الشعر البدوي كجنس أدبي يُعتقد أنه جاء للسودان مع هجرة القبائل العربية التي بدأت باكراً قبل الإسلام؛ واستمرت إلى القرن الخامس عشر الميلادي..(هكذا يحكي عادل بابكر) ومن خلال الهجرات العربية المتتابعة من شبه جزيرة العرب إلي حيث المراعي والماء..!
تلك الهجرات التي نقلت معها تقاليد عميقة الجذور من الشعر الشفاهي.

.الذي كان يلعب دوراً لا غنىً عنه في حياتهم اليومية..ففي هذه المجتمعات تسود الأمية بصورة مهيمنة..فالشعر يُلقى ويُنشد ويُترنم به..ولكن لم يحفظ أي شيء منه مكتوباً..وبهذا لم يكن له إرث يذكر..!
لا دليل على أن المسدار كان معروفاً في السودان قبل الحكم التركي (1820-1885)..فالمسدار مثل غيره من أشكال الشعر الشعبي يتم تناقلها شفاهة..وهي الحالة التي نتج عنها أن المسادير التي تمّ نظمها مبكراً ضاعت مع الزمن ..ّ!
ويرجّح (سيد حامد حريز) أستاذ الفولكلور الشهير أن المسدار ظاهرة شعرية جاءت مؤخراً ويصفه بأنه "مرحلة متقدمة" من تطوّر الشعر الشعبي. وفي بحثه القيم متقن التوثيق وكتابه بعنوان "فن المسدار" يرى د.حريز أن المسدار هو "شكل فني في هيئة قصيدة سردية مطوّلة اقترنت بمرحلة متقدمة في تطوّر الشعر"؛ وأن هذه المرحلة المتطورة كانت في الحكم التركي..وأن الصوّر الأولية من المسادير التي وصلت إلينا تتبع لذلك العهد..!
الرواد الثلاثة الأشهر لهذا الفن هم إبراهيم الفرّاش (1847-1883) وعبد الله أبو سن (؟؟؟؟- 1909) وأخوه الحردلو (1830-1916)..وبما أن الأخوين محمد أحمد وعبدالله من معاصري الشاعر إبراهيم الفرّاش..يبدو أنهما قاما بتناول المسدار في مرحلة متأخرة من حياتهم، على خلاف الفرّاش الذي مات في العهد التركي قبل المهدية..ومن بين ثلاثتهم أصاب الشهرة صاحبنا الحردلو باعتباره (شيخ المسدار) الذي لا خلاف عليه..!
الجيل الثاني من شعراء المسدار يشمل (أحمد عوض الكريم أبو سن) و(عبد الله حمد ود شوراني) و(الصادق حمد الحلّال- الصادق ود آمنة) و(عاجب ود موسى) وآخرين..هؤلاء الشعراء ظلوا مخلصين لفن المسدار الكلاسيكي شكلاً ومحتوى و"تكنيك"..!
ومع أن بعضهم انسحب من نمط الترحال البدوي وعاش حياة مستقرة إلا أن أشعارهم ظلت تحمل الروح البدوية..وبالنظر إلى حياتهم الجديدة..فقد وجدوا أيضاً طريقهم للتعبير عنها من خلال المسدار..!
ومثالاً لذلك فقد تسرّبت إلى أشعار أحمد ود عوض الكريم أبو سن الذي استقر في خشم القربة وأصبح مزارعاً تعبيرات ومفردات مدينية حضرية مثل: القطار والمسرح (التياترو) ومشروب (الجن)..!
**
مفردة (مسدار) تعني لغة اسماً للفعل (سَدَر) الذي يعني عزم السير إلى جهة ما، ومسدار تعنى مكاناً معلوماً ما، أو مقراً تتجه إليه الماشية بحثاً عن الماء والكلأ..ولكل قبيلة رعوية مسدار أو مسادير ومرعي أو مورد تمكث به لأيام ثم ترحل عنه لتعقبها غيرها من القبائل..!
والمسدار بهذا المعنى يستخدم بكثرة في شعر الشكرية...ففي (مسدارسيتيت) يقول الشاعر عبد الله ود أبو سن عن محبوبته التي تشبه الظبية صغيرة السن:
عَناق الأريل المسدارا جبره
تحادثني حديثاً كلّو عبره
أنا ان جنيتا قط ماظني ببرا
بلا عناب جناين وادي شبره
وباعتبار المسدار شكل ونمط شعري فهو يمثّل قصيدة مطوّلة تتكوّن من عدد من المربوعات التي تصف رحلة الشاعر إلى محبوبته..! والرحلة قد تكون حقيقية في الأرض مثل (مسدار قوز رجب) للشاعر حمد الحلال...أو تكون خيالية كما في أمثال عديدة من المسادير.
وفي كل الأحوال فهي قصيدة حب طويلة تصف نزوع الشاعر وسعيه إلى محبوبته؛ فمشاعر الحنين السيّالة المتدفقة يتخللها وصف الأمكنة التي يمر بها طريق الرحلة، وطبوغرافية الأرض والمعالم البارزة..ويحمل المسدار أحياناً اسم المكان الذي انطلقت منه الرحلة مثل (مسدار رفاعة) و(مسدارسيتيت) و(مسدارالصباغ).
**
شاعر مصري وباحث في الشعر الشعبي "عبد الستار سالم" يورد عن هذا النوع من الشعر البدوي عدة أجناس ويذكر منها الرباعية و(الحردلو السوداني) "هكذا يسميه"..! والموال والدوبيت والعدودة (نواح على الميت) والنميم والجنزير والسلسلة والقولة و(الواو)..ويقول إنها جميعها من (عائلة التربيع) الذي يسمونه في الشام العتايا ونعناع الجنينة وفي العراق الابوذية وفي الخليج النبطي وهو يذكر المسدار ويقول الباحث المصري عنه تحديداً (المسدار السوداني)..!
**
بعض المسادير تصف رحلة قد تستمر لعام كامل..وبدلاً من التركيز على أسماء الأمكنة تتجه أكثر إلى وصف تقلبات الطبيعة الخلوية وأجواز الفضاء...فهي تصوّر أحوال تغيّرات الطقس وتمثّل لها بمواقع وحركة النجوم..وكل تغّير في المناخ يعني خطوة وعتبة للاقتراب من المحبوبة واشتعال الحنين..!
**
مثال ذلك (مسدار النجوم) لـ"ود شوراني" وإشارته إلى (نجم النطح) الذي يرتبط بفصل الصيف:
غاب نجم النّطِح والحر علينا اشتدّا
ضيّقنا وقِصِر ليلو ونهارو امتدا
نَظِرت المنو لي القانون بقيت اتحدى
فتحت عندي منطقة الغُنا الإنسدا
هنا يقول "عادل بابكر" بذات الشاعرية:
Al-Natih star went down,
leaving us in a stifling heat,
with nights getting shorter and days longer
Her glance emboldened me to defy all laws,
and released streams of songs long-blocked inside..
هنا يشرح عادل بابكر في هوامشه (التقويم البدوي) لمواسم العام والفصول المناخية. وهو تقويم يجعل لكل نجم (عِينة) من العِيّن ويطلقون على النجوم أسماء محلية؛ ويتم تقسيم كل فصل من فصول العام الأربعة إلى (سبع عِيّن) بمجمل 28 عينة في العام..ومدة العِينة 13 يوماً..وفي المثال السابق يمثل غياب نجم النطِح تحوّل المناخ إلى ارتفاع كبير في درجة الحرارة..!
**
عجيبة (منطقة الغُنا الانسدا) هذه عند ود شوراني..! ونقول ويقول غيرنا إنها وقع الحافر على الحافر بين ود شوراني "البدوي" ومحجوب شريف "الحضري" ..ومحجوب شريف يقول: (وتفتح كلمة من عينيك لي مجرى الغُنا المسدود)..!
مَنْ الذي يستطيع أن يشكّك في مصادر إلهام هذين الرجلين وفي الإبداع السوداني العجيب..؟!
ألم يقل عاطف خيري: (أقيفي معاي.. نشيل كتف الغُنا الميّل)..؟!

مرتضى الغالي

murtadamore@yahoo.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: أبو سن

إقرأ أيضاً:

أبو المعاطي.. حكاية رجل يحمل العالم على كتفيه من أجل زوجته وأخته

في أحد أحياء محافظة الدقهلية، يعيش رجل قد يبدو بسيطًا في مظهره، لكنه يحمل بين طيات قلبه قصة إنسانية استثنائية، لا تُشبه سواها. 

أبو المعاطي، النجار الذي تخلّى عن مهنته ليكون الظهر والسند لامرأتين لا يملك غيرهما في الحياة: زوجته المصابة بضمور العضلات، وشقيقته التي لا تغادر الفراش منذ سنوات.

من خلال ظهوره المؤثر في برنامج "تفاصيل" الذي تقدمه الإعلامية نهال طايل على شاشة "صدى البلد"، روى أبو المعاطي رحلته التي امتدت لما يزيد عن 17 عامًا، قضاها بين خدمة ورعاية لا تتوقف، رغم غياب أي دعم أو سند.

قال بصوت يغلب عليه الرضا والحزن: “لو خيروني بين الدنيا وما فيها وبين زوجتي وأختي، مش هاختار غيرهم.. هما هدية ربنا ليا”.

زوجته التي بدأت حياتها الزوجية بصحة جيدة، سقطت فريسة مرض ضمور العضلات، لتفقد مع الوقت القدرة على الحركة تمامًا، ولم يتبقَ لها سوى عينين تتحدثان وصوت خافت بالكاد يُسمع.

 أما شقيقته، فقد بدأت الأعراض مبكرًا، لتصبح حبيسة الفراش لا تتحرك ولا تتكلم، في غياب تام للأب والأم.

تخلّى أبو المعاطي عن مهنته نجارًا ليكرّس حياته بالكامل لرعايتهما. يحمل زوجته إلى الحمام، يُطعمها، يغسلها، يُقلب جسدها ليلًا كي لا تصاب بتقرحات، ويواسي شقيقته التي لا تنطق. يقول: “أنا ما نمتش من 17 سنة.. بس الحمد لله”.

ورغم العبء الثقيل، لم يُقصّر في حق ابنتيه، الكبرى طالبة جامعية، والصغرى في المرحلة الثانوية، يحاول جاهدًا أن يبقى أبًا حاضرًا، رغم أن قلبه ووقته مسخّران لمن لا يملكن القدرة على طلب شيء.

ورغم كلمات المارة التي تقول له "إنت في الجنة من دلوقتي"، يردّ بهدوء: "أنا مش بعمل ده عشان الجنة، أنا بعمله عشان بحبهم".

لا يطلب أبو المعاطي الكثير، فقط يحلم بمكان آمن يضمن الرعاية الطبية لزوجته وأخته، وبفرصة بسيطة ليعود إلى عمله دون قلق من سقوط إحداهن أو تعطل جهاز التنفس.


"نفسي في بيت رعاية أو مستشفى ترعاهم.. أنا تعبت، بس عمري ما هسيبهم"، قالها بينما عيناه تفتشان عن بصيص أمل في قلوب الناس.

لو حابة نص بصيغة أقصر للسوشيال ميديا أو بمقدمة تلفزيونية، أجهزه لك فورًا.

طباعة شارك برنامج تفاصيل نهال طايل مرض دعم الاسرة الرجولة

مقالات مشابهة

  • رحلة جمالية في مدونة شعرية
  • ٣٠/ يونيو، ليلة القبض علی جَمْرَة!!
  • فى ذكرى ميلاد رفعت الجمال.. قصة خلاف الزعيم والساحر لتقديم مسلسل رافت الهجان
  • أبو المعاطي.. حكاية رجل يحمل العالم على كتفيه من أجل زوجته وأخته
  • محافظ الغربية يتفقد مركز الرعاية الصحية بسيجر وأعمال تطوير محيط السيد البدوي
  • الموضة القبيحة” تكتسح جيل زد: تمرد على الجمال التقليدي أم تعبير عن هوية؟
  • هل يجوز قص الشعر في شهر محرم للنساء والرجال؟.. انتبهوا لـ4 حقائق
  • طرق علاج نفشة الشعر بعد الاستحمام
  • عبر الجمال والشاحنات.. جمرك الراهدة يحبط ثلاث محاولات تهريب في يوم واحد
  • وزير الثقافة يشارك في مهرجان الشعر الدولي لدعم غزة