نقوش على جِدار الحرب السودانية (١)

إن سؤال الفلسفة الإجتماعية المُعاصرة المُهِم، هو ليس، لماذا جرى؟ أو، كيف جرى؟ و لكن هو، ماذا جرى، في الواقع اليومي المعيش.

و للإجابة على سؤال، ما؟ أو ماذا؟ في الحرب السودانية، ينبغى علينا النفاذ إلى الواقع مباشرة، و توصيفه كما هو، كتسلسل أحداث زمنية، كل من زاويته، و معايشته اليومية، لدفتر يوميات الحرب.

في مساء يوم ١٣ أبريل ٢٠٢٣م، و أنا أستعد لتناول إفطار رمضان، مع شقيقي، في مدينة هايدلبيرج الألمانية، تلقيت إتصالاً هاتفياً من الوالدة، حفظها الله، تطالبني فيه بعدم القدوم غداً إلى السودان، فِي إجازتي السنوية، لأن الحرب على وشك الإندلاع، بعد نفاز مهلة الإنسحاب من مطار مروى، و التى طالب بها الجيش السوداني، و حددها في يومين.

رغماً عن ذلك، جعلني هذا التحزير الأُسري، أكثر إصراراً للإقلاع إلى السودان، عصر اليوم التالى، لأقوم بإنقاذ الأسرة، و إخراجها مِن العاصمة، الخرطوم.

عندما قام الجيش السوداني، بإعطاء الدعم السريع مُهلة اليومين، فهذا يعني ضِمناً، أنه في حال عدم إنسحاب الدعم السريع مِن قاعدة مروي، فإن الجيش سيهاجِمه، بإعتباره قوة مُتمردة، و يُرغمه على الإنسحاب مِن مروي بالقوة يوم ١٤ أبريل، و إلا، فماذا تعني مهلة اليومين؟ إذا لم يعقبها عِقاب ! و لكن الحرب إندلعت في المدينة الرياضية، يوم ١٥ أبريل، في اليوم الثالث لمهلة الجيش.

يوم ١٤ أبريل ٢٠٢٣م، توجهت و أنا صائم، إلى مطار فرانكفورت الدولي، و كنت أتوقع إندلاع الحرب السودانية، في أي لحظة، فِي الطريق إلى المطار، و قبل إقلاع الطائرة الأولى مِن هناك.

داخل الطائرة الثانية، مِن مطار إسطانبول، تناولت إفطار رمضان، فوق سماء البحر الأبيض المتوسط، حسب توقيت جمهورية ألمانيا الإتحادية.

عند خروجنا مِن مطار الخرطوم، حوالي الساعة ١٢ مساء، يوم ١٤ أبريل، كانت هناك سيارة بيضاء دوبل قابينة بدون لوحات، مصطفة بطريقة خاطئة، و تغلق منفذ خروج سيارة الأسرة، و كان هذا مؤشر على أن التواجد الأمني في مطار الخرطوم في تلك الليلة، كان لا بأس به.

توجهنا إلى المنزل، في منطقة الأزهري، و خلدت إلى النوم في تمام الساعة الثالثة صباحاً، لتوقظني الوالدة في تمام الساعة التاسعة و النصف صباحاً، و أنا صائم، على وقع أصوات المدافع القوية، القادمة من المدينة الرياضية القريبة.

توجهنا مباشرة، إلى شاشة التلفاز، و تقليب القنوات الفضائية، لنشهد التدشين الرسمي للحرب، و تدمير مطار الخرطوم الدولي، في الساعة الأولى مِن الحرب السودانية.

يا له مِن حظ عاسر ! حرب تندلع بعد تسعة ساعات فقط مِن وصولي إلى السودان، و قد بدا لى منذ ساعتها الأولى، أنها حرب العشرة أعوام، و لن تكون حرب سريعة خاطفة، كما كان يُروج لها، لأن منطِق الحروب التي حولنا فِي المنطقة، يقول ذلك.

في تلك اللحظات العصيبة، تزكرت أبيات زهير بن أبي سلمي، في وصف، و في زم الحرب عموماً، و حرب داحس و الغبراء خصوصاً، التي حدثت بين أبناء العمومة، قبيلتي عبث و زبيان، و التي قُتل فيها عنترة بن شداد، و إنتهت فِي النهاية بالصلح و دفع الديات:

وَمَا الحَـرْبُ إِلاَّ مَا عَلِمْتُمْ وَذُقْتُـمُ وَمَا هُـوَ عَنْهَا بِالحَـدِيثِ المُرَجَّـمِ
مَتَـى تَبْعَـثُوهَا تَبْعَـثُوهَا ذَمِيْمَـةً وَتَضْـرَ إِذَا ضَرَّيْتُمُـوهَا فَتَضْـرَمِ
فَتَعْـرُكُكُمْ عَرْكَ الرَّحَى بِثِفَالِهَـا وَتَلْقَـحْ كِشَـافاً ثُمَّ تُنْتَجْ فَتُتْئِـمِ

إلى أن وصل إلى:
وأَعْلـَمُ مَا فِي الْيَوْمِ وَالأَمْسِ قَبْلَـهُ وَلكِنَّنِـي عَنْ عِلْمِ مَا فِي غَدٍ عَـمِ
رأَيْتُ المَنَايَا خَبْطَ عَشْوَاءَ مَنْ تُصِبْ تُمِـتْهُ وَمَنْ تُخْطِىء يُعَمَّـرْ فَيَهْـرَمِ

كان زهير بن أبي سلمى، مِن ضِمن كِرام العرب الأربعة أو الثلاثة، الذين توسطوا لإنها حرب داحس و الغبراء، بين قبيلتي عبس و زبيان، و قاموا بدفع الديات.

مَرَّت علي، ذِكري عيد ميلادي، فِي عمر النبوة، يوم ٢٠ أبريل، و أنا أستخدم الساتر الأرضي داخل المنزل، بين الحين و الآخر، عندما تهتز الشبابيك و الأبواب، على أنغام القصف الجوي للجيش، و أزيز الطائرات الحربية، و موسيقى المضادات الأرضية للدعم السريع.

لم أكن خائفاً مِن الحرب على المستوى الشخصي، فقد سبق لي العمل كطبيب في إقليم دارفور، خلال سنوات الحرب هناك، و لكنه الخوف على من معي، مِن الأسرة، و فيهم مرضى، في ظِل التعتيم و التضليل الإعلامي، و غِياب المعلومة و الشفافية، و عدم توفر الأدوية و المواد الغذائية، و إنتهاك للقانون الإنساني الدولي.

كما أنها ليست حربي، و لا احمل فيها سلاحاً، و لم أُستشار بها و فيها، قبل إندلاعها، و لا أعلم لماذا إندلعت، فِي هذا التوقيت العجيب، و لكنه مُتوقع، و لا يهمني الإجابة على سؤال لماذا إندلعت ! لذلك قررت إعتزال الخوض المُباشِر فِي الحرب، منذ ساعاتها الأولى، و تعاملت معها بفقه الفتنة، و المراء الظاهر، بحيث لا أُزكي نيرانها، طالما أنني لم أستطع إطفائها.

جلسنا محاصرين، و صائمين، فِي منطقة الأزهري، حتى فجر العيد، يوم ٢١ أبريل ٢٠٢٣م، عندما إشتد علينا القصف الجوي، و إهتزت بنا الأرض، و ضاقت بما رحبت، فقررنا الخروج مِن مدينة الأزهري إلي منطقة شمال الجزيرة، حيث البيت الكبير، و الجذور الإجتماعية المُمتدة.

و ياله مِن حظ عاسر أيضاً، لقد سقط معسكر الباقير في اليوم الذي سبقه، و الآن كل الدبابات محروقة قرب شارع مدني، و يتصاعد مِنها الدخان الأسود، و بعض القتلى المدنيين داخل سياراتهم الخاصة، هنا و هناك.

أخترنا طريقاً ترابياً وعراً، لتفادي قوات الدعم السريع، و الإنتهاكات التي كنا نسمع عنها، و لكننا كنا نجد إرتكازاتهم في كل مكان، و لم يتعرضوا لنا بأذى، أو سؤ.

كانت المعلومات شحيحة للغاية، و السؤال عن الممرات الآمنة، يتم عن طريق مكالمات الهاتف، مع الأقارب، و الممر الآمن قد يصبح غير آمن، في أقل مِن نِصف ساعة.

إختفت جميع مؤسسات الدولة، و وزارتي الداخلية و الإعلام على وجه الخصوص، و لم يكن هناك أحد ليقوم بإرشاد المواطنين المعرضين للخطر، او يشرح لهم ماذا يحدث، أو إلى أين يذهبوا ! بإستثناء خطاب مقتضب فجر العيد، لرئيس مجلس السيادة، يتحدث فيه عن ظروف عصيبة، و منعطف تأريخي للدولة السودانية، على ما أذكر.

حتي الحرب الروسية، فِي أوكرانيا، لم تكن بمثل هذه الوحشية، و الضبابية، فقد سمح المتحاربون هناك، للمدنيين الأوكران، بالخروج مِن العاصمة كييف، عبر ممر آمن واحد، نحو المناطق الغربية.

لكن الحرب السودانية، ذات التكلفة الإنسانية العالية، لم تُحترم فيها أبسط قواعد الإشتباك، و لا حتى بنود القانون الإنساني الدولي، و تم فيها خرق جميع المعاهدات الدولية، و المجتمع الدولي يتفرج، و غير مبالي بِنا، فنحن عبارة عن شعب منسي، فِي دولة إفريقية، و لا وجيع له.

عند ترعة الباقير، أخبرنا ظابط الدعم السريع، أنا هناك إشتباك أسفل الطريق الترابي، و ينبغى علينا الإلتفاف، و المرور عبر طريق مدني الأسفلتي.

كان هناك إشتباك عنيف بين قوات الدعم السريع، و قوات الجيش القادمة مِن حامية الدمازين، و التى تعرضت لكمين مُدمِر، في منطقة الجديد الثورة، جعلها تتقهقر و تنسحب في مساء يوم ٢١ أبريل ٢٠٢٣م إلى منطقة الكاملين، و ترتب على ذلك، سقوط منطقة جياد الصناعية في نفس اليوم، و إستباحة مخازنها، و نهبها.

لقد شهدنا تِلك المعركة على الهواء مباشرة، بل كنا داخل سياراتنا المُتحركة، في وسط النيران الكثيفة، بين الطرفين المُتحاربين، و لكن كِلا الطرفين، على يمين الطريق الأسفلتي، لم يكونا يستهدفان السيارات المدنية العابرة بسرعة شديدة.

كان الجيش السوداني، الذى بدا يعاني بشدة مِن ضعف الإستطلاع، يستخدم ذات تكتيك المربع الإنجليزي الكلاسيكي، و كان الدعم السريع يستخدم إسلوب الإلتفاف مِن الأطراف، و يتجنب مركز النيران الكثيفة للجيش.

القوة الصلبة للجيش فِي تلك المعركة، كانت أكبر مِن حجم قوة الدعم السريع، و لكن الدعم السريع إنتصر فِي النهاية، لخفة الحركة، و سهولة المراوغة، و لتهور فِرق الاستطلاع المُتقدمة له، فقد كانت قواته تقف فوق التُرع المُرتفعة، بينما كان عساكر الجيش ملقيين على بطونهم فِي الأرض، و ظباطه نصف واقفين، داخل المُربع الإنجليزي.

في الأيام التالية، كان الإعلام الحكومي الرسمي، عبر القنوات الفضائية، ينفي سقوط مدينة جياد الصناعية، و كُنا نرى سيارات جياد الجديدة، و التوكتوكات، تنهب مِن قِبل مواطنين الكنابي، و تُدفع بأكياسها و هي خالية مِن البنزين، و كانت دبابات و مدرعات الجيش المحروقة، هنا و هناك.

في أوقات الحروب، أول مَن يُقتل هو الحقيقة المُجردة، فِي ظِل تجازبات المواقف السياسية، و فِي ظِل الدعاية الحربية، و الدعاية الحربية المضادة، و لكن المدنيين دائماً ما يحتاجوا إلى المعلومة الصحيحة، و الحقيقة العارية، لينجوا بأنفسهم، و هذه معادلة صعبة، لأن الحقيقة قد تؤدي إلى خفض الروح المعنوية للمُقاتلين فِي الميدان.

و ياله مِن حظ عاثر أيضاً ! فمنطقة شمال الجزيرة التي نزحنا إليها مِن جحيم حرب الخرطوم، أصبحت هي أيضاً تحت سيطرة الدعم السريع، فِي نفس اليوم، و تم قطع طريق النزوح جنوباً، عبر شارع مدني، فقررنا بعد ثلاثة أيام، العودة إلى منطقة الأزهري، و مِن ثم التوجه شمالاً إلى حلفا.

في طريق العودة إلى الأزهري، تعرضنا للتفتيش و التحقيق، مرتين، في منطقة المجاهدين، و كان عساكر الدعم السريع يبحثون عن ظباط الجيش و الأسلحة المخفية بشراهة عالية، و لكنهم عندما لا يجدوا شيئاً يقوموا بالإعتذار، و يقولوا لنا أن هذا مِن الإجراءات الروتينة.

يوم ٢٦ أبريل ٢٠٢٣م، توجها إلى مدينة حلفا، مِن شارع الستين، و مِن ثم إلى جمهورية مصر العربية.

كانت مدينة الخرطوم بحري، فِي اليوم الحادي عشر للحرب، مدينة أشباح محروقة، و تحت السيطرة الكاملة لقوات الدعم السريع.

حجم الخراب و الدمار داخل الخرطوم بحري، في أحد عشر يوماً فقط، كان أكثر مِن حجم الدمار في الحرب السورية، بعد نحو عشرة أعوام.

عبرت مسافة ألف كلم بالبص، إلى مدينة حلفا، و مكثت بها إثنى عشر يوماً كنازح، و قطعت مسافة ألف كلم أخرى بالبص، إلى مدينة القاهرة المصرية، لكي أجد مطار دولى، أعود به إلى مدينة فرانكفورت، و مِن ثم إلى عملي كطبيب، فِي جمهورية ألمانيا الإتحادية.

[email protected]  

المصدر: سودانايل