لجريدة عمان:
2025-06-25@11:26:28 GMT

في السرد واللغة والخطاب

تاريخ النشر: 25th, June 2025 GMT

في السرد واللغة والخطاب

قبْل المعاني والدلالات، قبل الصورة والتشكيل، قبل المتخيَّل والواقعي، قبل التقنيات والحِيَل الفنية، تأتي اللغة أولاً لتحتل المكانةَ والمنزلة الأولى في عملية الإبداع الكتابي، فهي التي تمنح الدلالات وتفجر المعاني، سواءٌ تلك التي يقصدها الكاتب المبدع أو التي لا يقصدها، وهي التي تشكّل الصورة والعوالم والآفاق والفضاءات، وعن طريق اللغة يدرك القارئ أو المتلقي ما الواقعي وما المتخيل فيما يقرأ أو يسمع.

. ويمكن أن يُغفَر للكاتب والمبدع كل ضعفٍ في كتابته، لكن لا يُغفَر له ضعفه في اللغة. وليس المقصود بالضعف هنا عدم إلمامِه بقواعد النحو والصرف، ولكن المقصود عدم إحساسه باللغة، وعدم قدرته على توظيفها توظيفًا فنيًا، بل إنها -وهي على ما أشرنا إليه- إمَّا أن تفتح الشهية لإكمال عملية التلقي أو تقف حجر عثرة أمام متابعة التلقي.

ولمّا كان الشعر ديوان العرب، كما كانوا يقولون قديمًا، كان كل حديثٍ عن اللغة وأهميتها ينصرف إلى الشعر دون غيره، حتى امتلأت المكتبة العربية بآلاف المؤلفات التي تتناول اللغةَ من حيث علاقتها بالشعر، وسادت مفاهيم ومصطلحات عن اللغة من حيث هي ألفاظٌ تتسِم تارة بالقوة والجزالة وبالرصانة وتارة أخرى بالانسيابية والرقة والعذوبة، حسب السياقات المختلفة، لكنها ظلت تدور جميعها في دوائر الشعر. ولمّا بدأ العرب يلتفتون إلى السرد كانت لغة السرد وقتَها لا تختلف كثيرًا عن لغة الشعر، لدرجة أن المحاولاتِ الأولى للسرد العربي كانت، كما هو ثابتٌ ومعروفٌ ومتداوَل، تتسِم بالسجع والجناس والجرس الموسيقي، وهو ما كان يعبّر عن طبيعة الذائقة العربية التي عاشت قرونًا تحت وطأة الشعر وسطوته.

إلى أن انتهى ذلك كله بعد قرون طويلة من تغيّر العالم واختلاف الحضارات، وتقدّم الفنون، ومِن ثم انفجر السرد فنًا مستقلا، قائمًا بذاته، ليحتل مساحاتٍ إبداعية عريضة وواسعة، وأصبحت له وسائله وآلياته وعناصره التي وإنْ اشترك بعضها مع وسائلِ فنونٍ أخرى وآلياتها وعناصرها، إلا أنها كانت لها في السرد طبيعةٌ تمنحها خصوصيةً وفرادة.

ومن هذه الآليات اللغة التي استقلّت تمامًا عن مفهوم اللغة الشعرية ذات الجرس الموسيقي التي كانت تسِم السردَ قديمًا، وأصبح مفهوم «اللغة السردية»، أو «لغة السرد»، مفهومًا له معانيه ودلالاته، وله آلياته وعناصره، وله كتبه ومؤلفاته ومنظّروه في كل زمانٍ ومكان.

ليس هذا فقط، بل إن لغة السرد هذه لم تعد مجرد أداةٍ يعبّر بها السارد عن سردِه، ومن ثم البحث في قدرته على توظيفها جماليًا أو فنيًا، بل تجاوزت ذلك لتصبح أكثر تعقيدًا بسبب تطور مفهوم السرد نفسه لتصبح اللغة علاقةً وسط شبكةٍ ضخمة من العلاقات السردية داخل أي عمل سردي/ قصصي/ روائي، لا سيما وأنها الحامل الأساس لكل العناصر السردية الأخرى كالزمان والمكان، والشخصيات، والحدث.

لكننا مضطرون هنا إلى التفريق بين أمرين، الأول اللغة السردية العادية، واللغة السردية الفنية، فاللغة السردية العادية هي التي تتطلب الحد الأدنى من سلامة اللغة، وليس المقصود هنا -مرة لن تكون الأخيرة- بسلامة اللغة صحتها اللغوية، لكن المقصود سلامة وحداتها التركيبية، سلامة نظم علاقاتها بالشخصيات أو بوصف المكان.

أمّا اللغة السردية الفنية فهي تحدٍ وحدها، لأنها أساس عملية الإبداع، هي هنا لغة ديناميكية، نشِطة وفعّالة، تتشكل بمستويات لا حصر لها، تهبط تارة وتتصاعد تارات حسب المواقف والأحداث، لها تجلياتها الواعية، إمّا في ذهن الكاتب أو في قدرتها هي على الإنتاج. هي لغة الكشف والإضاءة، لغة اختراق الحجب أمام القارئ والمتلقي، هي اللغة التي تقدم رؤيةً أكثر ما تقدم معنىً، هي التي يدرك صاحبها متى يوجز ويكثف فيها، ومتى يسهب ويطنب.

اللغة السردية الفنية هنا هي التي يستشعر القارئ بها وأمامها أن المكتوب ما كان له أن يكون إلا بما كان عليه بفضل اللغة التي كتبته والتي تُشعِره أنه معها قادرٌ هو على صناعة المعنى ورؤيته.

وتصنع اللغة -بنوعيها السابقين- أمام الكاتب أو الناقد أو القارئ أزماتٍ كثيرة ومتعددة، لا يمكن عدّها أو حصرها؛ لأنها تتغير ليس فقط بتغير الأزمان وتقدّم علومِ اللغة وفنون النقد، ولكن أيضًا بتغير تكنيك النص المسرود نفسِه، ويمكن الإشارة إلى بعض هذه الأزمات، على أن نفهم هذه الأزمات بصفتها تحديات فنية:

أولاً: سطوة اللغة

أول أزمة مِن أزمات السرد واللغة تتمثل فيما يمكن أن نطلق عليه «سطوة اللغة»، وسطوة اللغة يكاد يكون مفهومًا عربيًا خالصًا بسبب تاريخ اللغة العربية وارتباطها بالشعر والمقدس، والأزمة تتجلى في وقوع الكاتب في شَرَك اللغة وفتنتها، والمقصود هنا أوهام اللغة الشاعرة، واللغة المقدسة، وأجمل اللغات. وإذا كنا متفقين على أن كل شيء في الفكر والوعي والثقافة (يبدأ) باللغة و(ينتهي) باللغة، فإنّ البدء باللغة مفهوم ومستوعَب، لكنّ الانتهاء بها ليس كذلك؛ لأن المعنى هنا ليس دالاً فقط على الأهمية والخطورة، لكنه دالٌّ أكثر على موقف التعامل معها، وموقف تلقّيها وفهْم ما ينتج عنها. ومن ثم فإنّ الانتهاء باللغة لو عَني فقط أهميتَها وخطورتها كأهمية البدء بها وخطورته فلن يتحرك موقف الإنسان من اللغة خطوةً واحدة إلى الإمام، وسيقف عند وظيفتها العادية كأداة تواصلٍ أو اتصال من دون أن يتجاوز ذلك إلى مهامها ووظائفها الأخرى الفنية والجمالية التي مِن ضمنها مهام الفنون ووظائف الإبداع والتأثير، ومن المهم الإشارة هنا إلى أن هذا ينطبق على كل لغات العالم دون استثناء، لكن مشكلة اللغة العربية أن لها سطوة وشهوة يقع فيهما كثير من كتّاب الشعر والسرد على حدٍ سواء، وإذا كان الأمر مقبولاً في الشعر الذي يمكن أن تعتمد كثير من نماذجه على الزخرفة والصنعة، وقوة تأثير العبارة، وجزالة الألفاظ.. فإن الأمر في السرد ليس كذلك، فاللغة في السرد مجرد أداة لإبراز الخطابات وهو ما سنعرض له في حينِه.

ثانيًا: قدرات اللغة

لا يلتفت الكثيرون إلى أن المساحات المتاحة والمفتوحة لاستثمار اللغة في السرد، أكبر من نظائرها في الشعر، رغم ارتباط اللغة بالشعر، إلا أن قيود الوزن والقافية من ناحية، وحجم القصيدة من حيث عدد أبياتها أو سطورها، تشكل قيدًا على استثمار قدرات اللغة وهي قدرات لا نهائية تجد غايتها وحريتها في السرد الذي لا يتقيد بمساحة ولا بشروط وضوابط تحد من انطلاقه.

والمأزق الذي تقع فيه نماذج من السرد الحديث أو المعاصر هو الاعتقاد أن مهمة اللغة منْح المادة المكتوبة جنسَها الأدبي، سردًا أم شعرًا، أو منْح المادة المكتوبة نوعَها السردي، قصة أم رواية، ومن ثم يبدأ السرد ويستمر وينتهي في ذلك فقط، دون أن يلتفت الكاتب إلى قدرة اللغة على نفخ الروح في الشخصيات، أو على تشكيل صورة المكان، أو على خلْق العالم داخل النص، أو حتى على استثمار قدراتها على الوصف؛ فالوصف يكاد يكون شيئًا خاصًا بطبيعة اللغة وقدراتها فقط، فالكاميرا على سبيل المثال تلتقط، وفن السينما يعتمد على المؤثرات، واللوحة الفنية تتكئ على الألوان، بينما اللغة وحدها يمكنها أن تصف مراتٍ ومرات.

ثالثًا: أُحادية اللغة

والمقصود بها وقوع السرد في أسر حضور لغةٍ واحدة تشكّل خطابًا واحدًا للراوي أو للشخصيات (يمكن قبول ذلك في المجموعات القصصية ذات الطبيعة الخاصة) في السرد الروائي، وهو ما يمكن ملاحظته أكثر في الأعمال السردية التي تعتمد على تقنية تعدد الرواة، إذ يفاجأ القارئ أو المتلقي بأن الرواة جميعًا ينطقون بلغة واحدة متماثلة، والتماثل والتشابه في التعبير والأساليب بين الرواة من ناحية اللغة، يضر بالعمل ضررًا بالغًا، ولا يمكن من ثم أن يكون مقنعًا فنيًا. كما يمكن لهذا التحدي أن يكون أكثر وضوحًا في حالة وجود راوٍ عليم مسيطر في الرواية، إذ لا يمكن بأية حالٍ أن تتساوى لغته السردية بلغة أبطال الرواية.

كما يشكّل تعدد الشخصيات داخل العمل السردي أزمة أو تحديًا أمام الكاتب، إذ لا يمكن أن تكون لغة كل الشخصيات واحدة، ونكرر أن المقصود باللغة هنا ليس نوعها فصحى أو عامية، لكن المقصود مستواها الدلالي، المقصود وحداتها التركيبية.

رابعًا: اللغة والخطاب

أزمة لغة السرد ولغة الحوار، وهي الأزمة أو التحدي القديم المتجدد الذي تحدّث فيه وأشار إليه نقادٌ وباحثون مراتٍ ومرات، ولا يكاد يتوارى حتى يظهر مرة أخرى، والسبب في ذلك هو موقفنا النفسي والأيديولوجي من اللغة وهو الموقف الذي سبق أن أشرنا إليه في «سطوة اللغة»، ويمكن لنا أن نوجز هذه الأزمة في الإشارة إلى وجود ثلاثة آراء حولها:

رأي يرى أن لغة السرد يجب أن تكون فصيحة، بينما لغة الحوار يجب أن تكون باللهجة العامية. ورأي ثانٍ لا يرى حرجًا أن تكون اللغة واحدة في السرد والحوار معًا.

ورأي أخير يرى أن لغة الحوار يجب أن تتناسب مع مستوى الشخصيات، فالمتعلم يكون حواره بالفصحى، بينما الأميّ يكون بالعامية، وكذا التفريق بين حوار الطبيب والمهندس والمعلم، وحوار الخادم أو الطاهي وما إلى ذلك.

والحق أنهم جميعًا لا يفرقون بين اللغة والخطاب، ومن ثم يجرّدون اللغة السردية الفنية التي سبق وأن أشرنا إلى جمالياتها وقدراتها، يجرّدونها من كل ذلك ليحوّلوها إلى مجرد أداة بلا روح ولا معنى ولا قدرة، ويتحول الموقف من اللغة السردية إلى موقف متعلق بجلال اللغة وهيمنتها وتقدير الفصحى على العامية، أو إلى موقف يهتم بعلاقة الشخصيات بقواعد النحو والصرف!

بينما الخطاب هو الأهم، فإذا كانت نقطة البدء والانطلاق في اللغة دائمًا هي أنظمتها الإشارية والدلالية التي تتضمن الألفاظَ والحركات، فإنّ نقطة البدء والانطلاق في الخطاب هي السياق والعلامات، وهو ما يمكن فهمه في مثال بسيط كأن تجد شخصية ما في رواية ما تعمل خادمة مثلاً، وتعرف أنها لم تكمل تعليمها، لكنها قرأت كثيرًا من الكتب والمؤلفات، وربما استطاعت أن تكتب شِعرًا... هنا يمكن لخطاب هذه الخادمة أن يكون أكثر ألقًا وحضورًا في العمل السردي من لغة مخدومها مثلاً الذي هو في العمل السردي طبيب أو مهندس.

خاتمة:

من أكبر الأخطاء ذيوعًا وانتشارًا أن امتلاك ناصية اللغة نحوًا وصرفًا وبلاغةً، كافٍ لامتلاك القدرة على السرد، لكن الحقيقة غير ذلك تمامًا، فالبناء السردي، والرؤية، والأسلوب، والتقنيات الفنية، أشياء لا علاقة لها باللغة، لكنها مِن أهم عناصر السرد التي لن تتأتي فقط بامتلاك اللغة، ولكن بكيفية استثمار هذه اللغة التي هي ليست سهلةً طيعة، لكنها أبيةٌ متمنعة، لا تمنح قدراتها وإمكانياتها إلا لمن يفهم أن لها سياقاتٍ وعلامات وقدرات على الإنتاج بعيدة تمامًا عن وظيفتها الأولى التي هي إيصال المعاني.

أشرف البولاقي كاتب مصري

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: اللغة التی فی السرد لا یمکن یمکن أن ما یمکن أن یکون مفهوم ا أن تکون هی التی ما کان ومن ثم

إقرأ أيضاً:

ترامب يخفّف العقوبات: يمكن للصين مواصلة شراء النفط الإيراني

24 يونيو، 2025

بغداد/المسلة:  أكد الرئيس الأميركي دونالد ترامب الثلاثاء أن بإمكان الصين مواصلة شراء النفط الإيراني، في خطوة يبدو أنها تصب في إطار تخفيف العقوبات التي كانت تفرضها واشنطن على طهران.

وقال ترامب على منصته “تروث سوشال” “بإمكان الصين الآن مواصلة شراء النفط من إيران. نأمل بأن يشتروا الكثير من الولايات المتحدة أيضا”.

وأدت تصريحات ترامب إلى تراجع أسعار النفط فانخفض سعر برميل خام برنت المرجعي بنسبة 4,5 في المئة إلى 68,26 دولارا وخام غرب تكساس الوسيط بنسبة 4,6 في المئة إلى 65,34 دولارا.

وشكّل موقف الصين كجهة رئيسية تشتري النفط الإيراني طوق نجاة بالنسبة لطهران في وقت يعاني اقتصاد الجمهورية الإسلامية من العقوبات الدولية.

وتشتري بكين أكثر من 90 في المئة من صادرات إيران النفطية، بحسب شركة “كبلير” للتحليلات.

واستوردت 1,3 مليون برميل من الخام الإيراني يوميا في نيسان/أبريل، بتراجع عن مستوى آذار/مارس الذي اعتبر غير مسبوق منذ خمسة أشهر.

وأعلنت الولايات المتحدة الشهر الماضي عقوبات جديدة على مبيعات النفط الإيرانية إلى بكين في إطار مواصلة إدارة ترامب حملتها “للضغوط القصوى” على طهران.

دانت الصين مؤخرا الضربات الأميركية على ثلاث منشآت نووية إيرانية ودعت جميع الاطراف في المنطقة “خصوصا إسرائيل”، إلى خفض التصعيد.

كما دعت إلى حل سياسي يسمح لوقف إطلاق النار المعلن بالصمود.

لكن محللين يشيرون إلى أن الحرب بين إسرائيل وإيران خفضت بشكل كبير نفوذ الصين إقليميا.

 

 

المسلة – متابعة – وكالات

النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.

About Post Author Admin

See author's posts

مقالات مشابهة

  • خطاب المفتتح والخاتمة قراءة في رواية «الروع»
  • بعد إعلان ترامب نهاية الحرب.. كيف يمكن أن تُغير 14 قنبلة الشرق الأوسط؟
  • كيف يمكن محاسبة مجرمي سوريا؟ درس من فرانكفورت
  • ترامب: يمكن للصين مواصلة شراء النفط الإيراني
  • ترامب يخفّف العقوبات: يمكن للصين مواصلة شراء النفط الإيراني
  • ولي العهد لأمير قطر: عدوان إيران سافر لا يمكن تبريره
  • السعودية: العدوان الإيراني على قطر انتهاك صارخ ولا يمكن تبريره
  • السعودية: العدوان على قطر أمر مرفوض ولا يمكن تبريره
  • التقطيع الثقافي للسرد.. مقاربة معرفية جديدة في الخطاب الأدبي الجزائري