التحكيم مع التفويض بالصلح
تاريخ النشر: 14th, May 2024 GMT
أنور خميس العريمي *
alaraimianwar@gmail.com
في جميع شؤون الحياة -سواءً في التشريعات الدينية أو القانونية- توجد ثمَّة استثناءات من الأصل تكون ضرورية لتنظيم حياة الناس، ومعيشتهم وأعمالهم وحل مشاكلهم والتحديات التي قد تُواجههم بهدف تجاوزها بكل مرونة وأريحية، وبدون تعقيدات؛ من خلال اختيار حلول مناسبة لكل مُشكلة خاصة وتحدٍّ نوعي حسب الأوضاع والأحوال في تلك الفترة أثناء الحوادث الطارئة والنزاعات التجارية وغير التجارية التي تحصل فيما بين الناس في مختلف المعاملات التجارية والمالية.
ولمَّا كان التحكيم هو قضاء خاص وحل استثنائي بديل للفصل بين الأطراف في النزاعات حول علاقات قانونية ذات طابع اقتصادي محلية كانت أو دولية، وخروجاً عن الأصل العام المتعارف عليه وهو القضاء العام، حينها يكون التحكيم من الضروريات المطلوبة في فضِّ تلك المنازعات النوعية الخاصة في بعض المجالات؛ وبالتالي الناظر من أول وهلة إلى العنوان يتبادر إلى ذهنه وتفكيره أن المقصود منه هو حل النزاع بطريق الصلح والتسوية الودية، رغم أنَّ بعض الفقهاء صرَّح بذلك بأنَّ مهمة المحكم في التحكيم بالصلح أنه يُجري صلحاً وتوفيقاً بين أطراف الخصومة، وهذا القول حقيقةً لا يستقيم وأسلوب التحكيم وإجراءاته القضائية ودور المُحكِّم فيه، بل هناك فرق شاسع بين الصُّلح والتوفيق من جهة، والتحكيم مع التفويض بالصلح من جهة أخرى، وكل له أسلوبه وإجراءاته .
حيث يكون التحكيم وفقاً للقانون وهو الأصل؛ بحيث يحكم فيه المُحكِّم على الأطراف المتنازعة بتطبيق الأحكام والقواعد القانونية الحاكمة لمعاملاتهم التجارية والمالية، وقد يكون التحكيم مع شرط التفويض بالصلح أو التحكيم المُطلق كما تسميه بعض البلدان، لإطلاق يد هيئة التحكيم عن القيود المفروضة عليه باتباع إجراءات وأحكام معينة؛ وذلك بأنْ تكون الهيئة مُخوَّلة بأن تفصل بين المتنازعين وفقاً لقواعد العدالة والإنصاف، للمحافظة على التوازن الحقوقي في العقد، وتكون حرة بدون تقييد والتزام بالقواعد القانونية بنوعيها الإجرائية والموضوعية، إلا ما تعلّق منها بالنظام العام كالمبادئ الأساسية في التقاضي والقواعد القانونية الآمرة، ويعدُّ هذا النوع الذي نحن بصدده وسيلة استثنائية؛ حيث يراه بعض رجال الأعمال الذين تربطهم علاقات قوية ومصالح مشتركة ملائمًا جدًّا يلجأون إليه لفض نزاعاتهم؛ حيث عليهم في حالة الاختيار الإرادي لتلك الوسيلة الاستثنائية من اتفاق صريح واضح بدون غموض حسب اشتراط بعض النصوص التشريعية؛ حيث نصت المادة (39/4) من قانون التحكيم العماني الصادر بالمرسوم السلطاني رقم (47/97) على أنه: "يجوز لهيئة التحكيم -إذا اتفق طرفا التحكيم صراحة على تفويضها بالصلح- أن تفصل في موضوع النزاع على مقتضى قواعد العدالة والإنصاف دون التقيد بأحكام القانون"؛ باعتبار أنه تنازل اتفاقي بين الأطراف عن الأصل القائم والطبيعي ألا وهو التحكيم بالقانون، كما هي الحال في اختيار التحكيم بدلاً من القضاء العادي بشكل عام.
ولا يُمكن لوكلاء الأطراف في مثل هذه الأحوال إلا أن يكون لديهم تفويض خاص يُخوِّلهم لإبرام مثل هذه الاتفاقيات بحسبانها تنازلاً عن حقوق شخصية في القانون والعقد المبرم بينهم من خلال الرخصة لهيئة التحكيم المفوضة بالصلح لنظر النزاع وتسويته.
وعلى ضوء ذلك؛ فإن ما يتميَّز به المحكِّم المفوض بالصلح من مهام عن النوع الآخر: البحث عن حل عادل ومتوازن لكلا الطرفين؛ من خلال توزيع المخاطر التعاقدية وتخفيف وطأة البنود الجزائية والغرامات التأخيرية...وغيرها من الأمور المبالغ فيها، أو رفعها إذا كانت غير كافية للوصول إلى حل مقبول وملائم للنزاع القائم استناداً لقواعد العدل والإنصاف؛ من خلال قواعد قانونية معينة يَرَاها مناسبة لتحقيق ذلك؛ حيث كذلك لدى المحكِّم السلطة المطلقة في استبعاد قواعد القانون الواجب التطبيق في النزاع، إن هو ارتأى ذلك.
ومن ناحية أخرى، يظل التخوُّف الكبير لدى بعض أطراف النزاع من هذا النوع من التحكيم بصدد إعطاء هيئة التحكيم السلطة الكاملة والمطلقة في حل النزاع بدون قيود، مما قد يؤدي أحياناً لضياع حقوق طرف على حساب الآخر، أو الإفراط في مسألة التعويضات عن الإخلال في تنفيذ العقد أو التفريط في تطبيق البنود المهمة فيه دون الاعتدال بين هذا وذاك؛ وبالتالي ينبغي على الأطراف في هذه النوعية من التحكيم ضرورة اختيار المحكِّم المناسب المتمكن، وتعيينه في شرط التفويض بالصلح؛ من خلال تحديد اسمه، لثقتهم واطمئنانهم لتحقيقه للعدالة والتعامل مع متطلبات هذا النوع الحساس في التحكيم التجاري.
وعلى أساس ذلك؛ فمن الضروري جدُّا تسبيب المحكمين المفوضين بالصلح لأحكامهم النهائية؛ لضمان أنهم أسَّسوا هذه الأحكام بمقتضى قواعد العدل والإنصاف، الذين فوَّضهم الأطراف بها وأعطوهم الثقة في إصدار قرارات فاصلة على ضوء المصالح والعلاقات التجارية المشتركة، وإضافة لذلك سهولة تحقُّق المحكمة ورقابة القضاء عليها حينما يتم رفع دعوى البطلان، والتأكد من أنهم طبَّقوا ما أسند إليهم في هذه المهمة الاستثنائية والسلطة المطلقة؛ بحيث عليهم بيان الأسباب التي أدَّت لتطبيق قواعد قانونية معينة على النزاع من عدمه، وتقديم تبريرات منطقية بأنها أكثر عدالة لتسويته.
ومن الملاحظ انطباق جميع أحوال البطلان نفسها في التحكيم بالقانون على التحكيم مع التفويض بالصلح، إلا فقط ما يتعلق باستبعاد القانون الواجب التطبيق على موضوع النزاع.
وختاماً.. شرط التفويض بالصلح له دور إيجابي وهدف سامٍ مهم لطرفيْ النزاع؛ ألا وهو: الحفاظ على العلاقات التعاقدية الطيبة والاستدامة في حُسن المعاملات التجارية بين رجال الأعمال.
* خبير هندسة مسح الكمیات ومحكم تجاري
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
هل الأطراف الصناعية تُعتَبَر من الصدقة الجارية؟.. الإفتاء توضح
تلقت دار الإفتاء المصرية سؤالا مضمونه: هل الأطراف الصناعية والأجهزة الخاصة بمرضى الشلل التي تُعطى مجانًا للفقراء والمحتاجين تُعتَبَر من الصدقة الجارية؟
وأجابت الإفتاء عن السؤال قائلة: إن كان الجهاز المسؤول عنه يُمَلَّك للفقير أو المسكين فلا يكون من باب الصدقة الجارية؛ بل هي صدقة عادية؛ حيث إنه بملكيته له يكون له حقّ التحكم فيه باستفادة شخصية أو عدمها، أو بإعارة، أو ببيع أو غير ذلك، ويُورَث عنه إذا مات، ووارثه يكون له ذلك؛ فقد لا يحتاج له فلا يستعمله، أو يعيره، أو يبيعه، وهكذا.
أما إذا كان لا يملكه الفقير والمسكين، بل يستعمله كلٌّ منهما حتى إذا استغنى عنه استعمله غيرُهما ممَّن يحتاج إليه، وهكذا حتى ينتهي عمر الجهاز ويفقد صلاحيته للعمل فإنه يكون من الصدقة الجارية طيلة مدة استعماله.
الصدقة الجارية
وأوضحت ان الأصل أنَّ الصدقة الجارية هي: كل صدقةٍ يجري نفعُها وأجرُها ويدوم؛ كما عرَّفها بذلك القاضي عياض المالكي في كتابه "مشارق الأنوار على صحاح الآثار"، وقد حملها جماعة من العلماء على الوقف؛ لأنه أوضح ما تتحقق فيه الصدقة الجارية؛ حيث إن الوقف يدوم أصله وتتجدد منفعتُه؛ قال العلامة الخطيب الشربيني الشافعي في "مغني المحتاج" (3/ 523، ط. دار الكتب العلمية) [وَالصَّدَقَةُ الْجَارِيَةُ مَحْمُولَةٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْوَقْفِ كَمَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ؛ فَإِنَّ غَيْرَهُ مِنْ الصَّدَقَاتِ لَيْسَتْ جَارِيَةً، بَلْ يَمْلِكُ الْمُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ أَعْيَانَهَا وَمَنَافِعَهَا نَاجِزًا. وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ بِالْمَنَافِعِ وَإِنْ شَمِلَهَا الْحَدِيثُ فَهِيَ نَادِرَةٌ، فَحَمْلُ الصَّدَقَةِ فِي الْحَدِيثِ عَلَى الْوَقْفِ أَوْلَى] اهـ.
وللعلماء في الأنواع الأخرى التي لا ينقطع منها عمل المسلم بعد موته مسلكان:
فمنهم من يقصر الصدقة الجارية على الوقف -كما يُفهَم من كلام الخطيب الشربيني السابق-، ويجعل بقية الأنواع من الصدقة الجارية حكمًا؛ لأنها باقية كبقاء الوقف؛ يقول العلامة الشَّبْرامَلِّسي الشافعي في "حاشيته على نهاية المحتاج" للشمس الرملي (1/ 39، ط. دار الفكر-بيروت) بعد أن ذكر نظم الحافظ السيوطي: [ولعله إنما فصَّلها كذلك لورودها بأعيانها كذلك مُفرَّقةً في أحاديث، وإلا فيمكن ردُّ ما ذكره إلى ما في الحديث؛ بأن يُجعل تعليمُ القرآن من العلم الذي يُنتَفَع به، وما عداه من الصدقة الجارية ولو حكمًا، بجامع أن ما أجراه من الأنهار وحفرَه من الآبار وغرَسه من الأشجار ولو في ملكه ولم يَقِفْه والمصحفَ الذي نسخه أو اشتراه مثلًا ثم مات عنه ورباطَه بقصد الجهاد في سبيل الله آثارُه -مِن تَعَدِّي نَفْعِه للمسلمين- باقيةٌ كبقاءِ الوقف] اهـ.
ومنهم مَن يجعل الصدقة الجارية أعمَّ من الوقف، ولا يقصرها عليه، ولا يمنع من دخول بقية الأنواع تحت اسم الصدقة الجارية، وهذا المسلك أنسب بعموم اللفظ؛ إذ لا دليل على التخصيص بالوقف.
قال الحافظ أبو بكر البيهقي الشافعي في "شعب الإيمان" (5/ 121، ط. مكتبة الرشد) بعد أن روى حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: «إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ، أَوْ وَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ، أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ، أَوْ بَيْتًا لِابْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ، أَوْ نَهَرًا كَرَاهُ، أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ تَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ»، وحديث أنس رضي الله عنه مرفوعًا: «سَبْعَةٌ يَجْرِي لِلْعَبْدِ أَجْرُهُنَّ وَهُوَ فِي قَبْرِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ: مَنْ عَلَّمَ عِلْمًا، أَوْ كَرَى نَهَرًا، أَوْ حَفَرَ بِئْرًا، أَوْ غَرَسَ نَخْلًا، أَوْ بَنَى مَسْجِدًا، أَوْ وَرَّثَ مُصْحَفًا، أَوْ تَرَكَ وَلَدًا يَسْتَغْفِرُ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ» قال معقبًا عليهما: [وهما لا يخالفان الحديث الصحيح؛ فقد قال فيه: «إلّا مِن صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ»، وهي تجمع ما وردا به من الزيادة] اهـ.
وبناء على ذلك أن كان الجهاز المسؤول عنه يُمَلَّك للفقير أو المسكين فلا يكون من باب الصدقة الجارية؛ بل هي صدقة عادية؛ حيث إنه بملكيته له يكون له حق التحكم فيه باستفادة شخصية أو عدمها، أو بإعارة أو عدمها، أو ببيع أو غيره، ويورث عنه إذا مات، ووارثه يكون له ذلك: فقد لا يحتاج له فلا يستعمله، أو يعيره، أو يبيعه، وهكذا.
أمَّا إذا كان لا يملكه الفقير والمسكين، بل يستعمله كل منهما حتى إذا استغنى عنه استعمله غيرُهما ممَّن يحتاج إليه، وهكذا حتى ينتهي عمر الجهاز ويفقد صلاحيته للعمل فإنه يكون من الصدقة الجارية طيلة مدة استعماله.