بين القاهرة وبغداد.. رحلات خيري منصور في الحنين للجغرافيا الحزينة
تاريخ النشر: 8th, March 2024 GMT
سنوات مرت على رحيل الأديب والناقد الفلسطيني خيري منصور (1945 – 2018) الذي ما زال كثيرون يستذكرون إطلالته في صحف عربية ناثرا ثقافة موسوعية في خواطره التي كانت وجبات ثقافية دسمة.
أديب يثقف ويمتعويدين كثيرون في ثقافتهم للمرجعيات الكثيرة التي يحيل إليها منصور في شتى أنواع المعرفة في مقالاته ونصوصه ورؤاه النقدية، وليس من مبالغة في القول إن "صاحب "صبي الأسرار" كان كما في كتبه يعلم ويثقف ويمتع.
في كتاب أخير صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر حمل عنوان "الجغرافيا الحزينة.. نصوص في نوستاليجيا الأمكنة" يرحل خيري -الذي ودع الحياة عن 73 عاما- ومعه القارئ إلى حنينه لأمكنة سكنها في رحلة تجوال دائم، وهو الذي ولد في قرية دير الغصون قرب طولكرم بالضفة الغربية منتصف أربعينيات القرن الماضي.
يكتب منصور عن مدن كثيرة سكنها، لكنها لم تغادره، على أن بغداد كما يقول مقدم نصوص الكتاب زهير ماجد "سكنته قبل أن يسكنها عاش سلامها وعاشته ويوم دخلت الحرب رويدا إليها كشف قلقه عليها أي حب كانّه لها".
يضيف ماجد في معرض حديثه عن نصوص منصور أن "الكتاب واحد من عمره الجميل الذي عاشه بين عواصم وأماكن تمتد من الشرق الأقصى إلى المغرب العربي".
بغداد المستقبليكتب عن بغداد وهومن بين كتاب عاشوا فيها وخلدوها في إبداعاتهم كالروائي الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا وروايته عن شارع الأميرات، كذلك الروائي الأردني غالب هلسه وروايته "ثلاثة وجوه لبغداد".
وفي نصوصه وإن كانت بغداد ليست الوحيدة في جغرافيا منصور الحزينة، فقد كانت كما يقول "في جميع المرات التي كنت أغادر بها مدنا كانت الأشجار والأرصفة والعمارات في طريق المطار تتراجع من نافذة السيارة، إلا بغداد.. كانت الأمكنة وأشجار النخيل وأسوار المقابر متصلبة في أماكنها وأتراجع أنا إلى الوراء لكأنها مستقبل أيضا وكل ما سيلي يفضي إليها".
في ليلة حربيستهل صاحب ديوان "لا مراثي للنائم الجميل" نصوصه عن بغداد في ليلة من ليالي الحرب كاتبا "هاهي طائرات العالم الجديد تعذبنا تقصف نارنا وتقصف كل بصيص نور يلوح لها على الأرض لكي تستحكم بنا الحلكة وتأسر أعيننا أبدية السواد".
الطائرات تقصف الخبز أيضا والأرغفة تواصل استدارتها ببسالة الشموس والأقمار.
يكتب عن الحرب التي انبثقت من عدمية الغرب المعاصر، ويتساءل في ليلة حرب قاسية -كالتي تمر بها غزة الآن- كيف يمكن أن يقتنع شاعر عربي أفعم قلبه الأسى على جغرافيا بلاده الرسولية والحزينة أن حفيد الشاعر الأميركي والت ويتمان يقضي على أعمال جده المترجمة إلى العربية.
قافية الحضارةفي نصوص منصور التي تبدو أدب رحلات في المكان، إلا أنها تتجاوزه أيضا لتكون أدب رحلة في الإنسان وثقافاته هكذا يحضر الحلاج من زمان بعيد وشاعر العراق الذي يجري محاوراته معه بدر شاكر السياب وسامي مهدي وغالب هلسا وأحمد خلف والشاعر العراقي جان دمو وغيرهم.
يرسم منصور خارطة بغداد أسواقها ومقاهيها "فهي من ألفها المئذنية الساطعة في الورق حتى يائها قافية الحضارة كلها ومسك ختامها وفاتحة الآتين وهي عاصمة من لا عاصم لهم إلا ما تبقى من شواهد السلف الممهورة بدم شجي لا يكف عن الأنين".
ومنصور لم يكن سائحا في شوارع بغداد وأسواقها ومقهى حسن عجمي بل كان أحد التفاصيل في نسيجها الحي شرب من ماء نهرها ما لا يحصى من المرات وكان في ليالي الصيف هو من يعزف للحجارة حتى تنام وللسيدة أن تصحو.
يرتحل منصور إلى الصين ويسجل يومياته هناك ويعرج على حضارة البلاد وقفزاتها الحضرية والسياسية. ويطوف في البنغال وتثير فيه أحزانها وتقلباتها ومآسيها الشجون.
ويمضي في رحلته إلى الرباط وطنجة بلد صاحب الخبز الحافي محمد شكري، على أن مصر وقاهرتها "العاصمة المصرية تكاد تكون صانعة خيري وطلقة النور الأولى في حيويته ورحلته مع الكتاب".
القاهرة كبسولة الزمانفي شبابه، وهو الذي ارتحل إلى مصر، يسأله أهل قريته دير الغصون الفلسطينية في أي جامعة يدرس فيجيب "أدرس في جامعة اسمها مصر أتعلم من سائق السيارة وجرسون المقهى وسمسار البيوت والجارة العجوز الطيبة كما أتعلم من أساتذتي وهم من أبرز الأكاديميين في الستينيات".
وعن القاهرة أيضا تبدو الكتابة -خصوصا في ستينياتها- لفلسطيني مثله محفوفة بمخاطر عديدة فالفلسطيني فيها ليس مستشرقا وليس حتى زائرا أو سائحا إنه من أشواق مبثوثة في أضرحة ومساجد ورؤى ونصوص ودماء وماء وهواء.
والقاهرة أيضا كبسولة الزمان وكيمياء العناصر التي ذوبها عشق آسر في إناء فخاري ترشح مساماته روائح قادمة من بعيد فهي من الأهرامات إلى قصر البارون مرورا بالبوابات التي تفضي إلى جنة مفقودة.
يكتب عن مقاهيها "ريش" والفيشاوي" وتود لو أنك تختصر الزمان والمكان وتحظى بجلسة صاخبة فيها مع مثقفيها نجيب محفوظ وخيري منصور نفسه ومع شعرائها ومفكريها فمقاهيها نبض الحياة.
وينقل عن الروائي الأردني الرحل غالب هلسا قوله عثرت على تعريف دقيق للمنفى إنه "الإقامة خارج مصر" ويمضي في مديح المدينة التي تزدهر في المفاضلة بين عشرات العواصم.
وعن غالب الذي تنقل بين عواصم عربية عديدة ينثر حنينه وشوقه إليه ويختم كتابه المليء بالنوستاليجيا والحنين بالحديث عن الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش في ذكرى وفاته وهو الذي رحل في عام 2008.
وكان يوم رحيله لم يصدق فمجلة الهلال المصرية كانت تهيئ عددا خاصا له والمثقفون كان يعدون له أمسية احتفالية في دار الأوبرا.
عن درويشويقول "إنه شاعر أنسن فلسطين وعولمها بالمعنى الكوني للعولمة وأعاد الاعتبار لما هو عادي وأعاد البطولة لمن يستحقونها".
هناك لكن ليس تماما فله هنا ما يضاعف من سطوع الحضور في أقصى الغياب.
كتاب خيري منصور إضافة إلى دواوينه وكتبه النقدية ومقالاته وهو وإن صنف في أدب الرحلات إلا أنه لا يمكن لقارئه إلا أن يخرج مثخنا بحصيلة معرفية وكم هائل من حزن على أديب فارقنا.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات خیری منصور
إقرأ أيضاً:
قراءة في كتاب لقد أحضرت لك يدا مقطوعة
تشكل تجربة الشاعر الفلسطيني السوري غياث المدهون، فرقا واضحا في الشعرية الفلسطينية، فهو لا يعترف بما سبق من شعر رغم قراءته له، وليس لديه فضول لأن يعرف ماذا سيصير الشعر في المستقبل، هذا شعر قادم من الآن، من السخط والرغبة في تكسير كل مرآة من الحب المخنوق وعبثية كل شيء، حالة هيجان وفوضى جميلة يمثلها شعر غياث الذي فر من سوريا أوائل الثورة بحثا عن حرية الكلام والصراخ والفوضى، آخر كتب فوضوي الشعر والحياة هذا الكتاب الذي بين أيدينا الصادر عن دار المتوسط، بقطع متوسط مائة وستين صفحة، من القطع المتوسط والذي كتب على غلافه هويته محددا إياها بصرامة: نصوص وهوامش، هذه نماذج منها:
(خلال الانتفاضة كنا نأخذ قطعا صغيرة من فلسطين ونرميها على الجنود الإسرائيليين فيهربون وكنت أتساءل منذ كنت طفلا: لماذا يهربون حين نرمي عليهم قطعا من أرض الميعاد؟). (الأمل يعني أن نحارب طواحين الهواء ليس كما يفعل دون كيخوتي لا فدون كيخوتي كان يحارب طواحين الهواء معتقدا أنها شياطين بأيد كبيرة. الأمل هو أن تفعل مثلي، أن تحارب طواحين الهواء وأنت تعلم تماما أنها طواحين هواء). (كيف لامرأة أن تكون واضحة كالاحتلال وحزينة مثل سوريا وجميلة كالأمنيات؟).
في نصوص غياث، يحضر اليأس بكثرة مع التاريخ وتنهض الجغرافيا مع الألم والرياضيات مع الخوف وتغني الفلسفة وتطل السياسة برأسها وتنفجر المعارف كلها، ليس لديه مشكلة مع أي معرفة ترغب بالدخول إلى نصوصه، نصوصه مفتوحة الأبواب لكل من يطرقها، بشرط واضح أن يضيف إلى ما قبله ما يغني نصه لا ما يسطحه، المسألة إذن ليست عبثية، غياث المدهون ليس شخصا يهذي، ولا يقول شيئا دون سياق، ودون دراسة، هو يعرف ماذا يكتب وكيف يكتب، وما السهولة القشرية التي تبدو عليه نصوصه سوى خدعة يكمن بها لقرائه المستعجلين. فلسطين ليست موجودة بصورتها المعتادة، لا تتوقع أن يقول لك غياث إن فلسطين أجمل بلد في العالم، ليس لأنها ليست كذلك، بل لأنه لم يجهز بعد جملته التي سيصفها فيها، ولا يريد أن يمشي على خطى واصفيها المبتذلين، غياث عدو الابتذال، لا يطيق أن يكتب مثل الآخرين، كما هي حياته، تماما لا يستطيع أن يحياها مثل الآخرين، الشعر الفلسطيني بشكل عام لا يستطيع مجاورة نصوص غياث، أكاد أتخيل محمود درويش وهو ينصح غياثا بالهدوء والتنفس بشكل أعمق، وتخفيف الغضب، وبالاتساق الشعري أو الانتظام في الشعور واحترام وزن العبارة وإيقاعها، هذا لا يعني أن محمود درويش على خطأ، ربما يكون محقا، وله الحق في تبني نسق شعري معين، كما يحق لغياث ذلك، وهناك وجهات نظر حداثية هامة ومثقفة يمكن أن تبرر رفض نصوص المدهون، وتشرحه بالتفصيل، فكل نص من هذا العالم من حق كل شخص تذوقه بطريقته، كذلك شاعرنا يستطيع أن يرفض أنساق الآخرين، كما يفعل الآن بالكتابة والحياة. الكثير من النقاد والمتابعين يتابعون تجربة المدهون بكل حماسة، معتبرين أن الفوضى الظاهرية سحرية، وأن الحرية التي يمتشقها الشاعر مثيرة وتحرر القارئ المكبل بالوزن والمثل الشعرية التقليدية، داخل النص المدهوني يمور حزن وجودي، ويأس بطل، هذا اليأس الشعري الذي يتميز به الفلسطينيون، بالكتابة وبالحياة.
الشاعر في سطور.
غياث المدهون، فلسطيني سوري سويدي، من أصل غزي، مواليد الشام 1979، عاش في مخيمات سوريا، تُرجمت أعماله إلى العديد من اللغات منها السويدية والألمانية واليونانية والإيطالية والإنجليزية والهولندية والفرنسية والإسبانية والتشيكية والكرواتية والألبانية والإندونيسية والفارسية والصينية.
صدر له مؤخرا كتاب نصوص وهوامش: (لقد أحضرت لك يدا مقطوعة،) عن دار المتوسط الإيطالية العربية.