الطوفان بعد عام.. وإبراهيميّة الأصنام!
تاريخ النشر: 14th, October 2024 GMT
كانت الرياح قبل عملية طوفان الأقصى تجري بما تشتهي سفن السياسة الإسرائيلية في المنطقة، وكانت مدعومة كليّا بالسياسة الأمريكية المهيمنة على المنطقة بشكل شبه كامل، وقد كانت أيضا دون أية هوامش للسياسة العربية التي تدور في فلكها ودون أيّ اعتبار لها، حتى اعتبار حفظ مياه الوجه أمام شعوبها قد أذابته سياساتها المتماهية مع سياسة الاحتلال الصهيوني.
طبعت دول معروفة وأقامت علاقاتها الدبلوماسية والتجاريّة وأمعنت بإعطاء قداسة دينية استظلّت فيها بما أسموه الديانة الإبراهيمية الجامعة للديانات الثلاث، ووصل القطار إلى أعتاب المملكة العربية السعوديّة التي كان بتطبيعها ستتهافت دول كثيرة عربية وإسلامية على هذا المسار الذي يجعل السيادة لدولة الاحتلال ويحلّ عليها النعيم المقيم والاستثمار والرخاء، وحلّ عقدة العيش في وسط معاد، والتحوّل إلى هذا الانسجام الجميل دون أية استحقاقات للقضية الفلسطينية أو تعديل الوضع القائم للمظلومية الفلسطينية التي ذهبت فيها أية حلول عادلة أو حتى غير عادلة أدراج الرياح.
جاءت "طوفان الأقصى" لتكسر شرائع سفنهم وتخرج قطار التطبيع عن سكّته، لم تكن مجرّد عبور للحدود وتحطيم أسطورة الأمن وجبروت القوّة والعتاد، بل حملت القضية الفلسطينية من عالم النسيان ووضعتها على محكّ هذه التحوّلات وحفرت لها من جديد في الزمان والمكان، كانت عبورا قويّا كاسحا للقضيّة الفلسطينية لتعود لها الصدارة والأولوية ولتطرق على كلّ أبواب العالم ولتقول بقول فصيح: هناك شعب محتل، هناك احتلال يسلبه حقوقه المشروعة والمنصوص عليها دوليّا، ودار صراع بين روايتين: رواية مشروع الاحتلال الذي يريد أن يبدأ الحكاية من يوم الطوفان وما جرى في ذلك اليوم من قبل حماس، ورواية فلسطينية تضع اليد على بداية القضية ومسبّبات هذا الطوفان.
وانقسم العالم بين الروايتين، حيث أضحت الولايات المتحدة ومجموعة دول أوروبية هي التي مارست الاستعمار وما زالت تمارسه بطرق متعددة، وهي راعية المشروع الصهيوني بعقدتها الصليبية الميسحانية العنصرية الحاقدة. "طوفان الأقصى" كشفت الوجه الحقيقي لهذا الغرب المتحالف مع المشروع الصهيوني، وكشفت منظومة القيم الإنسانية الكاذبة والكيل بمكيالين والانحياز التام بالمال والسلاح والموقف السياسي وتبني روايتهم بكل حذافيرها.
أمّأ بقية العالم فقد أصبحت فلسطين والقضية الفلسطينية بروايتها الصحيحة حاضرة بقوّة، وفقدت دولة الاحتلال بذلك رواية الضحيّة التي تستعطف بها العالم، بل أصبحت صورتها صورة الذي يقوم بحرب الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني.
وبعد مرور سنة بإمكاننا رصد ما فقدته دولة الاحتلال في هذا العدوان المتوحّش على قطاع غزة والفلسطينيين بشكل عام في الضفّة:
- هي أرادت أن ترمّم الردع الذي كسره الطوفان وضربه في العمق، بعد مرور عام وهي لم تصل إلى الأهداف التي حدّدتها في حرب ضروس استخدمت كلّ ما تملك من قوّة ومدعومة من بالولايات المتحدة الأمريكية وعدة دول غربية (ألمانيا بريطانيا وفرنسا ودول أخرى تمدّها بالسلاح)، ومع هذا لم تتمكّن من إنجاز نصر حاسم على مقاومة فلسطينية محاصرة ومحدودة القدرات والإمكانيات، بل وصلت إلى المراوحة في ذات المكان، لم تفلح إلا في القتل للأطفال والنساء والتدمير وضرب المدارس والمستشفيات والكنائس وخيام النازحين، وفتحت عليها عدة جبهات حزب الله في لبنان وأنصار الله في اليمن والضفة الغربية والحشد الشعبي في العراق.
لقد كان الردع خلال العالم في حالة من التراجع والتآكل، وبعد مرور عام انتهى الردع، مع دخول مواجهات واسعة على جبهة الشمال في لبنان دون التوصل لأي حلّ؛ لا بإعادة حزب الله إلى شمال الليطاني كما كانت تريد دولة الاحتلال، ولا بإرجاع المستوطنين النازحين من الشمال، ولا بتفكيك جبهة المساندة وكف حزب الله عن مساندة غزّة. كلّ ذلك يثبت أن ادعاء الردع الذي كانت تتبجّح به قد انتهى وذهب إلى غير رجعة.
- خسر المشروع الصهيوني صورته الحضارية التي كان يدّعيها وأنه واحة الديمقراطية في المنطقة، وأنه الأجدر بتمثيل حقوق الإنسان التي يقيمها الغرب بأبهى صورها في الحضارة الإنسانيّة، وأنه الوكيل الوحيد لهذه القيم الغربية في منطقة متوحّشة ومتخلّفة ولا حظّ لها من هذه القيم. هذا العدوان وهذه المجازر أثبتت بأنه الأسوأ أخلاقا وقيما ولا حظّ له فيها، وتصدير صورة حضارية إنسانية مشرقة هي من أسس نجاح الدول وبقاء الحكم على قواعد الحق والعدل.. لقد خسر كل ّهذا ونجح نجاحا باهرا في تصدير أسوأ صورة تصنعها مجموعة بشرية لنفسها في هذا العصر.
- خسر المشروع الصهيوني قدرته على إيجاد مكان للهجرة اليهودية يتوّفر فيه الامن والاستقرار والرفاه والاستثمار، ضاعت هذه البيئة وتبدّلت إلى العكس تماما، مما يشجع الهجرة المعاكسة وهجرة رؤوس الأموال المستثمرة، ولا يخفى ما لذلك من مردود سلبي على اقتصادهم وحياتهم الاجتماعية وبنيتهم النفسية.
- وهذا يقودنا إلى الحرب النفسية التي شكّلها الطوفان، سواء كان ذلك بضربته الأولى أو باستمرار حالة الاستنزاف النفسي الناتجة عن عدم توفّر القدرة على إيجاد النصر الحاسم، وبقاء التهديدات في الجنوب والشمال مما يزيد من حالة التوتّر والقلق وإمكانيات الهزيمة النفسية.
- بداية تصدّع في الجبهة المساندة للمشروع الصهيوني عالميا وحتى في المعسكر الداعم تقليديا، خاصة ما شهدته الجامعات الأمريكية والأوروبية في إدانة حرب الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني، وما تبع ذلك من دعوات مقاطعة الجامعات لأي تعاون مع الجامعات العبرية، وكذلك دعوات المقاطعة ليس فقط لمنتجات دولة الاحتلال، بل لكل الدول الداعمة لهذا الاحتلال وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا.
- ما شكّلته إدانة محكمة العدل الدولية ودعوة محكمة الجنايات وجرائمهم التي انتشرت عالميا، بحيث أصبحوا محطّ احتقار واشمئزاز لما ارتكبته أيديهم بحق الشعب الفلسطيني، هذا كلّه أدّى إلى تحوّلهم إلى وصمة عار في جبين البشريّة. هذا له ما له من تداعيات مستقبلية يمكن البناء عليها.
وهناك نقاط كثيرة يمكن الحديث فيها في مجال ما خسره المشروع الصهيوني خلال هذا العام، ولكن في مقالة عاجلة نكتفي بهذه النقاط، للعودة ثانية في إمكانيّات البناء على هذا الأمر تراكميّا وكي نصل إلى سيناريوهات العمل لاستمرار الاستنزاف لهذا المشروع على جميع الصعد. فبالإضافة للاستنزاف العسكري في الوضع المقاوم الذي أصبح قائما على امتداد محور المقاومة سواء كان ذلك مفتوحا أو مساندة، فإن الأمر يتطلّب أيضا في معركة الوعي كي تستمر ثقافة المقاومة في عطائها وإمداد جبهات المقاومة في العناصر القادرة على الالتحاق والتضحية والعمل بكل متطلبات المعركة.
ولا بدّ من الانتباه لما فتحه الطوفان في معركة الوعي للاستمرار والمزيد من تعزيز ثقافة المقاومة وإدراك حقيقة التحدّي، واضح أن المنطقة كانت تساق إلى ثقافة القطيع والسير في ركب التطبيع، فجاء الطوفان ليقلب الطاولة على هذه الثقافة. بات المشروع الصهيوني أحد أركان ثلاثة تعزّز سلب العالم العربي من سيادته وكرامته وحريّته والقدرة على تحقيق ذاته وهويته الثقافية الاصيلة، أما الركنان الآخران فهما الهيمنة الأمريكية والنظام العربي.
هذه الأركان الثلاثة التي ضربت المقاومة جدران خزانهما بقوّة في العقل العربي، لذلك فإن من أهم إنجازات طوفان الأقصى والذي اتضحت معالمه بشكل واضح بعد عام على مروره هو هذا التحدي الكبير أمام نهضة الأمّة وتحرّرها، فلم تعد المسألة فقط فلسطينيّة أو محورا مقاوما يمتد من اليمن جنوبا إلى لبنان شمالا، بل هو تحدّي أمّة وضرورة خلاصها من مركب تخلفّها وظهورها مكشوفة كمستعمرة للهيمنة الأمريكية والصهيونية، وأن ما كان يعدّ لها مما كان يسمّى ديانة إبراهيمية ما هو إلا إحكام السيطرة عليها، وبالتالي تعود القضية الفلسطينية كقضية مركزية للأمة، منها وإليها تكون البداية والانطلاق للتغيير الحقيقي الذي يُخرج الأمّة من هذه الهيمنة الغاشمة وهذا الاستعمار الخبيث إلى حيث تحرّرها وفكّ عقدتها. لقد باتت "طوفان الأقصى بعد عام عنوانا حاسما وقاطعا لتحقيق التحرر التام من هذه الأصنام الثلاثة: المشروع الصهيوني والهيمنة الأمريكية والنظام العربي المطبّع الفاسد الذي كفّنوه بما يسمّى بالإبراهيمية.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الاحتلال الفلسطينية فلسطين الاحتلال الابراهيمية طوفان الاقصي مدونات مدونات مدونات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة رياضة سياسة اقتصاد سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة القضیة الفلسطینیة المشروع الصهیونی دولة الاحتلال ة الفلسطینیة طوفان الأقصى ة التی
إقرأ أيضاً:
من عدن إلى الضالع.. أدوات الاحتلال تفتح الجبهات أمام الكيان الصهيوني
يمانيون | تقرير تحليلي
في مشهد يعكس قمة الانحدار السياسي والانفصال التام عن وجدان الأمة، كشفت صحيفة “جيروزاليم بوست” الصهيونية عن زيارة أجراها أحد صحفييها إلى مدينة عدن الواقعة تحت سيطرة حكومة المرتزقة والمجلس الانتقالي المدعوم إماراتيًا.
لم تكن هذه الزيارة حدثًا عابرًا أو تفصيلة عابرة في مشهد سياسي مشوش، بل كانت مؤشرًا واضحًا على مدى التورط العلني والمتصاعد في مسار التطبيع والخيانة، والارتماء الكامل في أحضان المشروع الصهيوأمريكي الذي يستهدف تمزيق اليمن وتفكيك المنطقة.
زيارة صحفي صهيوني إلى عدن، ولقاؤه بقيادات بارزة من المجلس الانتقالي ووزير الدفاع في حكومة المرتزقة، محسن الداعري، ونائب محافظ حضرموت المرتزق بن حبريش، تمثل فصلاً جديدًا في مسلسل التآمر والتبعية، وتؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن حكومة المرتزقة أصبحت مجرد أداة تنفذ توجيهات الخارج دون خجل أو مراعاة للكرامة الوطنية أو الموقف الشعبي المناهض للصهيونية.
شكوى من الأمريكي وتوسل للتنسيق مع الصهاينة
بحسب الصحيفة الصهيونية، فقد عبّر وزير الدفاع في حكومة المرتزقة خلال اللقاء عن صدمة حكومته من قرار الإدارة الأمريكية القاضي بالتفاوض مع صنعاء لوقف إطلاق النار، وعبّر عن أسفه العميق لعدم تنفيذ أي عملية برية للاستفادة من الغطاء الجوي الأمريكي، مشيرًا بمرارة إلى أن الأمريكيين لم ينسقوا معهم ولم يختاروهم كشريك في أي سيناريو قادم.
هذه الشكوى السياسية ليست سوى اعتراف صارخ بعدمية القرار وانعدام السيادة، حيث تتحول “الحكومة” إلى طرف يترقب الفتات من موائد الأمريكي، ويعرب عن استعداده للتنسيق مع العدو الصهيوني طالما أن واشنطن لم تستجب له.
وفي سياق أكثر خطورة، اصطحبت قيادات من المجلس الانتقالي الصحفي الصهيوني في جولة ميدانية إلى جبهتي الضالع وشبوة، في محاولة مفضوحة لتقديم أوراق اعتمادهم للعدو الصهيوني على أنهم شريك ميداني مستعد لأي تنسيق أمني أو عسكري أو استخباراتي.
المطالب.. سلاح وتدريب وتبادل معلومات
وأعربت القيادات العميلة للمحتل الإماراتي في حديثها مع الصحفي الصهيوني عن رغبتها الصريحة في الحصول على دعم عسكري مباشر، شمل توفير المعدات وتدريب القوات البرية وبناء القدرات وتبادل المعلومات الاستخباراتية، وهو ما يكشف دون مواربة أن هذه القيادات لا ترى في الصهاينة عدوًا، بل شريكًا محتملاً في الحرب ضد اليمنيين أنفسهم.
وهذا التوجه الخطير يمثل انتقالًا من التطبيع السياسي إلى التعاون العسكري والأمني، وهو ما يُنذر بتبعات كارثية ليس فقط على القضية الفلسطينية، بل على مستقبل اليمن واستقلال قراره السياسي والعسكري.
موقف صنعاء.. رفض قاطع وتأكيد للهوية الجامعة
وفي مقابل هذا الانحدار المدوي لحكومة المرتزقة، يبرز موقف صنعاء ثابتًا وواضحًا في انحيازه لفلسطين والمقاومة ومواجهة المشروع الصهيوأمريكي.. حكومة صنعاء، التي تُعد اليوم صوتًا عربيًا وإسلاميًا حرًا، لا تتورع عن إعلان رفضها لكل أشكال التطبيع، وتعتبر الكيان الصهيوني كيانًا غاصبًا يجب مقاومته لا مصافحته.
إن القوات المسلحة اليمنية التي تستهدف السفن الصهيونية والأمريكية في البحر الأحمر وبحر العرب دفاعًا عن غزة، تقدم اليوم أعظم صورة للموقف اليمني الأصيل الذي يترجم الانتماء الحقيقي للأمة وقضاياها، وهو ما يفضح خيانة المرتزقة الذين يحاربون الشعب اليمني لحساب الصهاينة ويستقبلونهم في أرض اليمن وكأنهم أصحاب بيت لا غرباء غزاة.
مؤشرات متصاعدة.. التنسيق ليس حدثًا معزولًا
زيارة الصحفي الصهيوني ليست سوى محطة ضمن مسار تصاعدي من العلاقات السرية والعلنية بين حكومة المرتزقة والكيان الصهيوني.. فقد سبق أن كشفت وسائل إعلام غربية وصهيونية عن لقاءات ولقاءات تنسيقية تمت برعاية إماراتية وسعودية، كما تحدث مسؤولون صهاينة عن “أهمية التواصل مع الأطراف اليمنية التي يمكن التعاون معها أمنياً”.
الزيارة تؤكد ما سبق أن حذرت منه حكومة صنعاء مرارًا، وهو أن المشروع الأمريكي ـ الصهيوني في اليمن يسعى لخلق كيان عميل على الساحل الجنوبي والشرقي، يكون منصة استخباراتية وعسكرية تخدم مصالح العدو في باب المندب وخليج عدن، في مقابل تدمير البنية الوطنية اليمنية وتفكيك النسيج الداخلي.
الزيارة التي كشفت معسكرات الصراع
وما بين صنعاء وعدن، تتجلى معسكرات الصراع بوضوح: معسكر السيادة والمقاومة، ومعسكر التبعية والتطبيع. حكومة صنعاء تُعبّر عن نبض الشارع العربي الرافض للصهيونية، فيما تعيش حكومة المرتزقة حالة من الاغتراب الكامل، لا عن الشعب فحسب، بل عن تاريخ اليمن وجغرافيته وموقعه في خارطة المقاومة.
لقد أصبحت عدن، للأسف، ساحة مفتوحة للصهاينة وأجهزة الاستخبارات الأجنبية، في وقت تتحول فيه صنعاء إلى قبلة الأحرار ومحطة للقرارات السيادية التي تضع فلسطين في القلب من كل معركة، وتجعل من البحر الأحمر ميدانًا لمواجهة الغطرسة الصهيوأمريكية.
وإذا كانت الزيارة الأخيرة قد كشفت عن خيانة ناطقة، فإن الرد اليمني لم يتأخر كثيرًا، فالخيارات السيادية لا تزال تُصاغ من العاصمة صنعاء، وحسابات الردع في الميدان هي التي ستكتب نهاية أدوات التطبيع والخيانة عاجلاً أم آجلاً.