لجريدة عمان:
2025-05-09@02:25:26 GMT

إنّه ليس ثأرك وحدك!

تاريخ النشر: 29th, September 2024 GMT

الشتائم البغيضة، تحريضُ انتماءات مذهبية على أخرى، قيح الجرح القديم الذي تنمو عليه جرثومة موتنا كل مرّة، الخطاب المثبط للهمّة في وقت حساس كهذا، اللغة التي تشيع الفرقة، وتقضي على مشتركاتنا العربية الإسلامية، كلها أسباب تجعل العدو يفتُّ عضد لحمتنا الواهي بيسر وخفة.

فنحنُ نعيد قصّ حكايات مُحملة بالبغضاء والكراهية والتشويه، تهيمن عليها الانحيازات العنيفة، فننشغلُ بعضنا ببعض عوض أن ننشغل بالوحوش الضارية التي تغرسُ مخالبها في أوردتنا فتنزُّ دما، وكأننا لا نفعلُ أكثر من إعادة إنتاج الخذلان، دون أن نسترشد بسمات الوعي الجديد.

الآخر لا يرانا مذاهب متعددة، يرانا أضحية جديرة بالموت والفناء، وكأنّ جراحنا المُلتهبة تستنهضُ وحوش الأساطير القديمة التي لا ينضب سيلان جوعها الاستعماري الاستحواذي الاستيطاني، فلا يُراد لأصوات مُعتدلة أن تبزغ إلى أن ينهشنا الخراب في أعمق نقطة من وجودنا.

إنّنا إزاء نسخة شديدة الشحوب عنّا كعرب ومسلمين، لكن لا يمكن لتشاؤمنا أيضا ألا يجعلنا ندرك الديناميكية الجديدة التي تعتمل في المياه الباطنية، تلك النزعة المُغايرة التي تلهثُ لاستبصار ملمح عصي في منعطف حاد، رغم ما يُدفع من موت ودموع.

في مقال للكاتب جورج أورويل بعنوان: "السياسة واللغة الإنجليزية" يقولُ شيئا يُعبر عن لحظتنا الراهنة: "اللغة المستخدمة في السياسة ترمي إلى أن تكسو الأكاذيب ثوب الصدق، فتجعل القتل العمد جديرا بالاحترام"، فانكشاف قصّة زيف الإعلام الغربي بعد أن قدّم نفسه كمالك أوحد للحقيقة، بعثر مسلمات عدّة، فاخترقت الصورة التي تخرج من فلسطين أو اليمن أو سورية أو السودان أو لبنان، اخترقت العالم كرصاصة، فجعلته مذهولا غير مُصدق.

أليس الأولى بنا أن نغادر نحن أيضا أوحال خلافاتنا منتهية الصلاحية؟ لصالح تنمية هويتنا المشتركة في هذه اللحظة التاريخية؟

البشرية منذ الأزل مجبولة على التحيز، تجاه جماعة ما أو لون أو عادات أو أفكار، وقد تكون هذه التحيزات ضيقة ومحدودة، أو أكثر امتدادًا مما نظن، ظاهرة وبارزة أو مضمرة ومتغلغلة، ولذا فقد تمّ اللعب على نسيج وعينا بخرافة الفرقة، فاخترعوا لنا الأعداء من تاريخنا وبثوا فيهم الحياة، جعلوهم أكثر وضوحا مما كانوا عليه في عصورهم ربما! جعلوهم أكثر قتامة وغلوا.

هل لنا أن نتصور أننا اليوم وعبر التقنيات الحديثة نتقاتل بفجاجة وصخب وشتائم حول خلافات شخصيات مضت منذ قرن ونصف؟ بل إننا على استعداد لكيل تهم التكفير، وبث الترويع لخلافات مرّت عليها دواليب الزمن الثقيلة!

إنّ عدم مغادرتنا لذلك الماضي، عدم استقرائنا له وتفنيده، هو ما يمنع ولوجنا لعصرنا الجديد -كما ذهبت العديد من الآراء- هو ما يجعل العدو يضع قدما على أخرى مُتفرجا على انشغالنا المريض ببعضنا، كأمّة تتفتتُ من داخلها دون حول أو قوة! والتبرير الذي قد ينتهجه بعضنا يُعمي بصيرتنا عن إدراك مصدر الشرور، فلا يلوح لنا أي مهرب أو مفر!

لسنا الآن في حاجة لجدل مجاني، من منا المصيب ومن منا المخطئ، أمام سيناريوهات الموت البشعة، لا سيما أن مخالب العدو في أشد صورها وضوحا وفتكا. يكفي الآن أن نرى العدوان عدوانا وأن نمنع وقوع المزيد من الظلم بالشعوب المسحوقة منذ عقود.

إنّ كل أفكارنا تصوراتنا عن أنفسنا وكياننا باتت على المحك لاختبارها واقعيا في ظل هذه الكارثة التي تحيق بوطننا العربي، وعلى معدننا الأصيل أن يُظهر أفضل سماته، كيلا نُفوت على أنفسنا فرصة الإمساك بزمام مجتمعنا الجامح، لترويض هيجانه الذي يُحولنا إلى مسوخ تنخرها المادة الإعلامية المزيفة التي تتلفُ آخر ما بيننا من مشتركات.

وكما يقول أمل دنقل: "إنّه ليس ثأرك وحدك، لكنه ثأر جيل فجيل، وغدا سوف يُولد من يلبس الدرع كاملة، ويُوقد النار شاملة، يطلبُ الثأر، يستولدُ الحق من أضلع المستحيل".

هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

الهوية في مواجهة الهيمنة الثقافية

هذا موضوع يرتبط ارتباطًا وثيقًا بقضية العولمة التي أصبحت موضوعًا تقليديًّا في الفكر الراهن؛ ولكنه يرتبط بذلك الجانب الثقافي من تأثير العولمة الذي يبقى دائمًا متجددًا ومثيرًا للتأمل والجدال. والحقيقة أن حالة «الهيمنة الثقافية» ليست مقترنة بحالة العولمة الراهنة وحدها، وإنما هي حالة عامة طالما اقترنت بالاستعمار عبر العصور، خاصةً عندما يكون المستعمر صاحب حضارة، ويبقى زمنًا طويلًا في البلاد التي يستعمرها.

وربما يكون الاستعمار الفرنسي هو المثال البارز هنا؛ لأن هذا الاستعمار كان مهتمًّا دائمًا بالتأثير في الجانب الثقافي لدى مستعمراته (وهو ما يُعرَف بعملية «الفرنسة»)؛ وهو التأثير الذي نجده ملحوظًا في الثقافة المغاربية، ليس فقط من حيث اللسان وإتقان اللغة الفرنسية، وإنما أيضًا من حيث التوجهات الغالبة في المجال المعرفي والأكاديمي (وربما لهذا السبب نفسه؛ فإن المفكرين والمبدعين الحقيقيين في دول المغرب العربي -من الكبار والشباب- لا تهيمن عليهم تلك التوجهات، ويبدعون مشاريعهم الفكرية والأدبية الخاصة التي تمتد في عمق وجودهم العربي).

ومع ذلك، يتبدى لنا بوضوح أن الهيمنة الثقافية في عالمنا المعاصر، ومنذ عقود طويلة، قد اتخذت صورة جديدة مختلفة عن صورتها المقترنة بالاستعمار التقليدي: فالاستعمار التقليدي كان يسعى إلى الهيمنة الثقافية بفضل هيمنته بقوة السلاح، وكان يستخدم عادةً أدوات محدودة في هذه الهيمنة تتمثل في اللغة والتعليم بوجه خاص.

أما الصورة المعاصرة من الهيمنة الثقافية، فهي نتاج لما يُسمى «الاستعمار الناعم»، وهو شكل جديد من الاستعمار أو الهيمنة من دون حاجة لاستخدام القوة العسكرية في الغزو والاحتلال (وهو ما يتكلف كثيرًا من ناحية، ويخالف القوانين الدولية من جهة أخرى). ولا شك في أن الهيمنة الثقافية هي نتاج للهيمنة الاقتصادية والسياسية لبعض الدول الكبرى، ولكنها بدورها تدعم الهيمنة الاقتصادية والسياسية لهذه الدول.

ومن هنا بدأنا منذ عقود عديدة نسمع ونرى ظواهر عديدة للهيمنة الثقافية، منها -على سبيل المثال- ما يُسمى «الأمركة»، وهي ظاهرة تعبّر صراحةً عن تأثير أمريكي يريد الهيمنة في مجال الثقافة بمعناها الواسع الذي يشمل اللغة والفن والقيم، بل الملبس والمأكل أيضًا، أي يشمل أساليب العيش ومجمل رؤية الناس للعالم.

ولهذا فإن اللغة الإنجليزية قد ترسخت مكانتها في العالم باعتبارها اللغة الأولى في الاستخدام، وهي مكانة قد نشأت في الأصل بفعل هيمنة الإمبراطورية البريطانية التي ورثت نفوذها الولايات المتحدة الأمريكية منذ عصر ما بعد الحرب العالمية الثانية. وحتى هذه اللغة لم تسلم من ظاهرة «الأمركة»؛ فلقد حرص الأمريكان على شيوع مصطلح «الإنجليزية الأمريكية» American English، أي اللغة الإنجليزية على الطريقة الأمريكية من حيث النطق والتعبير بأساليب مخصوصة، وهي اللغة التي يستخدمها كل من يتعلم اللغة أو يدرس في مراكز ومدارس وجامعات أمريكية.

وبوجه عام يمكن القول إن اللغة الإنجليزية في حد ذاتها هي أداة رئيسة للهيمنة الثقافية، بجانب أدوات الفن والقيم الأخلاقية والجمالية وأساليب العيش. ومن هنا بدأنا نرى مظاهر هذا التأثير في شتى بقاع الأرض، بما في ذلك عالمنا العربي بطبيعة الحال.

ونحن جميعًا نرى مظاهر هذا التأثير في أساليب بعض الشباب في الملبس والمأكل والسلوك، وفي اللغة الأمريكية التي يتباهون باستخدامها على حساب اللغة العربية التي هي عندهم لغة الطبقة الأدنى التي يتعلم أبناؤها في مدارس وجامعات حكومية. ناهيك عن استخدام اللغة الإنجليزية في أسماء المحلات التجارية والمشروعات والمؤسسات الكبرى، وذلك على سبيل الدعاية وإظهار التميز.

ماذا تفعل الدول إزاء الهيمنة الثقافية؟ ما دور الهوية هنا؟ حينما نسعى إلى الإجابة عن هذا السؤال العويص، لا بد أن نستبعد ابتداءً بعض التصورات المغلوطة عن الهوية، ومنها أن الهوية تبقى ثابتة جامدة: ذلك أن الهوية ليست شيئًا ثابتًا يكمن في لحظة معينة من الماضي أو التراث، وإنما هي تكمن في شخصية شعب أو أمة، كما تشكلت هذه الشخصية عبر التاريخ من خلال إبداعها في مجال الثقافة بمعناها الواسع، وإبداعها في مجالات العلم والمعرفة عمومًا هكذا تتأسس الهوية وتترسخ باعتباره الذات الكلية لشعب أو أمة ما. هذه الهوية قد تتعرض لحالة من الخفوت والتواري أو الطمس بفعل هيمنة ثقافة الآخر.

ولكننا لا بد أن نلاحظ في الوقت نفسه أن هذه الحالة لا يمكن أن تحدث بفعل تأثير يأتي من خارج الذات، اللهم إلا إذا كانت الذات نفسها في حالة ثبات يجعلها غير قادرة على الإبداع. وبعبارة أخرى أكثر وضوحًا نقول إن هذه الحالة تحدث حينما تصبح الأمة نفسها غير قادرة على الحفاظ على هويتها من خلال إبداعها الخاص، وعلى رأسه الإبداع في مجال الثقافة بمعناها الواسع.

وهكذا، فإن الهوية لا يهددها تأثير يأتي من الخارج، وإنما هو يأتي من الداخل حينما لا يسهم هذا الداخل في تشكيل الهوية والحفاظ عليها. وعلى هذا فإن الهوية لا تعني انغلاق الذات على نفسها وعدم انفتاحها على الآخر؛ لأن هذا الانفتاح نفسه يكون ضروريًّا لإثراء تكوين الذات نفسها، ولكن من دون هيمنة لثقافة الآخر على ثقافة الذات.

خلاصة القول إنه لا يمكن مواجهة الهيمنة الثقافية التي تهدد الهوية إلا من خلال إنتاج الثقافة وتمكينها، بدءًا من إعلاء شأن اللغة وتمكينها في العلم والمعرفة والدراسة، وحتى إعلاء شأن الفنون والآدب وتمكينها في ثقافتنا؛ فضلًا عن الانفتاح على ثقافة الآخر، لا باستيرادها وترويجها، وإنما بإخضاعها للفحص والنقد.

مقالات مشابهة

  • الفاتيكان يختار أول بابا أمريكي عبر التاريخ.. وهذ اللقب الذي سيحمله
  • وزيرة البيئة: أكثر من 8 آلاف هكتار من الأراضي الحرجية والزراعية أحرقها العدو
  • ماذا يعني اسم سيندور الذي أطلقته الهند على عمليتها ضد باكستان؟
  • كان منزلنا في قلب الحصار الذي فرضته مليشيا الجنجويد، المدججة بالأسلحة والمركبات
  • القسام تنشر مشاهد من الكمين المركب الذي استهدف جنود وآليات العدو في منطقة مسجد “الزهراء”
  • أكثر من 100 شبكة حقوقية عربية تطالب مجلس الأمن بوقف الإبادة الجماعية بغزة
  • حركة المجاهدين تدين مجزرة العدو الصهيوني التي ارتكبها في لبريج
  • الهوية في مواجهة الهيمنة الثقافية
  • الهدوء الذي يسبق العاصفة
  • المسيحية والإسلام في تاريخ مصر