القوة الناعمة وأثرها في العلاقات الدولية
تاريخ النشر: 5th, March 2024 GMT
ظهر مصطلح القوة الناعمة قبل عقود في مقابل القوة الصلبة، والتي كانت مهيمنة على العلاقات الدولية لقرون، وخاصة منذ العهد الاستعماري البريطاني والبرتغالي والفرنسي وحتى الإيطالي، حيث أدت القوة العسكرية والنفوذ التجاري والاقتصادي والهيمنة على مقدّرات الشعوب دورا محوريا في فلسفة الاستعمار الحديث في الشرق العربي وآسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.
عودة إلى مسألة القوة الناعمة التي برزت كمفهوم في العقود الأخيرة ولعل النموذج الصيني هو الأبرز على صعيد استخدام هذه الأدوات الناعمة، وهي في الوقت نفسه أكثر تأثيرا حتى من القوة الصلبة على الصعيدَين الاستراتيجي والاقتصادي وحتى الإنساني.
فالصين اختطت لنفسها طريق العلاقات الدولية من خلال فلسفة تقوم على تطويع قوتها الناعمة على صعيد علاقاتها الدولية من خلال التجارة والاستثمار، ولها في ذلك تاريخ طويل حيث طريق الحرير الذي تريد إحياءه مجددا. كما أن فلسفة الصين وربما تأثرا بفلاسفتها وفي مقدمتهم كونفوشيوس لا تحبذ القوة الصلبة أو الدخول في حروب أو صراعات، بل إن التاريخ القريب للصين يقول إنها احتُلت من قبل الجيش الياباني. ومن هنا فإن الاستخدام الذكي للقوة الناعمة أصبح منهجا إيجابيا في إطار العلاقات الدولية، وأصبحت الصين -وهي عملاق العالم الاقتصادي- النموذج الأبرز على صعيد استثمار قوتها الناعمة خاصة في القارات الثلاث آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية وحتى المنطقة العربية، وهي القارات التي رزحت لقرون تحت هيمنة القوة الاستعمارية الصلبة حيث القوة العسكرية واضطهاد الشعوب وسرقة مواردها. ولعل الاستعمار الفرنسي في أفريقيا يعد نموذجا صارخا في استغلال موارد القارة الأفريقية وتحويل شعوبها إلى شعوب فقيرة حتى بدأت انتفاضة تلك الشعوب مؤخرا في النيجر ومالي وبوركينا فاسو وغيرها من الدول الأفريقية. كذلك الاستعمار البريطاني الذي يعد الاستعمار الأبرز في العصر الحديث ولعل استغلال الهند ومواردها يعد مثالا صارخا، وكذلك على صعيد المنطقة العربية.
ومن هنا فإن القوة الصلبة العسكرية سجلت فشلا ذريعا خاصة مع المستعمر الأكثر نفوذا الآن وهو الولايات المتحدة الأمريكية والتي شنت العدد الأكبر من الحروب منذ عهد استقلالها حيث بلغت تلك الحروب في القارات الثلاث أكثر من ٨٠ حربا مسلحة قُتل خلالها ملايين المدنيين الأبرياء خاصة في دول جنوب شرق آسيا كفيتنام ولاوس والفلبين وكوريا -قبل التقسيم- وأخيرا اليابان حيث ضرب مدن هيروشيما ونجازاكي بالقنابل النووية وقتل عشرات الآلاف من الأبرياء. علاوة على احتلال القوات الأمريكية العراق وأفغانستان وعمل عشرات الانقلابات في دول أمريكا اللاتينية وحتى في عدد من الدول العربية والأفريقية والإسلامية. ولعل الانقلاب على حكومة رئيس وزراء إيران محمد مصدق في عقد الخمسينيات من القرن الماضي هو أبرز تلك الانقلابات غير الشرعية. وعلى ضوء ذلك فإن القوة الصلبة سجلت على مدى قرون فشلا كبيرا ونتجت عنها كراهية متواصلة للأنظمة الغربية. ومن هنا برزت الصين وحتى دول جنوب شرق آسيا من خلال القوة الناعمة حيث التجارة والدبلوماسية والإعلام والفنون والآثار.
وعلى ضوء ذلك فإن النموذج لبلادنا سلطنة عمان يؤهلها لأن تؤدي دورا حضاريا وإنسانيا من خلال قوتها الناعمة والتي تستند إلى مقومات حقيقية حيث التاريخ الضارب في القِدم والانفتاح على الحضارات والشعوب باعتبارها إحدى الحضارات الإنسانية الكبيرة التي أدت دورا مؤثرا في مناطق عديدة في العالم خاصة شرق أفريقيا وشبه القارة الهندية وأواصر التواصل مع دول جنوب شرق آسيا خاصة الصين والهند وسنغافورة. ومن هنا فإن الدبلوماسية العمانية والأدوات الحضارية على صعيد الإعلام والفنون والتراث كلها أدوات ناعمة يمكنها أن تشكل المزيد من التأثير الإيجابي على صعيد العلاقات الدولية. ولعل مشاركة سلطنة عمان في افتتاح بورصة برلين للسياحة باعتبارها الضيف الرسمي وسط حضور دولي كبير يعطي دلالة كبيرة على أهمية هذا الوجود العماني على صعيد قطاع السياحة كإحدى أدوات القوة الناعمة الأكثر تأثيرا حيث زحف ملايين السياح عبر الجغرافيا، خاصة أن بلادنا سلطنة عمان لديها مقومات كبيرة ومفردات متميزة على صعيد صناعة السياحة. كما أن الدبلوماسية العمانية وعلى مدى أكثر من نصف قرن أدت دور القوة الناعمة الناجحة في حل عدد من الملفات المعقدة خاصة في منطقة الخليج والجزيرة العربية. كما أن دورها الحضاري بارز على صعيد منظمات الأمم المتحدة حيث اليونسكو وكراسي السلطان قابوس بن سعيد -طيّب الله ثراه- في عدد من الجامعات الدولية وهناك الشواهد الأثرية في كل بقاع سلطنة عمان. كما أن الفنون والإرث الثقافي العماني يعدان من أدوات القوة الناعمة التي لا بد من إيجاد آليات للدفع بها في إطار الاستخدام الأمثل لقوة سلطنة عمان الناعمة. علاوة على قضايا حيوية في إطار خطط سلطنة عمان في مجال التنويع الاقتصادي والموقع الاستراتيجي المميز لبلادنا سلطنة عمان وتسجيل مؤشرات إيجابية على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والإعلامي حيث سجل الإعلام العماني مؤشرا جيدا من خلال إحدى المنظمات المتخصصة، وهذا شيء جيد يبنى عليه لمزيد من العطاء والتطوير.
ومن هنا فإن الاستراتيجية التي ينبغي أن تدعم تلك القوة الناعمة هو تأهيل المزيد من الكوادر في تلك القطاعات على ضوء رؤية عمان ٢٠٤٠ ومن خلال الدفع بتلك الأدوات الناعمة التي تبرز المزيد من أدوار بلادنا سلطنة عمان والتي تعيش مرحلة فارقة في تاريخها الحديث وفي إطار النهضة المتجددة التي يقودها بحكمة واقتدار جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- خاصة على صعيد الملف الاقتصادي والاجتماعي والسير بملف التنويع الاقتصادي إلى الأمام، وعدم الاعتماد على مصدر النفط. ومن هنا نرى القطاعات غير النفطية تسجل أرقام نمو جيدة، كما أن المناطق الاقتصادية في محافظات سلطنة عمان تؤدي دورا متناميا، وعلى المحافظين أن يبذلوا الكثير من الجهود لتنمية المحافظات في ظل قانون المحافظات واستقلالية القرار الإداري ووجود الموازنات المالية، حيث نرى خلال سنوات قليلة قادمة كل محافظات سلطنة عمان وهي مدن كبيرة تعج بالمشروعات التي توفر المزيد من فرص العمل للشباب العماني.
إن القوة الناعمة أصبحت جزءا مؤثرا في المشهد السياسي العالمي ولها تأثير كبير يفوق القوة الصلبة، وبلادنا سلطنة عمان لديها من الممكنات والأدوات الحضارية ما يمكنها أن تؤدي دورا كبيرا وإيجابيا قياسا إلى سمعتها الإقليمية والدولية الممتازة وذات المصداقية على صعيد السلوك السياسي الذي يتميز بالصدق ونصرة القضايا الإنسانية وفي مقدمتها قضية فلسطين العادلة.
عوض بن سعيد باقوير صحفي وكاتب سياسي وعضو مجلس الدولة
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: العلاقات الدولیة القوة الناعمة سلطنة عمان تلک القوة المزید من على صعید أکثر من فی إطار من خلال على ضوء خاصة فی کما أن
إقرأ أيضاً:
قمة الهيدروجين الأخضر 2025 تبحث الفرص الاستثمارية والتقنيات المتقدمة في الطاقة النظيفة
كتب- حمدان الشرقي / تصوير- شمسة الحارثية -
ناقشت قمة عُمان للهيدروجين الأخضر 2025، التي عُقدت اليوم في مركز عُمان للمؤتمرات والمعارض، الفرصَ الاستثمارية في القطاع، وقدّمت أحدث الممارسات والتقنيات المرتبطة به وسبل تطويرها. وانطلقت القمة بتنظيمٍ من وزارة الطاقة والمعادن وبشراكة استراتيجية مع شركة هيدروجين عُمان (هايدروم)، لتؤكد التحول النوعي الذي تشهده سلطنة عُمان في قطاع الهيدروجين منخفض الكربون، وانتقالها من مرحلة التخطيط ووضع الأطر التنظيمية إلى مرحلة التنفيذ الفعلي للمشاريع.
وتأتي هذه القمة في ظل تغيّرات تشهدها أسواق الطاقة العالمية، وفي وقتٍ تواصل فيه سلطنة عُمان ترسيخ موقعها كشريك موثوق في بناء اقتصاد الهيدروجين العالمي، مستندةً إلى رؤية واضحة وبنية تشريعية وتنفيذية متكاملة.
وتنعقد القمة هذا العام تحت شعار "مسار الهيدروجين: بناء الجسور وتعزيز الإنجاز"، لتشكل منصة تجمع المسؤولين وصناع القرار والخبراء والمستثمرين من داخل سلطنة عمان وخارجها، بهدف مناقشة السياسات، واستعراض الفرص الاستثمارية، وتقديم أحدث الممارسات والتقنيات المرتبطة بالقطاع وتطويره.
وأكد معالي المهندس سالم بن ناصر العوفي، وزير الطاقة والمعادن أن قطاع الهيدروجين الأخضر يعيش مرحلة انتقالية مفصلية، إذ ينتقل تدريجيًا من موجة الحماس الأولي إلى مسار أكثر واقعية ونضجًا يتعامل بوضوح مع تحديات التكلفة وسلاسل الإمداد والأطر التنظيمية، وبيّن معاليه أن هذا التحول لا يمثل تباطؤًا كما يعتقد البعض، بل هو نضوج طبيعي شبيه بالتحولات الكبرى في تاريخ الطاقة، بدءًا من انتقال البحرية البريطانية من الفحم إلى النفط مرورا بتطور سوق الغاز الطبيعي المُسال، وصولًا إلى صعود الطاقة الشمسية كأرخص مصدر للطاقة خلال 15 عامًا فقط.
وأضاف معاليه إن سلطنة عمان قطعت خطوات كبيرة في بناء منظومة وطنية متكاملة للهيدروجين الأخضر، شملت تخصيص أكثر من 50 ألف كيلومتر مربع لمشاريع القطاع، وتأسيس شركة هايدروم لإدارة المنظومة، وتحديد جهات وطنية مختصة بالنقل والتخزين والطاقة المتجددة، وأوضح أن المزادات الوطنية الناجحة رفعت القدرة الإنتاجية المتوقعة إلى 1.4 مليون طن بحلول 2030، مؤكدًا أن عُمان والعالم مستعدان لإطلاق المشاريع الكبرى على لطاقة الهايدروجين، وأن الهيدروجين سيصبح خيار الطاقة الأول خلال فترة زمنية أقصر مما شهدته التحولات السابقة كما أن السلطنة لا تنوي إنشاء محطات كهرباء جديدة تعمل بالغاز في ظل توفر بدائل متجددة أكثر كفاءة واستدامة.
انتقال فعلي إلى التنفيذ
من جانبه استعرض المهندس عبدالعزيز بن سعيد الشيذاني، المدير العام لشركة هايدروم أبرز التطورات التي شهدها الإطار المؤسسي لقطاع الهيدروجين منذ إطلاقه، مؤكدًا انتقال سلطنة عمان إلى مرحلة التنفيذ الفعلي للمشاريع ضمن منظومة متكاملة قابلة للتوسع وتعزيز التنافسية على المدى الطويل.
وأوضح أن سبعة مشاريع للمطورين تمضي في مراحل التطوير وفق الخطط الموضوعة بطاقة إنتاجية تستهدف مليون طن من الهيدروجين الأخضر سنويًا بحلول 2030، في حين تم إنهاء مشروعين آخرين بعد مراجعة جدواهما في ضوء المستجدات العالمية، ما يعكس مرونة المنظومة الوطنية وقدرتها على التعامل مع المتغيرات.
وأضاف أن العام الماضي شهد منجزات نوعية شملت إطلاق محطة تعبئة الهيدروجين الأولى في سلطنة عمان، تدشين لوحة متابعة جاهزية المنظومة الوطنية وصولا لتوقيع أول ممر عالمي للهيدروجين السائل، وتقدم بارز للأبطال الوطنيين في سلاسل القيمة بالإضافة لتطوير جولات المزايدات بناءً على احتياجات المستثمرين.
وبيّن أن سلطنة عمان عززت حضورها الدولي عبر شراكات ممتدة في أوروبا وآسيا وتشيلي، وتم اختيارها دولة شريكة لأسبوع الهيدروجين الأوروبي، كما شهدت المنظومة تحولات تنظيمية مهمة شملت تقليص التصاريح المطلوبة من 36 إلى 7 فقط ضمن خدمة "التصريح الواحد"، واعتماد حوافز إضافية لخفض رسوم الأراضي والإتاوات ومنح المرونة للمطورين لتعزيز الجدوى الاقتصادية.
مشروع "أكمي"
ومن أبرز المشروعات التي دخلت مرحلة التنفيذ مشروع أكمي للهيدروجين الأخضر والأمونيا الخضراء في المنطقة الاقتصادية الخاصة بالدقم، حيث بدأت أعمال الإنشاء للمرحلة الأولى لإنتاج 100 ألف طن من الأمونيا الخضراء و17 ألف طن من الهيدروجين الأخضر سنويًا بحلول 2027، على أن تضيف المرحلتان الثانية والثالثة قدرات إنتاجية مماثلة.
وشهدت القمة توقيع ثلاث مذكرات تفاهم، حيث وقّعت هيدروجين عُمان "هايدروم" مذكرة تفاهم مع غرفة تجارة وصناعة عُمان لدعم جاهزية البيئة الاقتصادية والتنظيمية للقطاع، كما وقّعت الشركة مذكرة ثانية مع الجامعة الألمانية للتكنولوجيا في عُمان بهدف تعزيز التعاون في مجالات التعليم والبحث العلمي وتطوير القدرات الوطنية. فيما جاءت المذكرة الثالثة عبر شراكة نوعية مع مطارات عُمان، تضمنت التسليم الرسمي لسيارات تعمل بالهيدروجين لدعم منظومة العمليات في المطارات.
إشادة أوروبية
وخلال القمة، أشاد يورغو تشاتسيماركاكيس، الرئيس التنفيذي لمنظمة هيدروجين أوروبا، بالنهج الذي تتبناه سلطنة عُمان في التحول الطاقي، واصفًا إياها بـ"النجم الصاعد" في التعاون بين الاتحاد الأوروبي ودول مجلس التعاون، وقال إن سلطنة عمان تسير بخطوات هادئة وحاسمة بعيدًا عن الضجيج، ما يجعلها نموذجا عالميا في بناء قطاع الهيدروجين الأخضر.
وأكد أن عُمان تمتلك موارد شمسية ورياحا من الأفضل عالميا بالإضافة لبنية لوجستية متقدمة، وسياسات استثمارية جاذبة، إلى جانب التزام حكومي واضح جعلها تحظى بحضور مميز خلال مشاركتها كشريك رئيسي في أسبوع الهيدروجين الأوروبي.
وأشار تشاتسيماركاكيس إلى أن التحولات الجيوسياسية الأخيرة دفعت أوروبا إلى تسريع إجراءاتها في أمن الطاقة وخفض الانبعاثات، معتبرًا أن عُمان شريك استراتيجي قادر على دعم هدف الاتحاد الأوروبي بخفض 90% من الانبعاثات بحلول 2040، كما أكد أهمية الفرص المشتركة، بما في ذلك إنشاء ممرات للهيدروجين بين عُمان وأوروبا، وتطوير حلول الوقود البحري المستدام، ودعم الصناعات التحويلية كالحديد الأخضر والأسمدة.
وتجسد الجولة الثالثة من مزايدات الهيدروجين الأخضر استمرار النهج المرحلي لسلطنة عمان، حيث شاركت أكثر من 130 شركة عالمية وهو ما يعكس الثقة التي يحظى بها الإطار التنظيمي والاستثماري، كما اعتمدت سلطنة عمان حزمة حوافز مالية بقيمة 3.6 مليار دولار أمريكي لدعم المشاريع في مراحلها الأولى.
الجدير بالذكر أن القمة تحتضن برنامج يمتد لثلاثة أيام يناقش أحدث التطورات في إنتاج الهيدروجين وتخزينه ونقله واستخداماته الصناعية، بالإضافة إلى التجارب الدولية الحديثة ومعايير الشهادات والفرص المتاحة في الدقم وظفار، ويرافق القمة معرض متخصص يستعرض أحدث ابتكارات وتقنيات الهيدروجين التي تطورها الشركات العالمية، مانحًا الزوار فرصة للتعرف على الحلول المتقدمة في القطاع.