د. أحمد عبدالظاهر يكتب: آفة حارتنا النسيان
تاريخ النشر: 15th, August 2024 GMT
منذ عام تقريباً، وفى كتابه الصادر فى الثانى والعشرين من شهر أغسطس 2023م، بعنوان «نول الزمن.. بين الإمبراطورية والفوضى، من البحر المتوسط إلى الصين»، طرح عالم السياسة الأمريكى روبرت كابلان أسئلة كثيرة، من بينها التساؤل عن كيفية تعامل دول وشعوب منطقة الشرق الأوسط مع العولمة وعن السبب وراء نسيان هذه الدول والشعوب تاريخها.
وقد زار المؤلف المدن الكبرى بالمنطقة، وبينها القاهرة، وخالط الناس، فجاء الكتاب متميزاً بالحيوية ومعرفة توجهات الناس عن قرب.
وقد أحسن الكاتب الكبير الأستاذ عبدالله عبدالسلام، مدير تحرير الأهرام، بإلقاء الضوء على هذا الكتاب القيم (راجع: عبدالله عبدالسلام، سعد زغلول والقاهرة الجديدة!، جريدة الأهرام، عمود أفق جديد، الأحد 6 من صفر 1446هــ الموافق 11 أغسطس 2024م، السنة 149، العدد 50287).
وجدير بالذكر فى هذا الصدد أن «النول» آلة نسيج يدوية استخدمها المصريون قبل 4 آلاف عام.
ويبدو أن استخدام لفظ «النول» (The Loom of Time) فى عنوان الكتاب مقصود، للتأكيد على أهمية الحفاظ على الهوية الوطنية للأمم والشعوب، وإدراك أهمية التاريخ فى حياة المجتمعات، وأهمية الحفاظ على التراث الثقافى غير المادى.
وفيما يتعلق بالتراث الثقافى غير المادى، والعادات السائدة فى المجتمع المصرى، رصد المؤلف المشهد التالى فى القاهرة 2022م: «لا يزال الرجال والنساء يسيرون فى مجموعات، وأحياناً يمسكون أيادى بعضهم البعض.. يرتدون ملابس غربية بدلاً من ملابس السبعينات وما قبلها، الأقرب إلى الأزياء التقليدية. عدد لا بأس به من الفتيات يرتدين الحجاب والثياب السوداء الضيقة. كانت أذرعهن عارية فى حالات قليلة، كاشفات عن أنفسهن ومتغطيات فى الوقت نفسه».
ورصد روبرت كابلان ملاحظة أخرى فى المجتمع المصرى وغيره من شعوب المنطقة: «فى الشرق الأوسط، ترى طبقة عالمية منتشرة تستخدم الآى فون ويستمعون للموسيقى الغربية. وهناك قطاعات أخرى ترفض العولمة. ربما لأنهم لا يستطيعون المنافسة، أو يشعرون أن ذلك يسىء إلى قيمهم».
وثمة ملاحظة أخرى ثاقبة يبديها المؤلف فى كتابه سالف الذكر، مؤكداً من خلالها أن المصريين ينسون تاريخهم، ومستدلاً على ذلك بالقول: «كان هناك سياسى عظيم فى عشرينات القرن الماضى اسمه سعد زغلول. وخلال الربيع العربى 2011، لم تسمع اسمه على الإطلاق. زغلول قاد ربيعاً آخر ضد البريطانيين لكن لا ذكر له الآن. إنه لأمر مدهش كيف يمكن لجوانب مهمة من التاريخ أن تضيع بين الشقوق». جزء من عدم الاستقرار فقدان الثقافة ونسيان التاريخ. الازدهار فى عصر العولمة يتطلب أن تظل الذاكرة حية.
ولعل ذلك يجعلنا نتذكر إحدى العبارات الشهيرة التى وردت فى رواية «أولاد حارتنا»، للأديب المصرى العالمى الحائز على جائزة نوبل، نجيب محفوظ، والتى صارت قولاً مأثوراً ومثلاً متداولاً يعبر بصدق عن إحدى سمات الشخصية المصرية، وهى (آفة حارتنا النسيان).
فهذه العبارة ليست مجرد بضع كلمات فى رواية أحدثت الكثير من الجدل، وإنما هى ببساطة شديدة اختصار موجز لطريقة تفكير شعب أصبح ينسى كل شىء، وينسى أعظم حضارة أقامها للإنسانية من سبعة آلاف سنة، وينسى العديد من الشخصيات التاريخية التى أثرت كثيراً فى مسيرة المجتمع والدولة المصرية.
فلا نجد حضوراً فى العقل الجمعى المصرى يعادل حضور شارل مان ونابليون بونابرت فى الذاكرة الفرنسية وجورج واشنطن وإبراهام لينكولن فى الذاكرة الأمريكية.
وقد كان أحد الكتاب أكثر تفاؤلاً، وأقل حدة فى وصف الذاكرة الجمعية المصرية، فاستخدم عبارة أخف وطأة، وهى «آفة حارتنا الاختزال»، مؤكداً أن «أحد أبرز الألغاز الذى يستعصى على فهمى، أننا كمصريين عندما نتباهى بعظمائنا، لا تسعفنا الذاكرة إلا باسم أو اسمين فى أى مجال. تاريخ مصر الضارب فى القدم والملىء بالأبطال والعظماء يجرى اختزاله إلى ثنائيات أو أسماء قليلة للغاية.
عندما نستدعى التاريخ الفرعونى المجيد، لا يظهر أمامنا سوى أحمس ورمسيس وربما حتشبسوت، وعندما نقرأ عن أبطال مصر الذين قاوموا الحملة الفرنسية لن تجد سوى عمر مكرم ومحمد كُريم.
فى التاريخ الحديث المصيبة أعظم. عظماء القرن التاسع عشر رفاعة الطهطاوى وعرابى ومحمد عبده، وعلى استحياء على مبارك. زعماؤنا فى القرن العشرين: سعد زغلول وعبدالناصر وفقط، مع أن القائمة تطول وتطول، لكن الذاكرة المصرية مثقوبة ليس فيها متسع.
فى الأدب، هناك طه حسين والعقاد ونجيب محفوظ، والباقون «سنيدة» أو لا يستحقون الذكر.
فى الفن هناك، سيد درويش وأم كلثوم وعبدالوهاب وربما عبدالحليم. أما فى الصحافة، فليس سوى هيكل ومصطفى أمين.
وهكذا الأمر فى الفكر والثقافة والشعر والسينما والمسرح والجامعة والاقتصاد.. هل هناك أحد غير طلعت حرب؟» (الكاتب الكبير الأستاذ عبدالله عبدالسلام، آفة حارتنا الاختزال!، جريدة الأهرام، عمود أفق جديد، السبت 15 من ربيع الأول 1445هــ الموافق 30 سبتمبر 2023م، السنة 148، العدد 49971).
ووفقاً لرأى الكاتب الكبير، «المشكلة أن بعضاً من النخبة المسيطرة على الثقافة والإعلام والصحافة يعانى الكسل العقلى والفكرى، فيلجأ لهذه الانتقائية غير المنطقية التى تستبعد طبقات وطبقات من أكابر المصريين علمياً وثقافياً وفنياً وأدبياً وتحصرهم فى دستة أسماء فقط».
وليت الأمر قد وقف عند حد الكسل العقلى والفكرى لدى «النخبة» أو من يُطلق عليهم هذا الوصف، إذ تفرغ بعض هؤلاء للهجوم على الشخصيات التاريخية المصرية، وهو ما نتناوله فى المقال القادم إن شاء الله.
المصدر: الوطن
إقرأ أيضاً:
عن التاريخ ـ المعلم الكبير
التاريخ، كمادة مدرسية أكاديمية، ثقيل على معظم النفوس، وفي العالم العربي، من حق الأجيال المعاصرة أن تسيء الظن بالتاريخ، لأنهم لا يجزمون بصحة الوقائع، التي تتعلق بتاريخ بلدانهم القريب والمعاش. ولِم لا، والكتب المدرسية، وحتى وسائل الإعلام ـ مثلا ـ تسمي الهزيمة الساحقة والماحقة لثلاثة جيوش عربية في حزيران/ يونيو من عام 1967 "نكسة": خسارة الضفة الغربية ومعها القدس، وشبه جزيرة سيناء وهضبة الجولان "نكسة"، وليست النكبة 2، التي نشهد ذيولها اليوم في الحرب الفاجرة التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة، الذي يريد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تحويله إلى منتجع سياحي.
تزوير التاريخ يؤدي إلى النفور منه، والجهل بالتاريخ، يؤدي سقطات سياسية واقتصادية وعسكرية، فدراسة التاريخ أو الإلمام بالتاريخ ضرورة حياتية، لأن ما هو واقع اليوم، هو نتاج وقائع "تاريخية"، ودروس الماضي تجعلنا ندرك كيف آلت الأمور إلى ما هي عليه اليوم، وتجعلنا قادرين على تفادي الأخطاء، وسلوك دروب جديدة تؤدي الى حياة أفضل، فوقائع الماضي أدت إلى تشتيت جماعات بشرية، مما أدى بدوره إلى تغييرات في الخارطة الإقليمية والمناطقية، وظهور أشكال مختلفة من أنظمة الحكم، التي استمر بعضها عبر القرون والأجيال، وعالمنا المعاصر يحمل بصمات كل ذلك.
يعلمنا التاريخ لماذا ازدهرت مجتمعات معينة، بينما ذبلت وهزلت مجتمعات أخرى، ولماذا حدثت الحروب الكبيرة والصغيرة، ويعلمنا أن "من نسي قديمه تاه"، انظر كيف تفجرت نوافير العلوم والفلسفات في ظل الدولة العباسية، وكيف كان العرب والمسلمون مصدرين للمعارف إلى أوروبا في عصور ظلامها، وانظر حالهم اليوم: يستوردون حصائل أوروبا والغرب من العلوم والمخترعات، بل أوكلوا للأوروبيين استكشاف جغرافية وطبوغرافية بلدانهم، ثم يستجدونهم المدد في كل نازلة تحيق بهم.
يعلمنا التاريخ لماذا ازدهرت مجتمعات معينة، بينما ذبلت وهزلت مجتمعات أخرى، ولماذا حدثت الحروب الكبيرة والصغيرة، ويعلمنا أن "من نسي قديمه تاه"، انظر كيف تفجرت نوافير العلوم والفلسفات في ظل الدولة العباسية، وكيف كان العرب والمسلمون مصدرين للمعارف إلى أوروبا في عصور ظلامها، وانظر حالهم اليوم: يستوردون حصائل أوروبا والغرب من العلوم والمخترعات، بل أوكلوا للأوروبيين استكشاف جغرافية وطبوغرافية بلدانهم، ثم يستجدونهم المدد في كل نازلة تحيق بهم.التاريخ يعلمنا كيف عاش الناس قبل عقود أو قرون، وكيف أن ما قاموا، أو لم يقوموا به يؤثر على الواقع الراهن، فالأحداث التي تبدو كأرقام على صفحات الكتب، تركت تأثيرا مباشرا على حياتنا اليوم، وكما قال وليام اتش ماكنيل، الرئيس السابق لجمعية التاريخ الأمريكية "المعرفة التاريخية هي، لا أقل أو أكثر، من الذاكرة الجمعية لبني البشر"، وعندما ندرس التاريخ نتعلم كيف وصلنا إلى ما نحن عليه الآن، وكيف تشكل نمط حياتنا المعاصرة، ومن لا يدرس التاريخ بعقل ناقد، يصعب عليه إدراك لماذا حدثت انتصارات هنا وخيبات هناك، وسيظل يعيد اختراع العجلة، ويظل مرابطا في عصر العجلة والحصان، عوضا عن استنباط مسارات جديدة للحياة تؤدي إلى ما هو أفضل.
يقول الفيلسوف الإسباني جورج سانتايانا، إن من لا يتذكرون الماضي، سيعيدونه، والتاريخ لا يعيد نفسه إلا في هيئة مهزلة او مأساة، وصحيح أن العالم الذي نعيش فيه اليوم هو نتاج أحداث وقعت في زمان بعيد، ولكن فهم تلك الأحداث، وليس تكرارها بما قد يكون فيها من سلبيات، هو الذي ينبغي ان يحدد لنا ما ينبغي ان نفعله لنمضي الى الامام، فالتاريخ يبصرنا بالنقلات الكبيرة التي حدثت في مسارات حياة الناس عبر القرون، واستنباط العظات والعبر من كل ذلك، هو الذي يمنع التكرار الهازل أو المأساوي للتاريخ.
تعلم الجنس البشري الكثير من سقوط الإمبراطورية الرومانية، ومن بعدها الإمبراطورية الإسلامية، وكانتا الأكبر في زمانهما، ومن حركة الحقوق المدنية التي كان أبطالها ذوي الأصول الأفريقية في الولايات المتحدة، والتي استلهمت نضالات وتضحيات أجيال عديدة من ضحايا الاسترقاق في أمريكا، تعلَّم سود جنوب افريقيا كيف ان النضال السلمي أجدى من العمل المسلح، لانتزاع السلطة من أيدي أقلية بيضاء عنصرية استعلائية دخيلة على افريقيا.
التاريخ معلم يعطي دروسا لمن يرغب أو لا يرغب في التعلم: تفهم الدرس، وتعرف لماذا أخفق الناس هنا ونجحوا هناك، وتخطط لحاضرك ومستقبلك وأنت على بصيرة من أمرك. وإذا لم ترغب في التعلم، ستكرر أخطاء وقع فيها أسلافك، وتبقى مرابطا في محطات قديمة، ويفوتك قطار العصر، وتبقى في خُسْر، فلا يكون عندك ما تتباهى به، كما هو حادث للعرب اليوم غير:
زمانٌ تولى كان فيه جدودنا
ليوثا يقودون الخميس العرمرما
إذا بسموا فالخُلْد في وجناتهم
وإن عبسوا فالكون صار جهنما
عندما استعاد نظام البوربون الملكي في فرنسا في عام 1815، قال السياسي الفرنسي شارل تاليران عن البوربون: "إنهم لم يتعلموا أي شيء"، فآل البوربون الذين أطاحت بعرش ملكهم العائلي المتوارث "الثورة الفرنسية"، استطاعوا بسقوط حكم نابليون، استعادة عرش فرنسا، ليبدأوا فصلا إنتقاميا عنوانه، تصفية الحساب مع الثورة التي عصفت بملكهم، رموزا وقادة ومنجزات، في محاولة لإعادة عقارب الساعة للوراء، فاستدعى ذلك موجة ثانية من الثورة ألقت بهم في مزبلة التاريخ.
وهكذا ذهب آل البوربون، الذين لم يتعلموا من دروس التاريخ ماذا تعني "ثورة"، فيما بقيت "الثورة" قبسا ملهما يضيء دروب التغيير إلى يومنا هذا، لكافة شعوب الأرض.