القاهرة- "د.ب.أ": تدلنا المصادر التاريخية والمؤلفات التي وضعها علماء الآثار، وحتى تلك التي وضعها علماء الاجتماع الغربيين، على أن الآثار المصرية كانت ولا زالت تمثل صفحة مهمة في تاريخ الفكر الأوروبي بل والعالمي.

ونجد ذلك ثابتاً بوضوح في كتاب "أوروبا والآثار المصرية"، لمؤلفه بيتر فرانس، وهو الكتاب الذي تُبيّن لنا فصوله وصفحاته أثر الحضارة المصرية في أوروبا – حتى في عصر التنوير – فكراً وفناً وديناً.

وعلى مدار قرون مضت بقيت مصر مركز جذب للمستكشفين وعلماء الآثار، والفنانين والرحّالة والمؤرخين، فقد كانت مصر بحسب قول "بيتر فرانس" تعني كل شيء لكل شخص حسب تفكيره، حيث وجد فيها كل هؤلاء مصدراً يستلهمون منه نظرياتهم ومؤلفاتهم ونصوصهم الأدبية ولوحاتهم الفنية، إضافة إلى دراسة واستكشاف آثار أحد أعظم الحضارات الإنسانية في التاريخ.

وهكذا كانت مصر وحضارتها وآثارها موضوعا مهما لدى الكثير من الغربيين، الذين كان من بينهم الإيطالي "كارلو ريوا ردا" الذي اهتم بدراسة الأسرات المصرية القديمة وأهم أعمال فراعنتها، وقدم ذلك بطريقة جذابة في كتابه الذي حمل عنوان "التاريخ المصوّر لمصر القديمة"، والذي ترجمته ابتسام محمد عبدالمجيد، وراجعه وقدّم له الدكتور محمود ماهر طه، وصدر ضمن "مصريات" التي تصدرها الهيئة المصرية العامة للكتاب.

وتحدثنا صفحات هذا الكتاب، عن تطوّر مصر القديمة في فترة زمنية تقارب 3500 عام، تعاقبت خلالها ثلاثون أسرة، وحوالي 150 حاكمًا منهم الشهير ومنهم دون ذلك، لدرجة أن التاريخ لا يكاد يذكر أسماء بعضهم.

ويرى "كارلو ريوا ردا" في مقدمة كتابه، أن هناك العديد من المشاكل المتعلقة بالتعاقب الزمني التي تعترض كل من يهتم بروعة وجاذبية الأحداث على أرض وادي النيل، وخاصة إن لم يكن دارسًا لعلم المصريات؛ حيث إن هذه الأحداث قد انتهت وقائعها عام ٣٩٥ ميلادية، أي منذ أكثر من ألف وستمائة عام.

وأقد كانت صياغة تسلسل زمني دقيق لملوك مصر الذين حكموا البلاد، وإعداد تاريخ موثوق به من أصعب مهام علماء المصريات.

وينؤّه "كارلو ريوا ردا"، إلى أنه كان يهدف من كتابه "التاريخ المصوّر لمصر القديمة"، إلى إعادة صياغة تاريخ مصر القديمة وفقاً للنظام التقليدي، ومن ثم فقد زوّد كتابه بقائمة بأسماء الحكام والأحداث، والأشخاص، والأماكن الأثرية، والمعارك الحربية، وأهم الاكتشافات التي تنتمي إلى كل هذه المنظومة التصورية حتى نصل في النهاية إلى التسلسل الزمني الصحيح لتلك الحقبة.

ويتضح لنا من مطالعة فصول وصفحات الكتاب، أن صور الأواني والقلائد والتوابيت والعربات الحربية تتيح لنا متابعة تطور المجتمع المصري، وكذلك الحال بالنسبة لوصف التماثيل والأهرام والمعابد الكبيرة التي تساعد على فهم أعمق للعلاقة الوطيدة التي تربط الفن بالدين والفرعون بالآلهة والمجتمع المدني بحكم الكهنة.

وتدلنا صفحات الكتاب، أن الكاهن المصري "مانيتون" الذي عاش في عصر الحكام البطالمة الأوائل (۳۲۳ ٢٤٠ قبل الميلاد)، أعدّ قائمة لم يصل إلينا منها إلا مختصر لأعمال المؤرخين مثل "جوليوس الأفريقي" (القرن الثالث الميلادي)، و"إيزبيو" (القرن الرابع الميلادي)، وذلك باستثناء بعض الخطوات التي انتهجها المؤرخ "يوسيفوس فلافيو" (عام ٧٠ ميلادية).

كما تدلنا أن "مانيتون" قسّم تاريخ مصر القديمة إلى واحد وثلاثين أسرة بدأت ـ بعد حكم الآلهة - بحكم "مينا"، وانتهت بحكم "الإسكندر الأكبر" الذي احتل البلاد عام ۳۳۲ قبل الميلاد.

وبحسب نصوص الكتاب، فقد هذا التسلسل الذي اتبعه الكاهن المصرى "مانيتون"، العديد من الأخطاء والأسماء المغلوطة والأحداث غير المتطابقة مع فترات الحكم.

واعتبر مؤلف كتاب "التاريخ المصوّر لمصر القديمة"، أن هناك معيناً لا ينضب لدراسة التاريخ المصرى القديم جاء إلينا من النقوش التي على جدران المعابد والمقابر، ومن القوائم الملكية التي أعدها المصريون القدماء أنفسهم.

ورأى أن "القائمة الملكية"، أو بردية الملوك" التي طالعها بالمتحف المصري في مدينة تورينو الإيطالية، تُعد إحدى أهم الوثائق التي يعتد بها لهذا الغرض.

وأضاف بأن هذه الوثيقة التي تعود إلى عصر الملك رمسيس الثاني، قام بدراستها عالم المصريات آلان جاردنر الذي اشترك مع هوارد كارتر في ترجمة النصوص الموجودة على جدران مقبرة الفرعون الذهبي الملك توت عنخ أمون، وقد سار على نهج قائمة " الكاهن المصري "مانيتون"، وبدأ يحكم الآلهة الذي أعقبه حكم الملك "مينا" مؤسس الملكية المصرية القديمة، ثم أتبعها بأحد عشر عمودًا لنص يحمل أسماء الحكام الذين حكموا مصر حتى الأسرة السابعة عشرة (حوالي ١٥٨٠ قبل الميلاد).

كما اشتهرت بعض الوثائق المهمة مثل اللوحة الأولى والثانية في أبيدوس، المحفورة على جدران معبد الملك سيتي الأول، وهي تمثل الملك وهو بصحبة ابنه "رمسيس"، وداخل الخراطيش تمت كتابة أسماء ستة وسبعين ملكًا حكموا البلاد منذ الملك "مينا" وحتى قبل ولاية سيني الأول.

ونتعرف من فصول الكتاب على أن "قائمة الكرنك" التي تعود إلى عصر الملك تحتمس الثالث، ونقشت على أحد جدران مجمع المعابد الكبير في منطقة الكرنك الأثرية الشهيرة الواقعة في البر الغربي بمدينة الأقصر التاريخية في صعيد مصر، تحمل أسماء 64 حاكمًا منذ الأسرة الرابعة ولكن دون الالتزام بنظام تاريخي دقيق. بينما يحتوي "حجر بالرمو" على قائمة بأسماء ملوك عصر ما قبل الأسرات والملوك من الأسرة الأولى حتى الأسرة الخامسة.

وبحسب صفحات الكتاب، فقد وجد على أحد جدران مقبرة الكاتب تذري الذي عاصر فترة حكم الملك رمسيس الثاني، أسماء 58 ملكا.

ويلفت "كارلو ريوا ردا" في كتابه "التاريخ المصوّر لمصر القديمة"، إلى أن الصعوبات التي ارتبطت بإعادة بناء وإعادة صياغة التاريخ المصرى القديم، وتتابع الحُكّام ارتبطت أيضًا بعامل آخر على قدر كبير من الأهمية، ألا وهو: أن ملوك مصر من الأسرة الأولى حتى الأسرة الرابعة عند توليهم العرش، آنذاك، كانوا يحملون أربعة أسماء أصبحت خمسة فيما بعد بداية من الأسرة الخامسة.

كما يقول إنه بما أنه لم تستخدم كل هذه الأسماء في وقت واحد، وبما أن بعضها جرى استخدامها لأكثر من حاكم: فإن هذه القوائم تفتقر الكثير من الدقة إن لم يكن بالنسبة لحكام الدولة الحديثة، فعلى أقل تقدير بالنسبة للحكام الذين تركوا وثائق متباينة تؤكد عدم دقتها.

وقد ختم المؤلف كتابه بقائمة بأسماء جميع الملوك الذين حكموا مصر.

وقد جاء كتاب "التاريخ المصوّر لمصر القديمة"، لمؤلفه الإيطالي "كارلو ريوا ردا"، ليؤكد الولع الأوروبي بالحضارة المصرية القديمة، والهوس الغربي بآثار الفراعنة وتاريخ ملوكهم، وما حققوه من ريادة في شتى العلوم والفنون والآداب.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: المصریة القدیمة مصر القدیمة فی کتاب

إقرأ أيضاً:

حين يتكلم البسطاء... هل للأنثروبولوجيا ما تقوله عن الثورات؟ كتاب يجيب

الكتاب: عندما يثور البسطاء: مقاربات أنثروبولوجية للثورات السياسية
المؤلف: بيورن توماسون
المترجم: خالد عثمان الفيل
تقديم: د عبد الغفار محمد أحمد
دار النشر: مركز نهوض للدراسات والبحوث الكويت لبنان.. 2024
عدد الصفحات: 128


استأثرت الثورات السياسية باهتمامات بحثية مكثفة من حقول متعددة، لاسيما التاريخ، وعلم الاجتماع، وعلم السياسة.  فعلم التاريخ، على سبيل المثال، يعنى بتقديم مادة كثيفة عن وقائع الفعل الثوري، وتجلياته الظاهرة عبر العصور، كما يعنى ببحث تأثير العوامل الاقتصادية والاجتماعية في الفعل الثوري، بينما يحاول كل من علم الاجتماع وعلم السياسة التنظير للثورات السياسية، وتفسير بواعثها وشروطها الموضوعية، وذلك بالإفادة مما يقدمه علم التاريخ من معطيات تخص وقائع الفعل الثوري.

لكن الملاحظ أنه على الرغم من كثافة الثورات السياسية التي عرفها العالم في الخمسين سنة الماضية، وذلك في أقطار مختلفة، ومن التغييرات الأساسية التي حدثت في بنية المجتمعات ونظمهم الثقافية، فإن علم الانثروبولوجيا لم يكن له حظ واسع في التعاطي مع موضوع الثورات السياسية، ولم يبدأ الاهتمام به إلا في العقود الثلاثة المتأخرة، إذ لم تطرد الممارسة البحثية الأنثروبولوجية في دراسة الفعل الثوري بالشكل الذي تعاطت به العلوم الثلاثة (التاريخ، علم الاجتماع، علم السياسة) هذه الظاهرة بالرصد والتفسير والتنظير.

الكثيرون حاولوا أن يقدموا تفسيرا لضعف إسهام علم الأنثروبولوجيا في دراسة الثورات السياسية، وأرجعوا الأمر إلى عدم التناسب بين طبيعة علم الأثنروبولوجيا الذي يدرس الظاهرة الثقافية في امتدادها الزمني، وبين طبيعة الثورات التي تتسم بالفجائية والعفوية وأحيانا عدم القابلية للتوقع وتمس البنية السياسية.

والحقيقة أن الإسهامات الأنثروبولوجية التي حاولت الاقتراب من موضوع الثورات السياسية في العقود الثلاثة الماضية، والتراكم الذي بدأ يتحقق من خلال تعدد المقاربات، واجتراح المفاهيم الجديدة، ومحاولة تطويرها، فضلا عن البحث عن نماذج تفسيرية، يجعل من التفسير السابق مجرد حجة متجاوزة، إذ ما الذي يبرر تقدم البحث الانثروبولوجي في موضوع الثورات السياسية إن كانت الطبيعة لم تختلف، سواء بالنسبة لموضوع علم الأنثروبولوجيا ورهاناته المنهجية، أو بالنسبة للثورات السياسية.

الثورات السياسية تحدث عادة في المجتمعات الكبيرة والمعقدة، والتي يوجد بها نظام سياسي أكبر لا بد من الإطاحة به، ويوجد بها كذلك درجة معينة من التمايز المؤسسي، وشيء من مفهوم المساءلة والشفافية السياسية. فالثورات في نظر المؤلف لا تحدث في جزر كيريوينا. ويشير المؤلف أنه لم تقع انعطافة الأنثروبولوجيين لدراسة هذا النوع من المجتمعات المعقدة والمركبة ودراسة "الدول" إلا في ثلاثينيات القرن العشرين مع أعمال روبرت ريدفيلد.يمثل هذا الكتاب:" عندما يثور البسطاء: مقاربات أنثروبولوجية للثورات السياسية" مرافعة معرفية قوية حاول فيها مؤلفه بيورن توماسون أن يفسر أسباب تأخر علم الأنثروبولوجيا في التعاطي مع الثورات السياسية، والمداخل التي اجترحها علماء هذا الحقل لتقديم إسهامهم في تفسير هذا الثورات السياسية إلى جانب الحقول المعرفية الأخرى، كما اجتهد في تقديم سردية تطورية لأدبيات ومقاربات منظري الأنثروبولوجيا حول الثورات  السياسية، وأهم المفاهيم التي أسسوا لها في دراسة هذا الموضوع،  محاولا بذلك دعم فكرة قدرة علم الأنثروبولوجيا على توقع الثورات، وعلى تقديم إضافة معرفية نوعية في  دراسة الثورات السياسية.

سياق تأليف الكتاب

يعود أصل هذا الكتاب الذي تفضل مركز نهوض للدراسات والبحوث بترجمته، إلى دراسة نشرها مؤلفه بيورن توماسون سنة 2012 بدورية جامعة كامبريدج للدراسات المقارنة في التاريخ والاجتماع بعنون: "ملاحظات حول أنثروبولوجيا العلوم السياسية"،  وقد شغل المؤلف مهمة أستاذ في قسم المجتمع والعولمة بجامعة روسكيلد الدنماركية، وكان رئيسا لقسم العلاقات الدولية في الجامعة الأمريكية بروما، وقد تعددت اهتماماته البحثية، فشملت الدراسات الحضرية والأبعاد الثقافية والسياسية للعولمة، والقومية والدين، وسياسات الهوية والذاكرة، ثم انعطف في مساره البحثي إل دراسة الثورات السياسية من مدخل أنثروبولوجي.

يأتي سياق تأليفه لهذا الكتاب من سؤال شغل باله، يتعلق بتفسير سبب صمت علم الأنثروبولوجيا عن التعاطي مع موضوع الثورات السياسية وسبب عدم وجود إرث أنثروبولوجي في هذا الموضوع، مع وجود كل الموجبات التي تستدعي انخراطه في تقديم إسهامه المعرفي والمنهجي في تجليل هذه الظاهرة. فالعالم على مدى خمسين سنة عاش موجات متعددة من الثورات، أحدثت تغييرات راديكالية ومفاجئة وغير ذات رجعة في المعايير الاجتماعية والأنظمة السياسية والقيم الثقافية، ومع ذلك خلفت الأنثروبولوجيا إرثا مميزا في دراسة المعارضة والمقاومة، ولم تترك وراءها أي إرث معرفي في دراسة الثورات السياسية. يسجل المؤلف في سؤاله المؤرق أن الأنثروبولوجيا ـ في موسوعاتها وقواميسها ـ ليس  فيها أي مدخلات او مصطلحات متعلقة بالثورات السياسية، فالأدبيات الأنثروبولوجية تتحدث عن التغيير الاجتماعي في الفترات التاريخية الطويلة الأمد، وتتحدث عن الثورات المعرفية، التي مست حتى حقل الأنثروبولوجي نفسه، لكنها لا تشير إلى الثورات السياسية، ويسجل أيضا بأن العلوم التي تركت بصماتها في دراسة الثورات السياسية هي علم التاريخ وعلم السياسة وعلم الاجتماع، وأنها طورت في سياق تراكمي أدوات منهجية ناجعة لدراسة هذا الموضوع خلافا للأنثروبولوجيا.

ويلاحظ المؤلف مفارقة مثيرة للدهشة بخصوص تجاهل الأنثروبولوجيا لدراسة الثورات السياسية، فطبيعة الأنثروبولوجي الميال أكثر للوقوف بجانب "الشعوب" و"الناس" على حساب البني المؤسسية، ترك المساحة فارغة لتهيمن عليها العلوم الثلاثة، وتسيطر على منطقة البحث المركزية المتعلقة بالثورات السياسية.

بل إن المفارقة تأخذ أبعادا أخرى حين تكون مادة الثورة الأولى هي البسطاء الذين يشكلون محور التعبئة والتحرك السياسي، وهؤلاء في واقع الأمر يمثلون الاهتمام الرئيس للدراسات الأنثروبولوجية.

على أن الأمر لا يتوقف عند حدود هذه المفارقات المدهشة، بل يتعداه إلى ما هو أبعد من ذلك، فالأنثروبولوجيون كانوا جد متعاطفين مع حركات التحرير الاجتماعي والسياسي، خاصة في البلدان والمجتمعات التي عانت ويلات الاستعمار وآثار ما بعد الاستعمار، وكانوا يحتفظون بميل وانجذاب طبيعي إلى الثورات السياسية، ومع ذلك، هيمنت العلوم الأخرى على موضوع الثورات السياسية، وتجاهل علم الانثروبولوجيا هذا الموضوع، وأبطأ الخطى نحوه.

في أسباب عدم مشاركة علم الأنثربولوجيا في دراسة الثورات

يقدم المؤلف سردية مهمة بأهم الأعمال والأدبيات التي قدمها منظرون في الحقل الأنثروبولوجي في دراسة الثورات السياسية، وقد حاول أن يمسك بنقطة بداية دخول موضوع الثورة إلى أغلب الدراسات الأنثروبولوجية، في تسعينيات القرن العشرين، وذلك كنتيجة طبيعية للتغييرات التي طالت كثيرا من الأنظمة السياسية حول العالم في ذلك الوقت (نهاية الحرب الباردة، ونهاية التجربة الشيوعية، ونهاية التمييز العنصري في جنوب أفريقيا)، وقد ذكر في هذا السياق دراسة نوجنت الموسومة بـ"لفائف محروقة من الثورة" سنة 1993 والتي تناولت الأحداث التي قادت للثورة في المكسيك وركزت بشكل كبير على طبيعة الحياة بالنسبة إلى أوضاع الفلاحين في المكسيك بعد الثورة، ولاحظ المؤلف أنها لا تتعلق  بالثورة،  ثم أشار إلى جهود شيري أورتنر الذي قام سنة 1995 بتحديد دقيق لسلسلة اسماها "الرفض الاثنوغرافي"  للتركيز على فكرة المقاومة ودراستها في الحقل  السياسي، وعلق المؤلف على هذا النوع من الدراسات بكونه اتجه إلى التركيز على"التغيير من الأسفل" أو التغيير من القواعد، والتي تعطي اهتماما زائدا بالفئات المهمشة والوسائل التي يستخدمها المهمشون للمقامة والكفاح على المستوى الأدنى من مستويات الفعل السياسي.

يعرض المؤلف في كتابه ثلاثة أسباب ـ اعتبرها مقنعة ـ يبرر بها عدم مشاركة الأنثروبولوجيا على نطاق واسع في دراسة الثورات السياسية:

أولها ـ أن الثورات السياسية تحدث عادة في المجتمعات الكبيرة والمعقدة، والتي يوجد بها نظام سياسي أكبر لا بد من الإطاحة به، ويوجد بها كذلك درجة معينة من التمايز المؤسسي، وشيء من مفهوم المساءلة والشفافية السياسية. فالثورات في نظر المؤلف لا تحدث في جزر كيريوينا. ويشير المؤلف أنه لم تقع انعطافة الأنثروبولوجيين لدراسة هذا النوع من المجتمعات المعقدة والمركبة ودراسة "الدول" إلا في ثلاثينيات القرن العشرين مع أعمال روبرت ريدفيلد.

رسالة المؤلف في كتابه، أن للأنثروبولوجيا كلمة في تفسير الثورات السياسية، وأن إسهامها يتجه إلى تقديم الفهم الكلي للثورات السياسية، وأن تحصيل التراكم المعرفي في مجال دراسة الثورات السياسية، لم يعد يقتصر على مخرجات العلوم الثلاثة (التاريخ وعلم الاجتماع وعلم السياسة) وإنما صار بإمكان الأنثروبولوجيا أن تبرر مشاركتها في صناعة التراكم المعرفي في هذا المجال.ثانيها ـ أن الثورات السياسية تحدث ضمن "السياسة الفوقية العليا" باصطلاح علماء السياسة أو الباحثين في العلاقات الدولية، وهو موضوع يقع بعيدا عن اهتمام الأنثروبولوجيا التي تركز على الأنماط والأشكال العادية واليومية من السلوك السياسي، وأن الاستثناء الذي حصل في دراسة جيمس سكوت الأنثروبولوجية الموسومة باسم: "أسلحة الضعيف" سنة 1985، إنما تبررها الخلفية المعرفية للباحث بوصفه متخصصا أكاديميا في العلوم السياسية، وهي الدراسة التي شكلت نقلة نوعية في التنظير لفكرة المقاومة.

 وثالثها ـ أن الذي يبرر عدم إعطاء الأنثرولوجيين اهتماما أثنوغرفيا ولو محدودا بالثورات السياسية، هو ما يتعلق بمنهجية التطبيق والبحث، فمن الصعب، إن لم يكن من المستحيل في الغالب التخطيط لدراسة ميدانية للسلوك الثوري، لأن الثورات غالبا ما تحدث بطريقة مفاجئة وخارج التوقع. فالأنثروبولوجيون ـ حسب الباحث ـ من الممكن أن يخططوا لدراسة ميدانية عن سلوك الفلاحين أو تنظيم تحركات الشباب في المنطق الحضرية، لكنهم لا يستطيعون فعل ذلك في الثورات السياسية. ففي اللحظة التي يكتشف فيها المرء ـ مجرد المرء وليس الباحث ـ أنه في أوضاع سياسية ثورية، فإن أول شيء يفكر فيه هو كيف ينجو من هذا الوضع في أسرع فرصة، فيكف يمكن للباحث أن يغامر بنفسه، وكيف يمكن لمشرف مسؤول أن يرسل طلابه للدكتوراه غلى منطقة خطرة، تهدد حياتهم؟

لماذا يمكن أن يكون للأنثروبولوجيا إضافة نوعية في دراسة الثورات السياسية؟

يضم هذا الكتب مقدمة وعشرة فصول، بنيت بشكل نسقي للانتهاء في الأخير إلى خلاصة مهمة تتعلق بحدود الدور الذي يمكن أن تقوم به الأنثروبولوجيا في دراسة الثورات السياسية.

في مقدمة الكتاب حاول المؤلف الإجابة عن سؤال إمكان وجود أنثروبولوجيا للثورات السياسية، وفي الفصل الأول المخصص لتعريف الثورات السياسية، انطلق المؤلف من حزمة من التعاريف، لكي يفضي إلى قضية إسهام الأنثروبولوجيا في دراسة الثورات السياسية بالتركيز على اللحظات التي يكون فيها "الأسفل والأعلى" أو التغيير من القواعد والتغيير من الأعلى" نسبيا، وتكون المستويات الكلية والجزئية قد ذابت وتوحدت.

في الفصول اللاحقة، قدم المؤلف سردية مهمة لأهم الأدبيات التي قدمها منظرو الأنثروبولوجيا للاقتراب من موضوع الثورات السياسية، وأهم المفاهيم التي جعلوها مداخل لهذا الاقتراب، بدءا  بدراسات مارسيل ماوس عن الثورة البلشفية، ودراسات فيكتور تيرنر التي ركزت على الدراما الاجتماعية والأزمة ووضعية المجاز للثورات السياسية، ودراسة غوستاف لوبوان وغابريل تارد وجورج سيمل ورينيه جيرارد وفان جينب التي جعلت من الجماهير والحشود موضوعا للأنثروبولوجيا، وركزت أيضا على مفهوم دور المحاكاة، ليضيف الباحث إلى ذلك دراسات اخرى  حول سياسة الشارع والديناميات المكانية لتحريك الحشود وتعبئتهم (معاينة الثورات في مصر وتونس) ووضعية المجاز العامة ودور الميادين والساحات، وإفادته من أدبيات غيره خاصة مارسيل ماوس في موضوع القيادة الثورية ودور الحاوي، وأيضا دراسات باتسيون وتيريز بخصوص القيادة والحشود والكيفية التي تتم بها صناعة الانقسام في فترة الأزمة ووضعية المجاز، معرجا بذلك على مفهوم الشرعية وتشكل المعنى بواسطة الإصلاح والسلام، وكيفية إنهاء الثورة، لينتهي  بعد ذلك كله إلى تقرير نوع الإضافة التي يمكن للأنثروبولوجيا أن تقدمها لدراسة الثورات السياسية.

وبالمجمل، يمكن القول بأن مرافعة المؤلف  للدفاع أن الإسهام المعرفي المتميز الذي يمكن أن تقدمه الأنثروبولوجيا في دراسة الثورات السياسية تعددت أوجهه ومناحيه، فالأنثروبولوجيا  -في نظر المؤلف- تسهم في تقديم فهم معمق لتكيكيات الثورة والتعبئة التي لا تقوم على الطبقة فقط، بل على الثقافة والعرق والرمز، وهي تساعد أيضا في إدارة التوقعات وفهم المحركات، حيث يمكن للأنثروبولوجيا أن تشرح بصورة عامة النزعات الثلاث (العاطفية والمعرفية والإدارية) التي تسيطر على الجماهير أثناء المراحل المختلفة للثورة، وأن إسهامها يأتي من زاوية الاهتمام بالتغييرات التي تحدث  من الأسفل، إذ يمكن أن تشرح كيف أن  الأعمال أو الأحداث المفردة في فترات الحراك الثوري قد تؤدي- في وقت قصير جدا- إلى نتائج درامية مثيرة، كما يتمثل إسهامها في أنها تقدم فهما لطبيعة القيادة السياسية التي تنشأ في فترات الحراك الثوري وما بعده، وكيف ان فترات الانتقال التي تلي نجاح  الاحتجاجات تحتاج إلى نوعية مختلفة من القادة،  كما يتمثل إسهامها في قدرتها على مناقشة الرموز والمعاني في أي ثورة، بما يعيد الاعتبار للبعد الثقافي والإيديولوجي في نجاح الثورات عن طريق الحرب المعنوية والرمزية.

خلاصة:

بكلمة، رسالة المؤلف في كتابه، أن للأنثروبولوجيا كلمة في تفسير الثورات السياسية، وأن إسهامها يتجه إلى تقديم الفهم الكلي للثورات السياسية، وأن تحصيل التراكم المعرفي في مجال دراسة الثورات السياسية، لم يعد يقتصر على مخرجات العلوم الثلاثة (التاريخ وعلم الاجتماع وعلم السياسة) وإنما صار بإمكان الأنثروبولوجيا أن تبرر مشاركتها في صناعة التراكم المعرفي في هذا المجال.

مقالات مشابهة

  • «خبير قانوني» لـ حقائق وأسرار: حكم الدستورية لا يفسخ عقود الإيجارات القديمة
  • خبير قانوني: حكم الدستورية لا يفسخ عقود الإيجارات القديمة.. فيديو
  • برلماني: التحوّل الأوروبي ضد إسرائيل فرصة تاريخية وانتصار للدبلوماسية المصرية
  • الريادة: قانون الإيجارات القديمة خطوة نحو العدالة الاجتماعية والمساواة
  • حين يتكلم البسطاء... هل للأنثروبولوجيا ما تقوله عن الثورات؟ كتاب يجيب
  • علاء فاروق: 10.6مليار دولار صادرات زراعية وزيادة الطلب الأوروبي على المنتجات المصرية
  • أبرز مضامين اتفاقية الشراكة التي يهدد الاتحاد الأوروبي بمراجعتها مع إسرائيل
  • محافظة دمشق تزيل الإشغالات غير النظامية بمنطقتي دمشق القديمة وجوبر ‏
  • محمد بن راشد: كتاب الله.. أعظم رسائل السماء للبشر (فيديو)
  • رئيس الوفد يعلن رؤية الحزب في الإيجارات القديمة.. اليوم