "فخار قرية المصبوغ".
وعثر داخل هذه الأواني على بقايا عضوية دقيقة، فقرر الباحثون فحصها باستخدام تقنية تحليل متطورة تعرف "بالكروماتوغرافيا السائلة عالية الأداء مع مطياف الكتلة الترادفية"، وهي تقنية قادرة على اكتشاف المركبات النباتية حتى في أضعف العينات.
وكانت النتيجة مفاجئة، إذ إن المركبات الكيميائية التي تم اكتشافها تعود لنبات "الحرمل"، المعروف في الطب الشعبي بخصائصه المطهرة، والمضادة للبكتيريا، والمسببة لتأثيرات نفسية عند استنشاقه كبخور.
إعلانوتوضح هوبر في تصريحات للجزيرة نت: "أظهرت تحليلاتنا أن هذه هي أقدم حالة موثقة لاستخدام نبات الحرمل كبخور في الجزيرة العربية، بل في العالم بأسره. هذا ليس مجرد اكتشاف أثري، بل نافذة حقيقية على معارف القدماء بعلم النباتات، وكيف استخدموا الطبيعة لعلاج أنفسهم وتنقية أرواحهم".
لا يزال الحرمل يستخدم حتى اليوم في بعض المناطق العربية، سواء في الطب الشعبي أو في طقوس تبخير البيوت، ربما لمنع الحسد، أو لتطهير المكان. ويشير هذا الاكتشاف إلى أن تلك الممارسات ليست جديدة، بل تمتد جذورها إلى آلاف السنين.
توضح الباحثة أن دمج التحليل الكيميائي مع علم الآثار سمح بفهم أعمق للثقافات القديمة، إذ إن المعتاد ألا تبقى آثار مثل هذه الممارسات محفوظة، لكن باستخدام تقنيات التحليل الجزيئي تمكن الفريق البحثي من معرفة ليس فقط نوع النبات، بل كيفية استخدامه ومتى ولماذا. هذه المعلومات تعطينا لمحة حقيقية عن الحياة اليومية في العصور القديمة.
يعتقد المؤلفون أن مثل هذه الاكتشافات لا تحافظ فقط على قطع أثرية، بل تعيد إحياء تراث ثقافي غير مادي، وتربط بين المعارف القديمة والممارسات التي ما زال الناس في المنطقة يمارسونها حتى اليوم. كما يفتح هذا الاكتشاف بابا واسعا أمام الباحثين في مجالات متعددة، مثل الأنثروبولوجيا، وعلم الأدوية، والتاريخ الثقافي. فهو لا يكشف فقط عن استخدام نبات معين، بل عن منظومة متكاملة من المعرفة والمعتقدات المرتبطة بالنباتات والروح والصحة.