مع حلول العيد، تحلّ الأفراح والمسرّات، وتبتسم الأرواح، وتتعانق القلوب، فيشعر الجميع بالسعادة، والهناء، يقول إيليا أبو ماضي:
يا شاعر الحسن هذي روعة العيد
فاستنجد الوحي واهتف بالأناشيد
هذا النعيم الذي قد كنت تنشده
لا تله عنه بشيء غير موجود
ومن مسرّات العيد لقاء الأحبة، لذا فبُعد الأحبّة ينغص على الشعراء فرحتهم بالعيد، هذا البعد تحدّث عنه المتنبّي في قصيدته الشهيرة:
عيد بأية حال عدت يا عيد
بما مضى أم بأمر فيك تجديد
أما الأحبة فالبيداء دونهم
فليت دونك بيدا دونها بيد
فحين يحول ظرف دون ذلك، يفقد العيد طعمه، كما جرى مع الشيخ الشاعر عبدالله بن علي الخليلي، حين حلّ العيد وشقيقه (سعود الخليلي) كان في القاهرة يشغل موقع السفير، فتذكّره وتذكّر كذلك شقيقه (هلال) فببعدهما عنه، فقدَ العيد حلاوته، فقال قصيدة تعبّر عن هذا الإحساس، وتحمل هذا المعنى وقد بدأها مُطلِقا مجموعة من أسئلة لا جواب لها، فقال:
سل العيد هل غادى ربوعي هناؤه
وهل ساق غير الذكريات مساؤه
وهل صافحتني بالسبات نجومه
وألحفني بالياسمين رداؤه
وهل بات منه جانبي غير شوكة
وهل لذّ لي مقليّه وشواؤه
وهل ساعدتني في الظلام جفونه
على النوم أم أدنى سروري ضياؤه
ثم يعرّج على شقيقيه البعيدين عنه (سعود) و(هلال) فيقول:
سل الراحلين التاركين أخاهما
وراءهما والدهر وعر وراؤه
هل ارتضعا ثدي النعيم فهوّما
عليه وفي النعماء للمرء داؤه
ويفتقد الشاعر مصطفى جمال الدين الأهل عندما كان بعيدا عنهم في دمشق، مستحضرا حال النازحين عن ديارهم، فيقول:
هـذا هـو العيـدُ، أيـنَ الأهـلُ والفـرحُ
ضاقـتْ بهِ النَّفْسُ، أم أوْدَتْ به القُرَحُ؟!
وأيـنَ أحبابُنـا ضـاعـتْ مـلامحُـهـم
مَنْ في البلاد بقي منهم ، ومن نزحوا؟!
وليس بُعد الأحبّة هو الوحيد الذي ينغّص فرحة العيد، فقد تحول ظروف تعيشها منطقة بأكملها، فيفقد العيد طعمه، فحين يتذكر الشاعر عمر أبو الريشة حال الفلسطينيين في العيد يقول :
يا عيـدُ ما افْتَرَّ ثَغْرُ المجدِ يا عيد
فكيـف تلقاكَ بالبِشْـرِ الزغـاريـدُ؟
يا عيدُ كم في روابي القدسِ من كَبِدٍ
لها على الرَّفْـرَفِ العُلْـوِيِّ تَعْييــدُ؟
وفي (غزّة) يحمل العيد شكلا آخر، فبدلا من الألعاب الناريّة، التي ترافق العيد في الكثير من المناطق، امتلأت سماء(غزّة) بالصواريخ وقذائف المدافع التي تسقط على البيوت الآمنة، لتحصد أرواح الأبرياء، ولنا أن نتخيّل عيد الذين يعيشون في الخيام، كما صوّرته الشاعرة فدوى طوقان:
أختاه، هذا العيد رفَّ سناه في روح الوجودْ
وأشاع في قلب الحياة بشاشة الفجر السعيدْ
وأراك ما بين الخيام قبعتِ تمثالًا شقيًّا
متهالكاً، يطوي وراء جموده ألمًا عتيًّا
يرنو إلى اللاشيء.
ومع أصوات القصف، والرصاص، والانفجارات، وأنين الجرحى، وصراخ الأطفال اللائذين بأدعية أمهاتهم، يفقد العيد طعمه، والفرح معناه، والأمل بريقه، وكيف يعيّد الجائعون؟ يقول الشاعر يحيى السماوي :
وكفرتُ بالأسنانِ
جائعةً تلوكُ طحينَ أدعِيَةٍ
وتدرأ جوعَها بالمغفرةْ
نام الجياعُ على وسائِدِ « سورةِ الماعونِ»
أمْسَكَتِ الكرامةُ والمَذلَّةُ مُفطِرةْ
العيدُ عريانٌ
ولا من ناسِجٍ ثوبَ الخلاصَ
لِيَسْترَهْ
لكنّ العيد في كلّ حالاته، يمثّل فرحة، تتجدّد في كلّ عام، ومعه تتجدّد الآمال، فيعود البعيد إلى دياره، وترتفع في المناطق التي تتعرّض للعدوان بشائر النصر والخلاص
وتعلو الزغاريد ، فنردّد مع عمر أبو ريشه:
سينجلـي لَيْلُنا عـن فَجْـرِ مُعْتَرَكٍ
ونحـنُ في فمـه المشْبوبِ تَغْريـدُ
عبدالرزّاق الربيعي شاعر وكاتب مسرحي عماني
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
عبدالرحمن الخزيمي بين «قراءة في جبين نازح بغدادي» و«في صحاري المستحيل»
لم تكن مشاركات الشاعر عبدالرحمن الخزيمي في الملتقيات الأدبية الشبابية بالكثيرة؛ إذ اقتصرت على مشاركتين فقط، لكنه في المشاركتين قدّم نصين أبرزا للمشهد الشعري الشعبي في عُمان شاعرا شابا حاملا أدواته الشعرية البديعة في نسج نصوصه الشعرية التي كان يشتغل عليها بروية وتأنٍ ومراجعات تطول أحيانا يريد من خلالها تقديم نص شعري يليق بحيويته الشعرية المندفعة ذلك الوقت.
عرفت الخزيمي كشاعر لأول مرة في الملتقى الأدبي التاسع بالبريمي عام 2003م، يومها شارك بقصيدة عنوانها (قراءة في جبين نازح بغدادي) حصل بها على المركز الثالث في المسابقة، وكانت شهادة انطلاقة لشاعر شاب قادم من ولاية شناص يحمل مشعل الشعر الشعبي، قبل أن يفوز نصه الآخر (في صحاري المستحيل) بالمركز الأول بمسابقة الملتقى الأدبي الثاني عشر بولاية صور عام 2006م أي بعد ثلاث سنوات من مشاركته الأولى.
وفي تقديري كانت السنوات الثلاث كفيلة بأن تصنع اختلافا كبيرا بين النصين في اشتغالات اللغة على سبيل المثال، وفي الصُّور الشعرية، والبناء الشعري. يومها كان نص الخزيمي فارقا في اشتغالاته الفنية الأمر الذي قدّمه شاعرا مبدعا على الأقل في تحولات القصيدة الشعبية آنذاك.
في الملتقى الأدبي بولاية البريمي طالعنا الخزيمي بنص واقعي، يتناول قضية إنسانية، قضية سقوط بغداد ذلك العام، فاشتغل في فكرته على التجربة الإنسانية بتقديم الوجع الإنساني والمكاني في صورة نص شعري. كان سقوط بغداد يومها حديث الإعلام والناس، فاستغل شاعرنا فكرة النزوح للاشتغال على نص شعري يطوف بنا في عالم الوجع والحزن والألم المسيطر على الإنسان العربي. وبلغة منكسرة داخليا يقرأ الخزيمي الوجع المتمثل في هيئة نازح عن الأرض. ويعتمد النص في واقعيته على اشتغالات اللغة المتطورة التي يصطاد من خلالها الشاعر فكرة السقوط والنزوح والوجع الذي يملأ وجدان العراقي.
تبدأ القصيدة بالبوح والنوح والحزن كمقدمة للدخول إلى الألم الداخلي، فتنطلق الذاكرة في التعبير عن مشاعر مختلطة بين الماضي والحاضر:
تمرّ السالفة ويبتلّ من أحداقها نحري ... وش أقسى من حروف ما تجيك وفي يديها فالْ
دريتي لو يمون الجمر ويشعل هالوطن سري ... بكون أقوى جواد ما تعثّر أو عرف خيّالْ
ولكن تشبه عيوني خيوطك ما لقت فجري ... أنا من سال في دمعة فصول.. وعزة.. ورجَّالْ
أبا ذكركم صرخت البارحة بالحيل يا سطري ... أنا وش لي من الذكرى أصارع دمعتي واحتالْ
أبا ذكركم حكاوي تنتهي فيني وأنا أدري ... بأن الموت في وجهي ونسيت أحمل معي موالْ
كثير البوح يملى هالجهات ويغرفه حبري ... تمدّه قهوة الماضي سواد.. وحبةٍ من هالْ
تذكّرت اللحون اللي طعون تشتهي صدري ... وكان الفجر من دمع الفرات يرتّب الأشكالْ
مسافر ما لقيت إلا جبيني جابر كسري ... أمانه لا تخليني أموت ولا هنا لي بالْ
الذكرة مشحونة، والقلب يفيض بالذكرى، لكن الشاعر وبعد أبيات طالت في إبداء المشاعر والأحاسيس التي من خلالها يوجّه الصورة على الواقع ينتقل إلى استحضار الماضي، وكأنه في عملية الربط هنا يحاول أن يقدّم بغداد الحضارة والتاريخ بعد مشاعره الجياشة، فيستحضر (بابل) في وسط الاسترجاع التاريخي، ويعرّج على العروبة التي سقطت بسقوط بغداد:
ترى يا بابل الماضي هنا في خاطري يطري ... أنينٍ لو نزفنا ما نزفنا غير هالمثقالْ
يا عين الحرف يتبعها بريق الراء في جمري ... واشيل الباء بكفوفي وامنّي بعدها الأجيالْ
لقد استطاع الخزيمي اقتناص الفكرة وتقديمها في لغة اشتغل على دلالاتها جيدا، حاول من خلالها رسم صورة النزوح والألم الذي رافق السقوط، ولعل البيت الأخير في القصيدة يشير إلى ذلك حين قال:
وقفت وكنت أحسبني أشيل الحظ في عمري ... مشيت وما دريت إني أحط الماي في الغربالْ.
برغم الجماليات التي يمكن أن يلحظها القارئ في القصيدة السابقة، فإن الخزيمي قدم في قصيدته (في صحاري المستحيل) نصا مختلفا عن النص السابق، لغة واشتغالا فنيا مال فيه إلى الرمزية أكثر من الواقعية، فكانت الفكرة مغيبة تقريبا، يميل فيها إلى الذاتية والتعبير عن الأنثى والرومانسية كمنطلق في بناء النص. يطالعنا الشاعر بذلك في أول النص، في عتبة العنوان مازجا بين دلالات الوعورة في كلمتي (الصحاري) و(المستحيل) وكأنه يقصد بذلك الدخول إلى عالم الخيال الشعري المكثف، ثم يعرّج على عتبة المقدمة التي لم تزد العنوان إلا رمزية حين قال: «لكل وجهته.. تخط على عباب المصير كل أوراق الغربة والضياع.. لتروي قصة اختزلتها الأيام إلى أرض الرحمة هناك».
تتحول العتبتان إلى إشارة للبحث عن الرمزية، مُشكلة من الغربة والضياع والمستحيل دلالات يتوارى خلفها النص. فيفتتح الشاعر نصه قائلا:
نامت الزرقه بعيونك والمدينة للكسوف
حالمة شقّت سحاب الصدر من فرط الحنين
كان شمع الخوف يقرى عن أساميها الرفوف
وكنت أنا همس الرهان اللي يصافحها رهين!
وش للمدى
إلا عيونك والنخيل
متشابهة كل النجوم بضحكتك
لو لامست أهدابك .. أطراف المدى
وش حيلته كل المطر
صوبك يميل
يتساقط بعين الظما
طاحت ورا شوفك
تواريخ وفصول ...
مارتاحت الشمس بيمينك
وصار للعشب المعلق في ظفايرها سنابل
وش لعثمك؟! هذي عصافيرك.. نجوم بساعتي
ثكلى.. ف موعدها.. عبورك...؟!
في الحنين.
في هذه القصيدة بالتحديد ينطلق الشاعر من زوايا عدة لبناء قصيدته، فنجده إضافة إلى رمزية الدلالات، يمزج في خطابه إلى الأنثى رومانسية مجروحة، تشربت بالغياب والرحيل، فهو يفتقد إلى الآخر الذي كان صورة من الماضي، هنا تتحول الرومانسية إلى لغة ضائعة وأنين وفقد وبحث عن الماضي. المقطعان الآتيان يشيران إلى فكرة امتزاج الرمزية بالخطاب الرمزي المغترب والحزين، إذ نجد الشاعر يتلاعب برمزية الدلالات في المقطع العمودي محاولا التنصل من فكرة محددة، أما في المقطع التفعيلي نجده يشتغل الخطاب الأنثوي الباحث فيه عن الغياب والفراق:
كان محرابي عجاج وكان لون الصبر خوفْ ... وكنت رمز الجوع في ظل الخلود المستكينْ
آه يا قلب المواني من كسر عزم الحروفْ؟ ... يندفنْ هالعمر وانتي شامخة مثل الأنينْ
صرت ابطعن هالثواني وكان منديلي سيوفْ ... سالفة صحَّتْ فتات الخبز في عين السجينْ !!!
يومها لف البحر رمل الحواري بالحتوفْ ... ونام ذا الليل بضلوعي والهدب حارس امينْ !
هذه الليله هي الأولى
هذه الليلة هي الذكرى الكفيفة بالرحيل
جيت ابذكر بعد خمس سنين
وش معنى غيابك
ضايع بعينك
وانا الصمت القتيل
شفت هالدنيا حناجر
كلها صاحت عليك
وانا مثل الارض
لاصارت يباب
وانتي اجمل نهر
يجري في صحاري المستحيل !!!
يمزج الخزيمي بين تفعيلات الشعر وبين النص العمودي في محاولة لإيجاد نص مكتنز بالدلالات، يراوح فيها بين النغم الموسيقي وهذا الاشتغال في ذاته ينبئ عن مهارة يشتغل عليها الشاعر في إيجاد تصارع دلالي في المعاني.
لعل النصين السابقين كانا من النماذج البارزة التي مرّت على نصوص الملتقيات الأدبية والتي يومها كانت متنفسا للشعراء الشباب الذين يشتغلون على نصوصهم الشعرية بروية وتأنٍ، فكان عبدالرحمن الخزيمي واحدا من الشعراء الذين أنجبتهم مسابقات الملتقى الأدبي.