لن تتوقف المذبحة عند غزة
تاريخ النشر: 17th, February 2024 GMT
لن تتوقف المذبحة بعد غزة
ليست مقاومة الشعب الفلسطيني وضريبة الدم الباهظة التي يدفعها بالآلاف ترفا ولا خيارا ولا مغامرة بل هي آخر وسائل الحياة.
غزة لا تدافع عن فلسطين فقط بل تدافع عن كل البلدان والشعوب العربية التي إن سقطت غزة فستسقط هي بعدها وما هي إلا مسألة وقت فحسب.
الشارع العربي اليوم شارع مطحون مسحوق لكنه لا يتحرك فقد رسّخ قمع الثورات فيه أن الاستبداد قَدَرُه، فصار جسدا مخدّرا لا يقوى على الحراك.
حركة الحريق الذي يشتعل في غزة لن تتوقف ما لم تتدارك الشعوب نفسها وتنتهز آخر فرص الخلاص لإيقاف النزيف وتعطيل مشاريع المجازر المقبلة.
ما الاحتمالات المستقبلية الممكنة بعد المجزرة؟ وما هي حرب الإبادة المقبلة؟ هل هي نهاية البدايات أم بدايتها؟ كيف نفهم مسار حركة الحريق في البلاد العربية؟
لن تتوقف حرب الإبادة العالمية التي تعود إلى البلاد العربية بقوة بعد فشل محاولات التغيير وانفضاح أكذوبة الدولة الوطنية التي هي دولة العصابات والقمع والاستبداد والفساد.
نجح النظام الرسمي العربي طوال أكثر من نصف قرن في تدمير كل محاولات الإصلاح الداخلية ففرض نظام حكم الفرد والعائلة والحزب حتى سقطت الحواضر واحدة تلو أخرى.
تعامل النظام العالمي بحذر من صحوة العرب وقدرتهم على إسقاط وكلائه بالداخل والمذابح بعد ثورات الربيع وسكون الشعوب بقصد أو جهل وغفلة جرّأت الصهاينة على إبادة غزة.
المقاومة بغزة آخر فعل بشري أمام آلة الموت التي لن ترحم أحدا فخيار شعب فلسطين الصمود أمام الاحتلال الوحشي دليل على أن الجسد الفلسطيني وحده يرفض الموت.
* * *
لا أحد كان يصدق أن يحصل في العراق ما حصل ولا أحد كان يصدق أن قتل وتهجير الملايين من سوريا سيكون ممكنا ولا أحد كان يتصوّر أن تُباد غزة ولا يتحرك أحد. كل هذا كان خارج التصوّر والتوقّع على الأقل على المستوى الشعبي القاعدي لكنه حصل وحدث أمام أعيننا وعلى الشاشات مباشرة ولم يتحرّك أحد.
لا نتحدث هنا عن الأنظمة العربية لأنها شريك أساسي فاعل في الجريمة ولا عن المؤسسات الرسمية العربية المرتبطة بها لأنها أذرعها وأدواتها الفاعلة في المنطقة، ولكن نتحدث هنا عن القوى الشعبية والوطنية المختلفة بما فيها حركة الجماهير الشعبية في الشوارع والميادين.
لا تزال حرب الإبادة في غزة تحصد آلاف المدنيين بعد مقتل ما لا يقل عن ثلاثين ألفا معظمهم من الأطفال والنساء والشيوخ وعشرات الآلاف من الجرحى والمفقودين ولم يتدخل أحد من دول الإقليم ولا من المجتمع الدولي لإيقاف المذبحة. مسار المذابح والمجازر في بلاد العرب لم يتوقف وهو مرشح للتصعيد مع توفر كل شروط الاشتعال والانفجار في أكثر من عاصمة عربية.
بناء على هذه المعطيات؛ ما هي الاحتمالات المستقبلية الممكنة بعد المجزرة؟ وما هي حروب الإبادة المقبلة؟ هل هي نهاية البدايات أم بدايتها؟ كيف يمكن أن نفهم مسار حركة الحريق في البلاد العربية؟
غزة لن تكون الأخيرة
بناء على ثلاثة معطيات أساسية يمكن القول إن ما يحدث من إبادة في غزة لن يكون الحركة الأخيرة:
أولها، حجم القصف والتدمير الذي لم يعرف حدودا ولا سقفا يقف عنده لأنه شمل كل شيء من المباني إلى المستشفيات إلى المدارس إلى المؤسسات الحكومية وصولا إلى سيارات الإسعاف. وهو ما يؤكد أن المخطط يهدف إلى قتل كل حي وتدمير كل شيء.
ثانيا، استفادت المجزرة من دعم دولي غير محدود وهو دعم عسكري ودبلوماسي وسياسي كوّن غطاء سميكا لمواصلة الإبادة وقتل المدنيين.
ثالثا، الصمت العربي الرسمي والشعبي الذي ساهم بشكل كبير في تواصل المذبحة واستمراراها.
بعد الانتهاء من غزة وإذا تواصلت وتيرة القتل على هذا النسق فسينتقل الحريق إلى عاصمة مجاورة وستكون القاهرة أكثر الدول قابلية لذلك للأسباب التالية:
أولا ما تشهده مصر من انهيار حرّ في كافة المجالات وصولا إلى مجاعة تلوح في الأفق وهو ما سيقوّي أطماع الصهاينة في سيناء وأرض مصر وهو ما لن يكون ممكنا دون إشعال الرقعة المصرية كما حدث في العراق أو في سوريا.
ثانيا لا تقتصر هذه القابلية على الداخل المصري بل تظهر كذلك في الإقليم المشتعل حولها شرقا في فلسطين المحتلة وغربا في ليبيا وجنوبا في السودان. بإسقاط مصر التي تُدفع اليوم نحو الانتحار دفعا يكون قلب المنطقة وعمقها الديمغرافي قد سقط بعد تقليم الأجنحة في سوريا والعراق واليمن وليبيا.
أما بقية الحواضر في شمال أفريقيا فإنها تسير هي الأخرى بسرعة نحو الانفجار بعد فشل كل محاولات التغيير والإصلاح الداخلي ووصول الاقتصاد فيها إلى أوضاع كارثية. وهو الوضع الذي دفع عددا من دول الخليج إلى المسارعة في التطبيع مع الكيان المحتل وفتح البلاد أمام كل أشكال الاختراق ظنا منها أنها ستكون بمأمن من الحريق.
ما يحدث في غزة وما حدث قبلها في العراق وفي سوريا والسودان وليبيا ليس إلا مقدمات لما سيحدث في كل الحواضر العربية تقريبا لأن الهدف واحد والمستهدَف واحد.
المقاومة أو الموت
ليست مقاومة الشعب الفلسطيني وضريبة الدم الباهظة التي يدفعها بالآلاف ترفا ولا خيارا ولا مغامرة، بل هي آخر وسائل الحياة. المقاومة في غزة هي آخر فعل بشري أمام آلة الموت التي لن ترحم أحدا اليوم أو غدا فخيار الشعب الفلسطيني بالصمود أمام الاحتلال الوحشي هو دليل على أن الجسد الفلسطيني وحده يرفض أن يموت.
أما بقية الحواضر العربية التي تظن أنها مستثناة من المذبحة فهذا دليل قصر نظر وجهل بقانون التاريخ لأن غزة لا تدافع عن فلسطين فقط وإنما هي في الحقيقة تدافع عن كل البلدان والشعوب العربية التي إن سقطت غزة فستسقط هي بعدها وما هي إلا مسألة وقت فحسب.
لن تتوقف حرب الإبادة العالمية التي تعود إلى البلاد العربية بقوة بعد فشل كل محاولات التغيير وانفضاح أكذوبة الدولة الوطنية التي هي في الحقيقة دولة العصابات ودولة القمع والاستبداد والفساد.
لقد نجح النظام الرسمي العربي طوال أكثر من نصف قرن في تدمير كل محاولات الإصلاح الداخلية ففرض نظام حكم الفرد والعائلة والحزب حتى سقطت الحواضر واحدة تلو الأخرى.
بالأمس كان النظام العالمي حذرا من الصحوة العربية ومن قدرة الشعوب على إسقاط الوكلاء في الداخل، لكنّ المذابح التي أعقبت ثورات الربيع وما رافقها من قبول الشعوب عن قصد أو عن جهل وغفلة بالأمر الواقع هي التي جرّأت الصهاينة على إبادة غزة.
أخطر ما يحدث اليوم هو صمت الشعوب عن مذبحة غزة. الشارع العربي اليوم شارع مطحون مسحوق لكنه لا يتحرك فقد رسّخ قمع الثورات فيه أن الاستبداد قَدَرُه، فصار جسدا مخدّرا لا يقوى على الحراك. هذا السلوك هو إشارة على أن حركة الحريق الذي يشتعل في غزة لن تتوقف ما لم تتدارك الشعوب نفسها وتنتهز آخر فرص الخلاص لإيقاف النزيف وتعطيل مشاريع المجازر المقبلة.
*د. محمد هنيد أستاذ العلاقات الدولية بجامعة السوربون، باريس
المصدر | عربي21المصدر: الخليج الجديد
كلمات دلالية: المذبحة المقاومة الموت فلسطين غزة حرب الإبادة الربيع العربي الشارع العربي الأنظمة العربية النظام الرسمي العربي البلاد العربیة حرکة الحریق حرب الإبادة کل محاولات لن تتوقف تدافع عن فی غزة وما هی غزة لن
إقرأ أيضاً:
سايكس بيكو.. جريمة مايو التي مزّقت الأمة
في السادس عشر من مايو 1916م، تم التصديق على أكثر الاتفاقات التي قلبت العالم العربي، ولا تزال الشعوب العربية تجني ثمارها المرّة حتى يومنا هذا. إنها «اتفاقية سايكس بيكو» التي قسمت العالم العربي وكأنّه مجرد قطعة أرض تُوزّع بين القوى الاستعمارية، دون أدنى احترام لشعوبها أو تاريخها. وقّعت بريطانيا وفرنسا وروسيا اتفاقًا في الخفاء لتقاسم الميراث العثماني، دون أن يكون للعرب أي صوت في تحديد مصيرهم، ليبدأ بذلك فصل جديد من التبعية والتفكك.
فلسطين، الأردن، العراق، سوريا، لبنان، وحتى المضائق التركية، قُسّمت وكأنها غنائم تُوزّع بين الجلادين، ليبدأ الانقسام الذي لم يتوقف. لم يُستشر العرب في هذه الاتفاقات، بل وُجدوا أسرى لخرائط وصفتهم المستعمرات بها، والتي رسمها أعداء الأمة في خيانات معترف بها. لكن ما هو أشد مرارة من خيانة المستعمر هو صمت المتواطئين وتخاذل أولئك الذين كان من المفترض أن يكونوا حماة الأمة.
السؤال الذي يفرض نفسه اليوم: بعد أكثر من قرن من الزمن، هل تغيّر شيء؟ وهل استفاقت الأمة من غيبوبة سايكس بيكو؟
للأسف، ما بدأه سايكس وبيكو من تقسيم على الورق، استمر الحكام العرب في ترسيخه في الواقع. بدلاً من إزالة الأسلاك الشائكة بين الأقطار العربية، تحولت الحدود إلى خطوط حمراء تُرفع عليها البنادق في وجه الأخوة. بدلًا من بناء مشروع عربي موحّد، أُقيمت مشاريع قطرية تابعة، تفتقر إلى أي رؤية سيادية، وتكتفي بالعجز، والتطبيع، والاستنجاد بالغرب في كل أزمة.
قادة العرب – إلا من رحم ربي – لم يستخلصوا العبرة. بل أصبح البعض منهم حراسًا أمينين على إرث سايكس بيكو، يتفاخرون بسيادة وهمية داخل حدود رسمها الاستعمار، ويقمعون كل محاولة لتجاوز هذه القوالب المصطنعة. بعضهم فرط في القدس، وبعضهم باع ثروات بلاده، وبعضهم ما زال ينتظر الإذن للوقوف مع شعبه، أو حتى ليغضب.
مايو ليس مجرد ذكرى خيانة، بل مرآة نرى فيها تخاذلنا المستمر. إنها لحظة يجب أن يُحاسب فيها القادة قبل الشعوب: إلى متى سنظل أسرى خريطة صنعها أعداؤنا؟ إلى متى يظل الانقسام قدرًا والتبعية خيارًا؟
سايكس بيكو لا تزال حية، لأن أدواتها باقية: أنظمة تابعة، نخب خانعة، وصمت عربي يشرعن الجريمة. أما التحرر الحقيقي، فلن يبدأ إلا عندما نكسر جدران الصمت، ونكفّ عن استجداء من قسمونا، ونستعيد قرارنا بأيدينا.
في مايو، لا نحتاج خطبًا ولا بيانات، بل نحتاج صحوة تخلع شرعية التبعية وتعلن بوضوح: هذه الأمة تستحق أن تحكم نفسها، لا أن تبقى رهينة اتفاقية خائنة وقيادات عاجزة.
ما سايكس بيكو إلا البداية في سلسلة طويلة من المؤامرات والمؤتمرات التي ما تزال تُحاك ضد الأمة حتى اليوم. كما عبّر عن ذلك بوضوح السيد القائد عبدالملك بدر الدين الحوثي في إحدى كلماته بمناسبة الذكرى السنوية للشهيد القائد عام 1443هـ، حين قال: « هي أيضًا استراتيجية وسياسة يبنون عليها مخططاتهم، ولهم في ذلك مؤتمرات، في مراحل ماضية، ومراحل متعددة من التاريخ، هناك مؤتمرات غربية يحرِّكها اللوبي اليهودي الصهيوني من زمان، مؤتمرات تنعقد وتخرج باتفاقيات ومقررات معينة، هي عدائية بكل وضوح ضد هذه الأمة، هناك مثلاً اتفاقيات، مثل اتفاقية سايكس بيكو… واتفاقيات أخرى، ونقاط ومخرجات لمؤتمرات عقدت في المراحل الماضية، في مراحل متعددة، وإلى اليوم، الأمر مستمر إلى اليوم، مخرجات تلك المؤتمرات، تلك المناسبات، تلك الفعاليات، مخرجاتها من اتفاقيات ومقررات عدائية بكل وضوح لأمتنا الإسلامية، تضمَّنت: تقسيم العالم الإسلامي، العمل على منع توحده، إثارة النزاعات بين أبنائه تحت مختلف العناوين: العناوين الطائفية، العناوين السياسية، العناوين المناطقية، العناوين العرقية… تحت مختلف العناوين،…. « كلمات السيد القائد لم تكن مجرد توصيف عابر، بل تشريح دقيق لطبيعة المشروع الاستعماري الذي لم يتوقف عند سايكس وبيكو، بل امتد وتطور وتجدّد، تحت عناوين جديدة ومظاهر خادعة، لكنه لا يزال يستهدف الأمة في هويتها ووحدتها ونهضتها.
فهل يدرك قادة العرب اليوم أن بقاءهم أسرى سايكس بيكو هو قبول طوعي بالذل، وشهادة زور على استمرار المؤامرة؟ أم أن الخنوع أصبح سياسة رسمية تُدار بها العواصم تحت الرعاية الغربية؟
إن لم تكن ذكرى «سايكس بيكو» جرس إنذار، فهي شهادة جديدة على أننا نعيش في زمن الاستسلام المغلّف بالكذب الرسمي. العدو لم يعد يخطط في الخفاء، بل ينفذ جهارًا، والحكام – إلا من ثبتت مقاومتهم – لم يعودوا عاجزين فقط، بل مشاركين في اغتيال الكرامة.
لكن في قلب هذا الركام، ينهض أحرار الأمة ومعهم أحرار العالم، أولئك الذين لم تلوثهم اتفاقيات الذل، ولم تنكسر إرادتهم تحت وقع الهزائم. أحرار يصرخون في وجه الاستعمار الحديث: لن تمرّوا، ولن ننسى، ولن نبقى أسرى خرائط صنعتها بنادق الغزاة وحبر الخونة.
لا خلاص للأمة إلا برفع راية الوعي والمقاومة، وبإسقاط أنظمة التبعية التي تحرس حدود الاستعمار، وتقدّم مفاتيح الأوطان لأعدائها. فإما أن يُكسر قلم سايكس ويُدفن حبر بيكو تحت أقدام الأحرار… أو نبقى شعوبًا تُدار كالخرائط، وتُساق كالغنائم.
الخيار واضح: إما مقاومة تُعيد للأمة سيادتها… أو خنوع يُبقيها بلا ملامح ولا مصير. ومع أحرار العالم، سنحطم خرائط العار، ونكتب بقبضات المقاومة خريطة جديدة… خريطة لا يخطّها الغزاة، بل تنحتها إرادة الشعوب، وتُعلن ولادة زمنٍ لا مكان فيه للهيمنة، ولا سيادة فيه إلا للكرامة والحرية.