د. عبد الله عابدين

إنكم أيها الشباب بسلميتكم هذه التي أدهشت العالم بها، تمثلون بجدارة عالية العنوان الأسمى لتمديننا المأمول والتجسيد الحقيقي لقيمنا الحضارية الضاربة في جذور التاريخ البشري. لقد أضاءت أجرامكم الصائمة ساحة ميدان الاعتصام، وروى دمكم الذكي أرضها مهرا غاليا لحريتنا وكرامتنا الإنسانية المضاعة على أيدي أوباش لا يفقهون شيئا من هذا الروح العالي والسمت الرفيع.

هذا القبيل الظلامي لا يفقه إلا قوة البطش العنيفة، فهو، إذ امتلكها، يستعملها بصورة لا تعكس إلا بربرية غاشمة وهمجية لا تجسد سوى قانون الغابة في أبشع صوره. صور في علوم النفس التي بين أيدينا، تبرأ منها أوحش وحوش الغابة.

رغم كل المحاولات الدائبة من قبل هذه الجيوش المجيشة من فلول الظلاميين و مليشياتهم الإرهابية، ومن جنجاويدهم تمترستم خلف سلميتكم القوية، المبرأة من أوضار الجهالات والعنف. وتمكنتم بذلك من “تمييز الخبيث من الطيب”، و انحزتم إلى الأخير بدون أدنى لبس، فجعل الله “الرجس على الذين لا يعقلون”. هكذا، إذن، هزمتموهم في مضمار لا يكون النصر الحقيقي إلا فيه!!.

انسجوا على هذا المنوال، فقد تنبهتم يا ثوار ديسمبر إلى أن هذا الفصيل الإرهابي الذي يحاول جاهدا جركم إلى العنف: ميدانه الأثير، وحلبة الصراع الوحيدة التي يبرع فيها، فتمترسوا خلف سلميتكم، ولا يغرنكم أحد إلى الخروج عنها مهما كانت الدواعي والمسوغات، فالسلمية روح ثورتكم وقيمتها العليا. هذه القيمة التي بدأت تحضر في مسرح التاريخ البشري إيذانا بنزع فتيل العنف و “نسخ” وإنهاء سنة الحرب التي عكفت البشرية على إشعال نيرانها طوال الحقب السوالف من تاريخها الطويل، المكتوب منه وغير المكتوب.

وقد ظلت قيمة السلمية واللاعنف التي تجسدونها الآن تحاول البروز إلى الواجهة، وتبدأ في التكلم إلينا من خلال تنمية وتطوير أدواتها الخاصة المتمثلة في شتى أشكال القوى الجديدة، سمة صميمة من سمات عصر الشعوب الذي بدأت تظلنا غيومه. وإن هي إلا تضحيات من كل شعوب الأرض في تحمل تبعات هذا الأمر، ودفع ثمن ذلك التحول في تجويد استعمال أدوات النضال السلمية ضد الظلم والقهر، حتى تنهمر غيوم السلام الحبلى على أرض هذا الكوكب التواق إليها، وبالتالي ولوج عصر جديد من اللا عنف والسلام. عصر تتبرأ فيه القوة من العنف، وتغادر فيه الأنياب الحمر والمخالب الزرق مسيرة الإنسان مرة واحدة وإلى الأبد. رشحوا أنفسكم أيها الشباب روادا لهذا العصر الجديد وحدات لطريقة اللاحب.

أجيبوا بنعم على السؤال: هل يتقدم السودان، ممثلا في جموعكم الثائرة المصرة على السلمية، والقابضة على جمرها في وجه العنف العنيف من قبيل ما جسدته مجزرة التاسع والعشرين من رمضان؟!. أجيبوا بنعم قوية على هذا السؤال. ذلك بأن السلمية هي لغة العصر، والسلام هو مرمى حركة التطور. خطواتكم الحثيثة والواعية تلهمنا بصيرة نافذة بالاتجاه المتقدم للتاريخ البشري لدخول مرحلة إنسانية جديدة بالخروج من “عصر النار” وولوج “عصر الماء”!!.

يجب أن تصروا على هذه الإجابة الواضحة بنعم، على سؤال السلمية، وهذا يعني أن يكون إصراركم أوعى كل يوم جديد بهذه القيمة العليا، مقدرين أهميتها القصوى ومدركين لمعناها العميق ولقرب تباليج فجرها الكوكبي. ذلك أمر لا مناص منه، اليوم أو غدا !! .

والأمر أن جميع سكان هذا الكوكب الآن يمثلون شهودا على فشل الحروب وشتى أساليب العنف في الوصول إلى حل للمشاكل والخلافات. والإنسان المعاصر ليس في حاجة إلى من يعظه كثيرا في هذا الصدد. ذلك بأنه يرى بأم عينيه الحروب والدمار، وهي تتطاول في الآماد، وتتطور في أساليبها وأسلحتها الفتاكة التي لا تكاد تميز بين مهزوم ومنتصر، هذا إن عاد فيها مهزوم ومنتصر أصلا!!.

ومن الجلي أن يوما كانت فيه الحروب وسيلة لحل المشاكل يولي الأدبار بسرعة شديدة، فهذه ظاهرة أضحت في متناول يد الإنسان المعاصر في شتى أنحاء هذا الكوكب الحزين. فالحروب ذاتها صارت تشكل دروسا يومية ضد نفسها بما تضعه أمامنا من صور الدمار الشامل والأسى، ومن مأساة جثث الأطفال التي يخرجونها من تحت ركام غابات الإسمنت المتهدمة جراء القصف بالبراميل على رؤوس المدنيين العزل، ومن مشاهد الجموع، وهي تحمل متاعها الضئيل هائمة على وجهها وفاره من أتون الحروب العبثية دون أي وجهة معلومة!!.

هذه السيناريوهات المتطاولة، سيناريوهات الحروب والنزاعات، التي تتحول بصورة ما إلى شكل من أشكال إدارة المشاكل والأزمات بدون أي أفق منظور في إيقاف نزيفها تقول لنا بلسان فصحيح: ألا فاعملوا جاهدين على إلقاء ملفات الحروب وشتى أشكال العنف خلفكم يا بني الإنسان، ثم أقبلوا بنفوس مبرأة من أوضار جهالاتها إلى بناء عالم إنساني جديد تسوده العدالة والحرية والسلام: ذات شعارتكم الأثيرة أيها الثوار.

الحرب بهذا المفهوم الحديث متطور التقنية والأساليب لا تمثل سوى نفايات تُدَوَّر لمصلحة القوى الكبرى ولصالح تجار السلاح وأمراء الحروب وأيقوناتها، ولأجل المستثمرين في إذكاء نار الخلافات بين بني البشر في شتى أنحاء كوكبنا الذي يقف الآن حائرا في مفترق الطرق بين الهمجية والإنسانية. الحرب، ومن ورائها شتى أشكال العنف الأخرى يجب أن تولي الأدبار، وأن تذهب إلى مزبلة التاريخ، فقد خدمت أغراضها، حين كانت تخدم غرضا، واستنفدت كل ذلك، ويجب أن تكونوا أيها الشباب الماء الذي يطفئ نيران آخر الحروب وويلات الفوج الأخير من الدعاية للعنف وممارسته في آخر معاقله.

الوسومد. عبد الله عابدين

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

إقرأ أيضاً:

الطرد القبلي أو العجز مقلوباً.. قراءة سوسيولجية

تظهر لنا من حين إلى آخر إجراءات تتخذها القبيلة، تحمل طابعًا اجتماعيًا أو سياسيًا. فمثلًا، ترفض القبيلة إعادة الاعتراف بأحد أبنائها لأنه خرج بسلوك معين عن “الكود” القبلي القائم.

‏‎وهنا نجد أنفسنا أمام دلالات متعددة لهذا الفعل، تفتح أمامنا أسئلة كثيرة، منها: ما مدى قدرة القبيلة على الثبات والبقاء في القرن الحادي والعشرين؟ ما هي التأثيرات السياسية على الكود القبلي؟ إلى أي درجة تتأثر القبيلة بحالة الحرب والصراع؟ كيف ينعكس العنف السياسي على المجتمع؟ وما هي أشكال وصور العنف الاجتماعي؟ وما هي حدود سلطة القبيلة على الفرد؟

‏‎هذه الأسئلة الكثيرة ربما تتطلب مقاربة متعددة الزوايا، أعمق وأشمل من أن تحتويها هذه الخاطرة السريعة.

‏‎ويقودنا هذا إلى إعادة النظر في تعريف “القبيلة”: فما هي القبيلة؟

‏‎هي مجموعة من البشر مستقرين في نطاق جغرافي معين، تربطهم علاقة قرابة افتراضية، وتشكل لهم “العصبة” الأساسية. هذا التعريف يقتضي وجود تجانس لغوي (لهجوي) وثقافي وسياسي واجتماعي، يُعدّ جذرًا للتضامن داخل القبيلة.

‏‎وإذا نظرنا إلى الحالة اليمنية، فإننا لا نجد عناصر هذا التجانس مكتملة، والسبب أن الناس اصبحوا منتمين إلى بنية اجتماعية أوسع، هي الدولة، وقد ولّدت لديهم تقاطعات هوياتية متعددة ومتداخلة. كما أن معيشتهم ومصالحهم الاقتصادية دفعتهم للخروج من النطاق الجغرافي للقبيلة والاستقرار في مناطق أخرى، وخصوصًا المدن او في دول خارج اليمن.

‏‎ كما أن الحياة السياسية في اليمن فرضت تنوعًا سياسيًا أثّر على التجانس داخل القبيلة، وبالتالي تغيّرت خارطة الولاءات وتراجعت صلابتها.

‏‎القبيلة اليوم في حالة عجز وتراجع

‏‎كمنظومة للحماية والضبط، لم تعد القبيلة -سيما في الهضبة الشمالية الغربية من اليمن – قادرة على الفعل، وهي الآن في آخر رقصاتها. لقد أثبتت عجزها الكامل أمام تغوّل الجماعة الحوثية، التي تعيد هندسة المجتمع، وتعيد توزيع السلطة داخله، لتضع “السيد” في قمة هرم السلطة السياسية والاجتماعية والدينية. وهكذا، تتحوّل القبيلة إلى تابع كلي في خدمة “السيد”.

‏‎لكن من المهم الإشارة إلى أن هناك دراسات حول القبيلة في اليمن اجريت في الوقت الراهن ضمن مقاربة جيوبوليتيكية، غير أن كثيرًا منها إما بالغت في تقدير قدرة القبيلة على خلق توافقات سياسية، عبر تعظيم دور آليات الصلح الاجتماعي، ومحاولة إدماجها في العمليات السياسية، دون الاعتراف بالفارق الجوهري بين المجالين. فبينما تركز القبيلة على قضايا محلية وبسيطة، تبقى القضايا السياسية أكثر تعقيدًا وأوسع نطاقًا.

‏‎أما النمط الآخر من هذه الدراسات، فركّز على دور القبيلة في الصراع. بعض هذه الدراسات نظرت إلى القبيلة ككيان مستقل، قادر على الفعل السياسي الذاتي، وهذه نظرة قاصرة؛ إذ لم تفهم لا طبيعة القبيلة ولا طبيعة السياسة في اليمن. فيما يرى نمط آخر أن القبيلة مجرد أداة من أدوات الصراع، تم توظيفها سياسياً، كما فعلت الجماعة الحوثية حينما استغلت “الشرف القبلي” لتطويعه ضمن رؤيتها الأيديولوجية المغلقة.

في خلاصة الأمر، أصبحت القبيلة مقيّدة بقيود لم تعرفها من قبل، وعادت إلى جلباب الزعامة الدينية الهاشمية، بعد أن حرّرتها ثورة سبتمبر – ولو جزئيًا – من تلك الهيمنة.

‏‎لكن هذا الضعف لم يحدث فجأة، بل عبر مراحل، أظهر فيها “الوعي القبلي” قدرة على التكيّف، بل وعلى الهروب إلى الأمام. المرحلة الأولى بدأت مع نشوء جيش (حديث) مع وضع النعت بين قوسين، مركز قيادته في المدينة وليس في قصور مشايخ القبيلة.

‏‎ المرحلة الثانية تمثلت في تحوّل المدينة إلى فضاء متحرر – نسبيًا – من سلطة القبيلة، بفعل الاستقلال المالي والاقتصادي لافراد وأنخراطهم في وظايف حكومية او اشغال تجارية وخدمية.

‏‎ وهنا يمكن الإشارة إلى عاملين: أولًا، تنامي الفردانية واستقلال الفرد عن الأطر الاجتماعية التقليدية؛ وثانيًا، خروج الفرد من الفضاء القبلي إلى فضاء أوسع، اتخذ فيه مسافة من الكود القبلي – دون الانفصال التام عنه – ما أتاح له هامشًا أوسع للحركة.

‏‎أما النقطة الثالثة، فتتمثل في نتائج الهجرة، وهي من الجوانب التي لم تأخذها بعض الدراسات الغربية بعين الاعتبار، حيث لا تزال تنظر إلى القبيلة اليمنية ككيان مغلق وعصي على التحول.

‏‎ لكن الهجرة إلى الخليج – تحديدًا – أعادت توزيع السلطة داخل القبيلة وخارجها. فقد أتاحت للعديد من الأفراد فرص التعليم والعمل وبناء مكانة اجتماعية جديدة تقوم على الاستحقاق والملكية، لا على النسب أو الانتماء القبلي فقط.

الطبقة الجديدة التي تشكلت اقتصاديا بفضل عائدات التحويلات المالية استقرت في المدنية واتخذت لها أنماطا استهلاكيا جديداً خارج أنماط القبيلة.

‏‎كما ساهمت المدينة في توسيع هذا الفضاء، فصارت مصادر الرزق والحماية خارجه، وتراجعت الحماية القبلية إلى دور ثانوي أو احتياطي.

‏‎عامل آخر في هذا التراجع هو اتساع رقعة التعليم، وعلو شأن ايديولوجيا الحقوق وبروز مرجعية أخلاقية جديدة: مرجعية الحقوق. فقد هيمنت القبيلة في السابق على المرجعية الأخلاقية الإسلامية وأخضعتها لسطوتها، لكن المرجعية الحقوقية، بعالميتها، فتحت أفقًا جديدًا للناس، وقدّمت منظورًا مختلفًا للعلاقات الاجتماعية والسياسية.

‏‎وإذا نظرنا إلى بيئة العنف الواسعة في اليمن، نلاحظ أن القبيلة لم تسلم من التهميش.فالعنف الجاري سياسي المصدر، لكنه مشبع بالدوافع المذهبية والمناطقية، ويهدف إلى إعادة بناء التركيب الاجتماعي وفق معايير أيديولوجية مغلقة، يعاد فيها توزيع السلطة والثروة والمكانة داخل المجتمع.

‏‎ولأن القبيلة كانت طرفًا مركزيًا في المعادلة التقليدية، فقد تم تهميشها في هذه الهندسة الجديدة. خُسرت مكاسبها من جهة، ومن جهة أخرى، قُوّضت الدولة كمرجعية عليا، كان يمكن اللجوء إليها باعتباراها  سلطة ما فوق القبيلة وتوافقيه وقادرة على امتصاص القبيلة.

‏‎العنف السياسي الشامل الذي تشهده اليمن منذ عشر سنوات على الاقل بطريقة مكثفة وغير مشهودة يعمّ كل المجتمع، ويدخله في دوامة من العنف المنحدر، من الأكبر إلى الأصغر. وفي هذه البنية، تقع القبيلة في حلقة وسطى، فتستقبل العنف من الأعلى -من اطراف ما دون الدولة ولكن بعصبية اشد تماسكا وأكثر عنفا على اسس مذهبية وسياسية- وتعيد إنتاجه على من هم دونها، أي على الفرد. تحاول القبيلة، من خلال ذلك، إعادة فرض سيطرتها على الفرد المغترب عنها، وكأنها تحاول ترميم سلطتها المتصدعة.

‏‎ظواهر مثل الطرد أو “الإقصاء القبلي”، كما نراها أحيانًا مع فنانين أو في حالات زواج تتجاوز الأطر القبلية، ليست إلا محاولات يائسة لعنفٍ تلقّى إهانة شديدة. لم يعد أمام القبيلة اليوم سوى أن تتشدّد في وقت ضائع، أو أن تأكل أبناءها، بعدما تلقت إهانة سياسية واجتماعية كبيرة خلال السنوات العشر الأخيرة.

 

المقال نقلا من صفحة الكاتب على “فيسبوك”

مقالات مشابهة

  • تصاعد العنف في غزة.. حصيلة القتلى تتجاوز 52 ألف منذ بداية الحرب
  • رحيل أسطورة العنف في الحلبة عن عمر 60 عاماً
  • الطرد القبلي أو العجز مقلوباً.. قراءة سوسيولجية
  • سلطنة عُمان.. الودق الذي يُطفئ الحروب
  • نائب الرئيس الفلسطيني : المقاومة السلمية افضل .. وعلى حماس التخلي عن سلاحها
  • حسين الشيخ: لا بديل عن السلطة الفلسطينية في غزة.. والمقاومة السلمية طريقنا نحو الدولة
  • أول تعليق للبابا الجديد بخصوص الحروب في العالم
  • في أول قداس له.. البابا ليو يناشد العالم "وقف الحروب"
  • وزير الخارجية: مصر تواصل جهودها لحل الأزمة السودانية.. وتتمسك بالحلول السلمية
  • الناتو يؤكد أنهم لم يعدوا أوكرانيا بالعضوية بعد التسوية السلمية