الإبداع والحرية.. صنوان لا يفترقان
تاريخ النشر: 27th, May 2024 GMT
أ. د. حيدر أحمد اللواتي **
تؤدي الفرضية العلمية دورًا رائدًا في المنهج العلمي، فهي المفتاح الأول والأساسي الذي يحرك عالِم الطبيعة، نحو البحث والتحقق من صحة الفرضية، ومن هنا فإن عالِم الطبيعة المبدع هو الذي يستطيع أن يأتي بفرضيات جديدة يستطيع من خلالها تفسير ظواهر علمية معينة، ومن ثم التوصل إلى نظريات علمية جديدة، ولربما تكون نظرية الكم التي أحدثت انقلابًا ثوريًا للمفاهيم الفيزيائية، خير مثال يوضح لنا أهمية الفرض العلمي، فهذه النظرية نشأت ونمت بسبب فرض علمي فرضه الفيزيائي الكبير ماكس بلانك (1858- 1947)؛ حيث افترض بأن الطاقة عبارة عن كمات منفصلة وليست متصلة.
ولا نريد أن نغرق في التفاصيل العلمية لهذه الفرضية، ولكننا نؤكد إنها كانت ثورة في عالم الفيزياء قلبت كيان العلم رأسا على عقب وما زالت تبعاتها مستمرة، لذا عدها البعض بأنها أحد اللحظات التاريخية في حياة البشرية برمتها، بل إن ماكس بلانك نفسه بدا متشككا من فرضيته وعلّق عليها بقوله "التجربة وحدها ستثبت واقعية هذا الفرض من عدمه".
والسؤال الذي شغل الكثيرين، من أين جاء ابداع ماكس بلانك ومن أين أتى بهذه الفرضية الغريبة؟ بل ويمكننا تعميم السؤال فنتساءل ما هو مصدر الابداع عند علماء الطبيعة؟
يرى الكثيرون أن الخيال هو مصدر الإبداع العلمي، ولذا نجد أن كبار علماء الطبيعة أكدوا على أهمية الخيال الخصب والواسع للعالِم، فعالِم الطبيعة كالفنّان، يقول آينشتاين "الخيال أهم من المعرفة، فالمعرفة محدودة بما نعرفه الآن وما نفهمه، بينما الخيال يحتوي العالم كله وكل ما سيتم معرفته أو فهمه إلى الأبد"، ويقول الفيزيائي الشهير ريتشارد فاينمان "اللعبة التي أمارسها لعبة مثيرة للغاية؛ إنها لعبة الخيال، لكنه الخيال المقيد".
إن إبداع عالِم الطبيعة والفنّان الموهوب ينطلق من خيال خصب لكن الثاني ينطلق في خياله دون قيد أو شرط ولا يهمه إن كان خياله مصيبا للواقع أم مخالفاً له، فالفنّان ينطلق بخياله ليرسم أو ينحت أو يصور، ما توصل إليه خياله دون أن تكون أمامه عقبة أو حاجز، وهكذا ينطلق عالِم الطبيعة ويسمح لخياله الخصب أن يطوف العالَم شرقا وغربا، لكن الفارق بين ما يتوصل إليه الفنان وبين ما يتوصل عالِم الطبيعة بأن ما يتوصل إليه الأخير لابد وأن يكون له واقع في الخارج، ويمكن للآخرين التحقق من صحته بالتجربة والرصد والملاحظة، فلا يسمح لخياله أن يتصور ما يشاء دون قيد الواقع الخارجي للطبيعة وهذا ما عناه فاينمان بقوله "لكنه الخيال المقيّد".
ومن هنا؛ فالخيال هو منجم الإبداع عند الإنسان أكان عالِم طبيعة أو نحّاتا أو فنّانا، بل هناك من يرى أن الخيال الخصب هو المنبع للأسطورة أيضًا، لكن الأسطورة تضع خيال الفنان في لوحة الواقع وتقلبه حقيقة فيتحول الخيال إلى أسطورة، فالفن والعلم والأسطورة كلها نتاج خيال الإنسان!
ومن هنا تأتي أهمية التربية التي تسمح للعقل أن يسبح في مساحة واسعة من الحرية، فلكي يتمكن الإنسان من أن يبدع فيطرح فرضيات علمية، أو يرسم لوحة فنية فريدة من نوعها، عليه أن يسبح في فضاء رحب من حرية الخيال، لكن بعض المجتمعات تفرض قيدا على خيال المبدع لأنها لا تمنحه مساحة آمنة يستطيع من خلالها أن يفصح عن تلك الفرضيات إلا إذا كانت الفرضيات مألوفة وتسالم عليها المجتمع، فأنّى لهذا العالِم والفنّان أن يُبدع، وخياله لم يغادر فرضيات مجتمعه التي نشأ وترعرع عليها!
إن علينا أن ندرك أن الإبداع في كل مجالات الحياة مرهون بتوفير مساحة واسعة لتداول الأفكار وطرحها، فلا يمكن للإبداع أن يلد في بيئة لا تسمح بذلك، فالإبداع والحرية صنوان لا يفترقان، ولا يمكن أن نطالب بحلول من خارج الصندوق للأزمات التي نعيشها ما لم نسمح بتداول الأفكار غير المألوفة.
وقد يشكل البعض على مفهوم حرية تداول الأفكار بأن ذلك سيعرض المجتمعات إلى أفكار سيئة ومفاهيم خاطئة وسيحدث إرباكا في المجتمع وهذا أمر وإن بدا صحيحا إلا إن المتتبع لحركة التطور في المجتمعات عموما سيجد أن تطورها مواكب للحرية الفكرية وكأن الثمن الذي تدفعه المجتمعات للتطور في مختلف المجالات هو إيجاد مساحة كبيرة للحرية الفكرية وهذه الحرية الفكرية ستسمح للأفكار المختلفة بأن تطرح، الغث منها والسقيم، إذ إننا لا نملك وسائل أو آليات نستطيع من خلالها السماح لطرح أفكار رائعة فقط، فلابد من طرح الفكرة أولا-بعد أن يقيّمها صاحب الفكرة ويعتقد أنها مفيدة،- رائعة كانت أو سقيمة ومن ثم تقييم الفكرة ونقدها سلبا أو إيجابا، وهنا تبرز أهمية بناء الفرد في المجتمع على التفكير الناقد والسليم حتى يستطيع أن يميّز بين الأفكار ويقيّمها ويفرّق بين السقيم منها والسليم.
ختامًا إن من يرجع إلى تاريخ مختلف العلوم الطبيعية منها والإنسانية، سيجد أن كما لا بأس به من الفرضيات والمفاهيم والنظريات العلمية التي تسالمت عليها المجتمعات فيما مضى، انقلبت اليوم رأسا على عقب فما كان ممنوعا بالأمس عند تلك المجتمعات غدا اليوم مسموحا به بل ربما عُدَّ أرجح الآراء وأكثرها صوابًا.
** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
كايسيد يحتفل بمرور 10 أعوام على برنامج الزمالة الدولية
صراحة نيوز- احتفل مركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات (كايسيد)، في العاصمة البرتغالية لشبونة، بالذكرى العاشرة لإطلاق برنامج كايسيد للزمالة الدولية، أحد أبرز برامجه الرائدة في بناء قدرات القيادات الدينية والتربوية والمجتمعية حول العالم.
وشهدت الفعالية مشاركة واسعة من شخصيات دينية ودبلوماسية وأكاديمية تمثل دولًا وثقافات متعددة.
وفي كلمته الافتتاحية، أكد الأمين العام بالإنابة السفير أنطونيو ريبيرو دي ألميدا، أن إطلاق البرنامج قبل عقد جاء انطلاقًا من قناعة بأن السلام المستدام لا يتحقق دون إشراك الفاعلين الأقرب إلى المجتمعات. وقال:
“آمنا منذ البداية بأن الحوار يجب أن يُبنى على الثقة المتبادلة، وأن تكون أصوات المجتمعات المحلية جزءًا من صناعة القرارات الوطنية والدولية، فالسياسات والمؤسسات مهمة، لكن السلام يظل ناقصًا ما لم يكن شاملًا للجميع.”
وأشار إلى أن البرنامج أثبت خلال عشر سنوات قوته التحويلية حين يتحول الحوار من مفهوم نظري إلى ممارسة واقعية تقودها المجتمعات نفسها، موضحًا أن شبكة الزملاء تضم اليوم قيادات من نحو 100 دولة تمثل مدارس دينية وثقافية متعددة.
من جهته، أوضح عضو مجلس إدارة المركز وممثل الكرسي الرسولي للفاتيكان لوران بسانيت، أن نهج كايسيد يقوم على تعزيز التعاون بين القادة الدينيين وصناع القرار لمعالجة تحديات عالم اليوم، مبينًا أن المركز يزود القيادات بمهارات في حقوق الإنسان ويفتح أمام صناع القرار آفاقًا لفهم أعمق للثقافات الدينية.
وأكد الأمين العام السابق للمركز فيصل بن معمر، أن البرنامج يستند إلى رؤية تأسيسية ترى أن السلام الحقيقي يصنعه أفراد ومجتمعات تلتقي على أرضية الثقة، وأن الحوار يجب أن يتحول إلى ممارسة يومية تتجسد في مبادرات واقعية على الأرض.
وفي السياق ذاته، أوضح مدير برنامج الزمالة أندرو ج. بويد، أن الحوار بين أتباع الأديان والثقافات هو لقاء يقوم على الإصغاء الفعّال والمتعاطف وغير المتحيز، بهدف تعزيز الفهم المشترك والتعاون لتحقيق الأخوة الإنسانية والسلام.
وتضمّنت فعالية الذكرى العاشرة عروضًا وشهادات مؤثرة لخريجي البرنامج حول أثر مبادراتهم في مجتمعاتهم، إضافة إلى جلسة نقاشية تناولت مستقبل الحوار عالميًا.
ويُشار إلى أن البرنامج أُطلق عام 2015 ضمن مبادرات المركز الرامية إلى تطوير كفاءات القيادات الدينية والتربوية والمجتمعية. ويمتد على مدار عام كامل يجمع بين التدريب الحضوري والافتراضي، ويُختتم بمنحة صغيرة لدعم تنفيذ مشروع حواري يخدم المجتمع المحلي للزملاء