عربي21:
2025-06-03@09:45:35 GMT

الطوفان بعد عام.. وإبراهيميّة الأصنام!

تاريخ النشر: 14th, October 2024 GMT

كانت الرياح قبل عملية طوفان الأقصى تجري بما تشتهي سفن السياسة الإسرائيلية في المنطقة، وكانت مدعومة كليّا بالسياسة الأمريكية المهيمنة على المنطقة بشكل شبه كامل، وقد كانت أيضا دون أية هوامش للسياسة العربية التي تدور في فلكها ودون أيّ اعتبار لها، حتى اعتبار حفظ مياه الوجه أمام شعوبها قد أذابته سياساتها المتماهية مع سياسة الاحتلال الصهيوني.

لم يعد هناك صوت للمشروع العربي للسلام والذي كان يطالب حياء بحلّ القضية الفلسطينية، تلاشى أمام عجلات قطار التطبيع الذي أصبح صوت صفّارته فوق صوت الجميع.

طبعت دول معروفة وأقامت علاقاتها الدبلوماسية والتجاريّة وأمعنت بإعطاء قداسة دينية استظلّت فيها بما أسموه الديانة الإبراهيمية الجامعة للديانات الثلاث، ووصل القطار إلى أعتاب المملكة العربية السعوديّة التي كان بتطبيعها ستتهافت دول كثيرة عربية وإسلامية على هذا المسار الذي يجعل السيادة لدولة الاحتلال ويحلّ عليها النعيم المقيم والاستثمار والرخاء، وحلّ عقدة العيش في وسط معاد، والتحوّل إلى هذا الانسجام الجميل دون أية استحقاقات للقضية الفلسطينية أو تعديل الوضع القائم للمظلومية الفلسطينية التي ذهبت فيها أية حلول عادلة أو حتى غير عادلة أدراج الرياح.

جاءت "طوفان الأقصى" لتكسر شرائع سفنهم وتخرج قطار التطبيع عن سكّته، لم تكن مجرّد عبور للحدود وتحطيم أسطورة الأمن وجبروت القوّة والعتاد، بل حملت القضية الفلسطينية من عالم النسيان ووضعتها على محكّ هذه التحوّلات وحفرت لها من جديد في الزمان والمكان، كانت عبورا قويّا كاسحا للقضيّة الفلسطينية لتعود لها الصدارة والأولوية ولتطرق على كلّ أبواب العالم ولتقول بقول فصيح: هناك شعب محتل، هناك احتلال يسلبه حقوقه المشروعة والمنصوص عليها دوليّا، ودار صراع بين روايتين: رواية مشروع الاحتلال الذي يريد أن يبدأ الحكاية من يوم الطوفان وما جرى في ذلك اليوم من قبل حماس، ورواية فلسطينية تضع اليد على بداية القضية ومسبّبات هذا الطوفان.

وانقسم العالم بين الروايتين، حيث أضحت الولايات المتحدة ومجموعة دول أوروبية هي التي مارست الاستعمار وما زالت تمارسه بطرق متعددة، وهي راعية المشروع الصهيوني بعقدتها الصليبية الميسحانية العنصرية الحاقدة. "طوفان الأقصى" كشفت الوجه الحقيقي لهذا الغرب المتحالف مع المشروع الصهيوني، وكشفت منظومة القيم الإنسانية الكاذبة والكيل بمكيالين والانحياز التام بالمال والسلاح والموقف السياسي وتبني روايتهم بكل حذافيرها.

أمّأ بقية العالم فقد أصبحت فلسطين والقضية الفلسطينية بروايتها الصحيحة حاضرة بقوّة، وفقدت دولة الاحتلال بذلك رواية الضحيّة التي تستعطف بها العالم، بل أصبحت صورتها صورة الذي يقوم بحرب الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني.

وبعد مرور سنة بإمكاننا رصد ما فقدته دولة الاحتلال في هذا العدوان المتوحّش على قطاع غزة والفلسطينيين بشكل عام في الضفّة:

- هي أرادت أن ترمّم الردع الذي كسره الطوفان وضربه في العمق، بعد مرور عام وهي لم تصل إلى الأهداف التي حدّدتها في حرب ضروس استخدمت كلّ ما تملك من قوّة ومدعومة من بالولايات المتحدة الأمريكية وعدة دول غربية (ألمانيا بريطانيا وفرنسا ودول أخرى تمدّها بالسلاح)، ومع هذا لم تتمكّن من إنجاز نصر حاسم على مقاومة فلسطينية محاصرة ومحدودة القدرات والإمكانيات، بل وصلت إلى المراوحة في ذات المكان، لم تفلح إلا في القتل للأطفال والنساء والتدمير وضرب المدارس والمستشفيات والكنائس وخيام النازحين، وفتحت عليها عدة جبهات حزب الله في لبنان وأنصار الله في اليمن والضفة الغربية والحشد الشعبي في العراق.

لقد كان الردع خلال العالم في حالة من التراجع والتآكل، وبعد مرور عام انتهى الردع، مع دخول مواجهات واسعة على جبهة الشمال في لبنان دون التوصل لأي حلّ؛ لا بإعادة حزب الله إلى شمال الليطاني كما كانت تريد دولة الاحتلال، ولا بإرجاع المستوطنين النازحين من الشمال، ولا بتفكيك جبهة المساندة وكف حزب الله عن مساندة غزّة. كلّ ذلك يثبت أن ادعاء الردع الذي كانت تتبجّح به قد انتهى وذهب إلى غير رجعة.

- خسر المشروع الصهيوني صورته الحضارية التي كان يدّعيها وأنه واحة الديمقراطية في المنطقة، وأنه الأجدر بتمثيل حقوق الإنسان التي يقيمها الغرب بأبهى صورها في الحضارة الإنسانيّة، وأنه الوكيل الوحيد لهذه القيم الغربية في منطقة متوحّشة ومتخلّفة ولا حظّ لها من هذه القيم. هذا العدوان وهذه المجازر أثبتت بأنه الأسوأ أخلاقا وقيما ولا حظّ له فيها، وتصدير صورة حضارية إنسانية مشرقة هي من أسس نجاح الدول وبقاء الحكم على قواعد الحق والعدل.. لقد خسر كل ّهذا ونجح نجاحا باهرا في تصدير أسوأ صورة تصنعها مجموعة بشرية لنفسها في هذا العصر.

- خسر المشروع الصهيوني قدرته على إيجاد مكان للهجرة اليهودية يتوّفر فيه الامن والاستقرار والرفاه والاستثمار، ضاعت هذه البيئة وتبدّلت إلى العكس تماما، مما يشجع الهجرة المعاكسة وهجرة رؤوس الأموال المستثمرة، ولا يخفى ما لذلك من مردود سلبي على اقتصادهم وحياتهم الاجتماعية وبنيتهم النفسية.

- وهذا يقودنا إلى الحرب النفسية التي شكّلها الطوفان، سواء كان ذلك بضربته الأولى أو باستمرار حالة الاستنزاف النفسي الناتجة عن عدم توفّر القدرة على إيجاد النصر الحاسم، وبقاء التهديدات في الجنوب والشمال مما يزيد من حالة التوتّر والقلق وإمكانيات الهزيمة النفسية.

- بداية تصدّع في الجبهة المساندة للمشروع الصهيوني عالميا وحتى في المعسكر الداعم تقليديا، خاصة ما شهدته الجامعات الأمريكية والأوروبية في إدانة حرب الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني، وما تبع ذلك من دعوات مقاطعة الجامعات لأي تعاون مع الجامعات العبرية، وكذلك دعوات المقاطعة ليس فقط لمنتجات دولة الاحتلال، بل لكل الدول الداعمة لهذا الاحتلال وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا.

- ما شكّلته إدانة محكمة العدل الدولية ودعوة محكمة الجنايات وجرائمهم التي انتشرت عالميا، بحيث أصبحوا محطّ احتقار واشمئزاز لما ارتكبته أيديهم بحق الشعب الفلسطيني، هذا كلّه أدّى إلى تحوّلهم إلى وصمة عار في جبين البشريّة. هذا له ما له من تداعيات مستقبلية يمكن البناء عليها.

وهناك نقاط كثيرة يمكن الحديث فيها في مجال ما خسره المشروع الصهيوني خلال هذا العام، ولكن في مقالة عاجلة نكتفي بهذه النقاط، للعودة ثانية في إمكانيّات البناء على هذا الأمر تراكميّا وكي نصل إلى سيناريوهات العمل لاستمرار الاستنزاف لهذا المشروع على جميع الصعد. فبالإضافة للاستنزاف العسكري في الوضع المقاوم الذي أصبح قائما على امتداد محور المقاومة سواء كان ذلك مفتوحا أو مساندة، فإن الأمر يتطلّب أيضا في معركة الوعي كي تستمر ثقافة المقاومة في عطائها وإمداد جبهات المقاومة في العناصر القادرة على الالتحاق والتضحية والعمل بكل متطلبات المعركة.

ولا بدّ من الانتباه لما فتحه الطوفان في معركة الوعي للاستمرار والمزيد من تعزيز ثقافة المقاومة وإدراك حقيقة التحدّي، واضح أن المنطقة كانت تساق إلى ثقافة القطيع والسير في ركب التطبيع، فجاء الطوفان ليقلب الطاولة على هذه الثقافة. بات المشروع الصهيوني أحد أركان ثلاثة تعزّز سلب العالم العربي من سيادته وكرامته وحريّته والقدرة على تحقيق ذاته وهويته الثقافية الاصيلة، أما الركنان الآخران فهما الهيمنة الأمريكية والنظام العربي.

هذه الأركان الثلاثة التي ضربت المقاومة جدران خزانهما بقوّة في العقل العربي، لذلك فإن من أهم إنجازات طوفان الأقصى والذي اتضحت معالمه بشكل واضح بعد عام على مروره هو هذا التحدي الكبير أمام نهضة الأمّة وتحرّرها، فلم تعد المسألة فقط فلسطينيّة أو محورا مقاوما يمتد من اليمن جنوبا إلى لبنان شمالا، بل هو تحدّي أمّة وضرورة خلاصها من مركب تخلفّها وظهورها مكشوفة كمستعمرة للهيمنة الأمريكية والصهيونية، وأن ما كان يعدّ لها مما كان يسمّى ديانة إبراهيمية ما هو إلا إحكام السيطرة عليها، وبالتالي تعود القضية الفلسطينية كقضية مركزية للأمة، منها وإليها تكون البداية والانطلاق للتغيير الحقيقي الذي يُخرج الأمّة من هذه الهيمنة الغاشمة وهذا الاستعمار الخبيث إلى حيث تحرّرها وفكّ عقدتها. لقد باتت "طوفان الأقصى بعد عام عنوانا حاسما وقاطعا لتحقيق التحرر التام من هذه الأصنام الثلاثة: المشروع الصهيوني والهيمنة الأمريكية والنظام العربي المطبّع الفاسد الذي كفّنوه بما يسمّى بالإبراهيمية.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الاحتلال الفلسطينية فلسطين الاحتلال الابراهيمية طوفان الاقصي مدونات مدونات مدونات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة رياضة سياسة اقتصاد سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة القضیة الفلسطینیة المشروع الصهیونی دولة الاحتلال ة الفلسطینیة طوفان الأقصى ة التی

إقرأ أيضاً:

في اليوم الذي يسمونه يوم القدس

في اليوم الذي يسمونه "يوم القدس"، لا يتم الاحتفاء بالقدس وإنما تتعرض البلدة القديمة للتدنيس، حيث تتحول مسيرة العلم الإسرائيلي، التي تنظم سنوياً تحت راية الفخر القومي إلى مشهد من مشاهد الكراهية التي لا حدود لها.

وهذا العام انحطت إلى قعر الخسة والفجور.

أوردت صحيفة هآريتز أن الفتيان الإسرائيليين انطلقوا في مسيرة عبر الحي الإسلامي وهم يهتفون "الموت للعرب"، "امسحوا غزة"، "لا توجد في غزة مدرسة، لم يبق فيها أطفال". كانت صواري الأعلام تدق في الأبواب العتيقة، بينما ينهال المشاركون في المسيرة بالسباب والشتائم على النبي محمد ويسخرون من ذكرى فلسطين.

لم يُلق القبض على أحد بتهمة التحريض.

في يوم القدس يتم فعلياً تجميد قانون التحريض، وتصبح الكراهية سلوكاً تحض عليه الدولة. ما تنطلق به الحناجر من شعارات ليس هتافاً موجهاً ضد حماس، وإنما إعلان حرب على العرب والمسلمين – وعلى روح المدينة نفسها.

وعلى النقيض من المزاعم بأن هذا من فعل مجموعة هامشية، تبدو الحقيقة أكثر بشاعة. فكما يلاحظ صحفي هآريتز نير حسون، الهاشميون ليسوا العنصريين، وإنما أولئك الذين يرفضون الانضمام إليهم.

وحتى المنظمات المتحالفة مع التيار اليميني السائد، مثل إم ترتوز المنتسب إلى الليكود، انطلقت عناصرها وهي ترفع لوحات كتب عليها "لا نصر بلا نكبة". تلقى مسرح الكراهية هذا تمويله بشكل مباشر من بلدية القدس، التي خصصت 700 ألف شيكل (ما يعادل 200 ألف دولار) – بدون مناقصة عامة – لدعم منظمي المسيرة.

الغزو والتطهير

هذه ليست فورة عاطفية، وإنما عقيدة قيد التطبيق، واستعراض للاهوت يقوم على الاعتقاد بالتفوق العنصري على الآخر، تتواجد في القلب منه رؤية تنبؤية ليس من أجل إقامة السلام أو التعددية وإنما من أجل الغزو والتطهير.

من أبرز مهندسي هذه الرؤية الحاخام إسحق غينزبيرغ، الأب الروحي لما يسمي "شباب رؤوس التلال"، وهي مليشيا مكونة من المستوطنين، تمارس العنف قتلاً وإفساداً في مختلف أرجاء الضفة الغربية. يشيد غينزبيرغ علانية بباروخ غولدستين الذي ارتكب مذبحة الحرم الإبراهيمي في الخليل في عام 1994 وأزهق أرواح 29 فلسطينياً بينما هم ركوع في صلاة الفجر بالحرم الإبراهيمي. بل نشر غينزبيرغ كتابات يحض فيها على قتل نساء وأطفال غير اليهود.

وكان غينزبيرغ قبل عقدين اثنين من الزمن قد ألقى خطبته الشهيرة بعنوان "حان الوقت لكسر الجوزة"، حيث شبه إسرائيل بثمرة محاطة بأربعة أغلفة – تتكون من الدولةل العلمانية ومؤسساتها – كانت لها من قبل غاية ومبررات، ولكنها باتت الآن عقبة تعيق الخلاص.

أعلن في خطبته أنه ينبغي تدمير هذه الأغلفة، ألا وهي الإعلام، والقضاء، والحكومة، والميثاق الأخلاقي للجيش. فقط من خلال القضاء عليها يمكن أن يبرز اللب الخالص للتفوق اليهودي ويمكن للعهد المهدوي أن ينطلق.

هذه ليست حالة من الفوضى وإنما عملية منظمة قيد تنفيذ.

إن الهتافات التي تردد صداها في طرقات القدس هذا العام لم تكن تشوهات، بل أعراضاً لمنظومة تخلصت من رداء الديمقراطية العلمانية. وما تبقى منها غير قومية عرقية ومهدوية معراة، رؤيتها مستمدة من سفر الرؤيا، وتوجهاتها تشي بارتكاب الإبادة الجماعية.

من الوزراء اليمينيين المتطرفين إيتامار بن غفير وبيزاليل سموتريتش، لم تعد النزوة مقصورة على الهمس، بل باتت تذاع على الملأ. في هذه الأثناء، انطلق رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو عبر نفق "طريق الحاج" تحت المسجد الأقصى، معلناً أمام طلاب المعاهد الدينية اليهودية: "سوف تنطلقون من هناك وتخرجون [إلى الهيكل]."

إلا أن سموتريتش، كعادته، كان أكثر صراحة، فقد أعلن في نفس ذلك اليوم، متحدثاً أمام جمهور من الأتباع المتحمسين: "بعون من الرب، سوف نوسع حدود إسرائيل، ونحقق الخلاص التام، ونعيد بناء الهيكل ههنا."

إن الدعوة إلى بناء الهيكل الثالث مكان المسجد الأقصى ليست مجرد انتهاك للوضع القائم، وإنما هي إعلان شامل للحرب الدينية، الأمر الذي يتبدد معه وهم التعايش، وذلك أن المشروع الصهيوني ليس إعلان حرب على المسلمين فقط، وإنما هو حرب معلنة على المسيحيين كذلك. ها هو الوجود المسيحي في القدس – بكل عراقته وأصالته وقدسيته – يتعرض للاستئصال بشكل منتظم.

حقبة جديدة

في وقت مبكر من عام 2023، أي قبل شهور من السابع من أكتوبر، حذر زعماء الكنائس من الهجمات المتصاعدة، ومن الاستيلاء على الأراضي، ومن الحصانة من المساءلة والمحاسبة التي تمنح لمن يرتكبون ذلك.

أعلن الأب دون بيندر، من كنيسة القديس جورج، قائلاً: "إن العناصر اليمينية المتطرفة عازمة على تهويد البلدة القديمة." أما الكاردينال بيتزابالا فقال إن عام 2024 كان "أسوأ فترة عشتها على الإطلاق." وبحلول عام 2025، مُنع المسيحيون من حضور الصلوات في عيد الفصح، وارتفع منسوب المضايقات التي يواجهونها والاعتداءات التي تتعرض لها ممتلكاتهم وأعمال التخريب. وغدا البصق على المسحيين روتينا، بحث عليه بن غفير ويصفه بأنه "تقليد يهودي".

هذه ليست أعمالا معزولة، بل جزءا من حملة منظمة. فالصهيونية لا تسعى فقط إلى الهيمنة على المدينة، وإنما إلى مسح خصائصها العربية والإسلامية والمسيحية كذلك.

ما نشهده ليس مجرد عنصرية، بل تهويد، مشروع الغاية منه إعادة تشكيل المدينة لتجسد عقيدة التفوق العرقي اليهودي.

ومع ذلك ثمة نموذج آخر ينبع لا من القهر بل على التعايش. في القرن السابع، كانت القدس المدينة الوحيدة التي شد إليها الخليفة عمر بن الخطاب  الرحال لتسلم مفاتيحها، نزولا عند طلب زعيمها الديني المسيحي البطريرك صوفرونيوس. رفض عمر الصلاة داخل كنيسة القيامة خشية أن يراه المسلمين فيستحوذوا عليها لاحقا، وأدى الصلاة بدلاً من ذلك بتواضع على الدرجات في الخارج، ثم ألصدر مرسوماً بتحريم مصادرتها.

بل سمح العهد الإسلامي الجديد في القدس لليهود بالعيش في المدينة بعد أن كان ذلك محظوراً عليهم لعقود تحت الحكم البيزنطي. في كتابه بعنوان "التاريخ المقتضب لإسرائيل"، يلاحظ المؤلف بيرنارد ريتش أنه "منذ بداية الحكم الإسلامي، استؤنف التواجد اليهودي في القدس، ومُنح المجتمع اليهودي الإذن بالعيش تحت "الحماية"، وهو الوضع المتعارف عليه لغير المسلمين في ظل الحكم الإسلامي، والذي يصون حياتهم وممتلكاتهم وحريتهم في العبادة، مقابل دفع جزية خاصة وضرائب على الممتلكات."

بعد ذلك بقرون، وفي ظل تنازع الطوائف المسيحية على أحقية الإشراف على الكنيسة، عهد السلطان صلاح الدين بمفاتيح نفس تلك الكنيسة إلى عائلتين مسلمتين، آل جودة وآل نسيبة، ظلتا على مدى 850 عاماً هما من يفتح ويغلق أبوابها بكل إخلاص ونزاهة.

"القلق الصليبي"

هذه هي القدس كما ينبغي لها أن تكون، مدينة الأمانة لا الهيمنة، والتوقير لا التطهير.

إلا أن المعركة على روح القدس لم تنته، بل إنه الصراع الأكثر رمزية على الإطلاق، بين الغزاة وأهل البلاد، بين دعاة الإقصاء ودعاة الاستيعاب، بين عقيدة استيطانية استعمارية تعبد النقاء الخالص عبر العنف، ومدينة كانت عظمتها ذات يوم ثمرة تعدديتها المقدسة.

ثمة تشابه مع الحروب الصليبية. ففي عام 1099، اجتاحت جيوش الصليبيين القدس وذبحت الآلاف من المسلمين واليهود. واليوم، ها هم الصهاينة يرددون نفس منطق الصليبيين، ويستعيدون صورهم، وينهجون سبيلهم. من إيماءات نتنياهو حول الهيكل إلى عقيدة الإبادة التي يحملها غينزبيرغ، ها هي الصليبية تنبعث من جديد.

إلا أن ممالك الصليبيين تهاوت. فقد حرر صلاح الدين القدس من الصليبيين بعد ثمانية عقود من الاحتلال، وانهارت المغامرة الصليبية بأسرها خلال قرنين، تاركة خلفها ندوباً عميقة، وفي نفس الوقت عزماً قوياً وثابتاً على مقاومة الغزاة.

يشعر الجنود الإسرائيليون أنفسهم بهذه المقارنة. كتب المؤرخ ديفيد أوهانا يقول إن "القلق الصليبي" يطارد النفسية الإسرائيلية – إنها الخشية الدفينة من أن الصهيونية، كما كان حال سلفها في القرون الوسطى، قد تنتهي ذات يوم وكأنها لم تكن من قبل. وهذا حق، لأن القدس لا تجوز لمن ينتهكون حرمتها.

قد تحترق غزة، وقد تنزف الضفة الغربية، ولكن تبقى القدس هي درة التاج. مهما بلغ توحش الصهيونية، فإنها لن تتمكن من طمس ما تشكل بفعل التاريخ والجغرافيا والعقيدة. تعيش فلسطين في قلوب الملايين، والقدس ليست على الهامش من ذلك، بل إنها تتربع في القلب من العالمين العربي والإسلامي.

مهما حفر الصهاينة من أنفاق، ومهما رفعوا من أعلام، ومهما بثوا من أحقاد، سوف يستمر الفلسطينيون في الإنشاد، كما غردت ذات يوم المغنية اللبنانية المسيحية فيروز "يا قدس، يا مدينة الصلاة. عيوننا إليك ترحل كل يوم. تدور في أروقة المعابد، تعانق الكنائس القديمة، وتمسح الحزن عن المساجد .... وبأيدينا سنعيد بهاء القدس، بأيدينا للقدس سلام."

قد تكون مسيرة الكراهية صاخبة اليوم، ولكنها سوف تصمت يوماً لا محالة. وفي ذلك اليوم سوف تتحرر القدس من الاحتلال ومن الغلو ومن العنصرية، وسوف تعود إلى أهلها، لم تنكسر روحها، ولم تُنتقص قدسيتها.

مقالات مشابهة

  • تصاعد ملحوظ في عمليات المقاومة الفلسطينية ضد جحافل الاحتلال الصهيوني في غزة
  • “هاري ترومان”.. الطوفان العائد بخيبات البحر الأحمر
  • ثلاثة شهداء برصاص العدو الصهيوني غرب رفح
  • “الأورومتوسطي”: الفيديو الذي نشرته “اسرائيل” لتبرير مذبحة رفح صورته في خان يونس
  • بوريطة: الموقف الذي عبرت عنه المملكة المتحدة بشأن قضية الصحراء المغربية سيعزز الدينامية التي يعرفها هذا الملف
  • سعد: الغائب الذي لم يَغب
  • الحوثيون : سنسقط طائرات الاحتلال الإسرائيلي التي تقصف بلادنا 
  • استشهاد لبناني في غارة للعدو الصهيوني
  • في اليوم الذي يسمونه يوم القدس
  • ارتفاع حصيلة ضحايا العدوان الصهيوني على غزة 54,381 شهيدا و 124,054 مصابا