لعب الحظ لعبته فصادفت وحدةٌ إسرائيلية ثلاثة مقاومين أو نحواً من ذلك، تبين في ما بعد (وفيما يزعمون إذ أن حركة حماس لم تؤكد ولم تنفِ حتى وقت كتابة المقال) أن أحدهم هو يحيى السنوار، وإثر اشتباكٍ جُرح فيه وبُترت يمينه في ما يبدو من الفيديو، الذي التقطته المسيرة التي أجهزت عليه في النهاية، أجرى العدو بعض التحاليل وأكد أن الشهيد هو بالفعل السنوار.
لم يزل الوقت مبكراً لتحليل الحدث، وما نعتقد أنها تبعاتٌ ستترتب عليه، إلا أن الأصوات المتريثة والأعقل، حتى من داخل المنظومة الإسرائيلية، سواءً منها من يضطلع بدورٍ رسمي، أو المستقلين من باحثين وصحافيين، أعربت عن شكوكها في جدوى هذا الاستشهاد مع إقرارها بثقل الضربة.
لكن لئن كان الحظ لعب لعبته، فإن القدر يبدو أنه كان يعمل بدوره، لكن في اتجاهٍ معاكسٍ تماماً، إذ أن تفاصيل الصمود والقتال حتى الرمق الأخير، سرعان ما شرعت تنشئ أسطورة نضالٍ متصلٍ وصمودٍ صلدٍ ومبهر، فاض أثرهما على وسائل التواصل الاجتماعي، وفي أحاديث الناس في عالمنا العربي والإسلامي، وأزعم أن أثرها سيتسرب للعالم أجمع ولمناصري القضية الفلسطينية. لقد أُريد لنهاية هذا الرجل أن تكون نهاية المقاومة، لكن ما يبدو حتى الآن أنه سيكون بداية أسطورةٍ ملهمة تغذي وترفد النضال والمقاومة. هناك الكثير مما يمكن أن يقال، لكن أمرين ملحين يستوقفانني في هذا الوقت المبكر عقب الاستشهاد:
أولهما مكر التاريخ، ذكرني عرض جثة الشهيد السنوار بما حدث من قبل حين أُعدم جيفارا وقاموا بعرض جثته أمام الصحافيين والإعلاميين فلم يؤدِ ذلك إلا لتخليده وتكريس أسطورته، فكذلك الحال مع السنوار، فأنا على يقين من أن استشهاده، مقاتلاً صامداً سيؤدي إلى نتيجة عكسية تماماً، لما كان يأمل فيه الصهاينة وأعوانهم وحلفاؤهم. أما ثاني الأمور فيتعلق بما هو أهم وأعمق وأبعد أثراً في رأيي: الوعي الشعبي العربي والعالمي.
كتبت متناولاً أكثر من مرة عن ما أسفرت عنه الحرب من عرقلة عمليات التطبيع، والانفتاح على إسرائيل التي كانت ماضيةً بشكل متواصل، بل كانت قد أوشكت أن تصل غايتها، وما كانت ترمي وستؤدي إليه من حلفٍ عربي إسرائيلي في مواجهة إيران؛ بالطبع فإن شيئاً من هذا لم يتغير، ولم أزل عند هذا الرأي، إلا أن الأهم هو، كيف أعادت هذه الحرب القضية الفلسطينية إلى الصدارة وجعلت الشعوب العربية تفيق من تلك الغيبوبة المُخدرة الغبية التي فرضت نفسها وهبطت على شعوبنا طيلة عقودٍ، بدأت بجدية منذ سلام السادات المنفرد مع إسرائيل، ومن ثم تم تعميمها وتكريسها على أنظمةٍ كان بعضها على علاقةٍ فعلية مع إسرائيل أو ينتظر بخجلٍ أن يعلن عن عدم رغبته المضي في طريق الممانعة.
لقد علَّمَت هذه الحرب ونورت وثقفت أجيالاً وُلدت ونمت وتشكل وعيها، المزيف، في ظل ثقافة «حرب أكتوبر» آخر الحروب و»بطل الحرب والسلام» بطبيعة القضية والصراع، وبددت تلالاً من الزيف والأكاذيب والافتراءات عنها وعن القيادات.
قيل إن السنوار وهنية بعيدان محصنان، وأنهما (أو أحدهما) يسكنان قصوراً هنا أو هناك في هذه العاصمة العربية أو تلك، وأنهما يتحصنان وراء الأسرى ويضحيان بجنود حماس، فكيف الحال الآن، وقبل ذلك في أي قصرٍ أو برجٍ عاجي كان يقبع الشيخ الشهيد أحمد ياسين حين استهدفته طائرة؟
شهيدٌ يسلم شهيداً الراية، واقفون صامدون يضحون بكل شيء، بأنفسهم وأولادهم، هذا هو الواقع المحض
شهيدٌ يسلم شهيداً الراية، واقفون صامدون يضحون بكل شيء، بأنفسهم وأولادهم، هذا هو الواقع المحض، بغض النظر عن الانحيازات السياسية من المنطلق نفسه، فإذا أردنا أن نُعرف قمة البذاءة فلن نجد أفضل من الإعلام العربي الرسمي، الذي تُصرف عليه مليارات الدولارات من جيب وقوت الشعوب ليزيف وعيهم ويحشو رؤوسهم بالأكاذيب ليحتضنوا العدو الصهيوني ويتماهوا مع قضيته ويعادوا إخوة الدم والعصب والدين والتاريخ، ولا أفضل من الحكام العرب وجلهم طغاة أيديهم مضمخة بدماء شعوبهم، ويسكنون بالفعل في قصورٍ لا حد لها، بل يفاخرون بأنهم عاقدو العزم على بناء المزيد، «لا ده أنا حابني وابني» كما طمأننا السيسي، فنجد هؤلاء يدّعون أن قادة حماس والمقاومة يقطنون فنادق الخمسة نجوم. ها هو الرجل استشهد في الميدان مقاوماً حتى آخر نفس، فما رأيكم؟
بالفعل، رمتني بدائها وانسلت، يدرك المراقبون والمحللون الأكثر حنكة، بقراءة التاريخ الذي عايشه أكثرنا، أنك لا تستطيع أن تقضي على حركة مقاومة بمجرد اغتيال قادتها، خاصةً تلك التي تصدر عن عقيدة استشهادية كالتي لحماس وحزب الله، حيث وطنوا وتابِعوهم النفس على التضحية والتحرير عبر بذل ذواتهم، مادتهم الجسدية. يدركون أنه دون حلٍ سياسي فليس من نهايةٍ في الأفق.
ومع الدمار والشهداء بعشرات الآلاف، فلم يعد هناك ما يُبكى عليه، وتضاعفت بواعث السخط والرغبة في الانتقام والمقاومة. ستستمر قوافل الشهداء، لكنني، رغم كل بواعث الإحباط، لا أرى مستقبلاً لا تكون فيه الشرارة التي ستوقظ الشعوب المهانة المغلوبة على أمرها وتهز هذه الأنظمة منتهية الصلاحية منذ أمدٍ بعيد.
القدس العربي
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه حماس حماس الاحتلال طوفان الاقصي استشهاد السنوار مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات رياضة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
طرق الحج.. رحلة إيمانية من قوافل الصحراء إلى منظومة ذكية متكاملة
منذ قرون، شكّلت طرق الحج التاريخية شريانًا روحيًا نابضًا يصل بين قلوب المسلمين وأرض الحرمين الشريفين، عبر مسارات طويلة سطرها التاريخ، وتحولت بمرور الزمن من قوافل الصحراء إلى منظومة ذكية متكاملة.
وبين الأمس واليوم، تتبدى رحلة الحج في صورتين: الأولى محفورة في الذاكرة برمزية الصبر والمشقة، والثانية مرآة لحاضر تكنولوجي وإنساني متكامل، تقوده المملكة العربية السعودية برؤية تطويرية طموحة.
في الماضي، كان الحج اختبارًا إيمانيًا حقيقيًا، تبدأ رحلته من أقاصي الأرض، وتستغرق شهورًا من السير عبر الجبال والصحارى، ضمن مسارات تاريخية مثل درب الحج الشامي والمصري والعراقي واليمني.
وكانت قوافل الحجاج تواجه تحديات الطبيعة وتقلبات الطقس، وتعتمد على محطات الاستراحة والآبار، وعلى دعم القبائل المحلية التي وفرت المأوى والمؤن.
.article-img-ratio{ display:block;padding-bottom: 67%;position:relative; overflow: hidden;height:0px; } .article-img-ratio img{ object-fit: contain; object-position: center; position: absolute; height: 100% !important;padding:0px; margin: auto; width: 100%; } طرق الحج.. من دروب المشقة والخوف إلى مسارات الراحة والأمان - واس
ورغم صعوبة الرحلة، فقد شكّلت تلك المسارات ذاكرة جماعية تُروى في كتب الرحالة والمؤرخين، وتُجسد فيها قيم الصبر والتوكل، ما جعل للحج معنى يتجاوز الجغرافيا، ليصبح تجربة روحانية لا تُنسى.
بداية التحول الجذريمع توحيد المملكة على يد الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود -رحمه الله-، دخلت طرق الحج مرحلة جديدة من التحول الجذري، إذ بدأ إنشاء شبكات الطرق البرية وخطوط السكك الحديدية والمواني والمطارات، ليتحول الحج من رحلة طويلة محفوفة بالمخاطر، إلى مسير آمن ومريح يستغرق بضع ساعات فقط.
وشهدت المملكة توسعًا هائلًا في شبكات المطارات الحديثة، التي أصبحت بوابات جوية مفتوحة على مدار العام لاستقبال الحجاج والمعتمرين من أنحاء العالم.
.article-img-ratio{ display:block;padding-bottom: 67%;position:relative; overflow: hidden;height:0px; } .article-img-ratio img{ object-fit: contain; object-position: center; position: absolute; height: 100% !important;padding:0px; margin: auto; width: 100%; } طرق الحج.. من دروب المشقة والخوف إلى مسارات الراحة والأمان - واس
وخضعت هذه المطارات لتحديثات كبرى شملت: رفع الطاقة الاستيعابية، وتحديث البنية التحتية، وتطوير الخدمات الرقمية، وتسهيل حركة الوصول والمغادرة، وحلول رقمية ذكية تعيد تعريف تجربة الحاج.
في ضوء التحول الرقمي، أصبحت منظومة الحج تعتمد على أحدث التقنيات الذكية، إذ جرى تطوير تطبيقات إلكترونية متعددة اللغات لتيسير إصدار التصاريح، وتتبع الحشود، وتقديم التوعية والخدمات اللوجستية، ومراقبة سير الحجاج لحظيًا.
مبادرة "طريق مكة"تُعد مبادرة "طريق مكة" إحدى أبرز الحلول الرائدة في خدمة الحجيج، حيث تتيح استكمال جميع إجراءات الدخول من بلد المغادرة، بما في ذلك التحقق من الوثائق، وإصدار التأشيرات، وتسجيل الخصائص الحيوية، والتخليص الجمركي.
وتصل أمتعة الحاج مباشرة إلى مقر إقامته في المملكة، ما يوفر له تجربة فريدة من التكامل الخدمي والتقني، تبدأ منذ لحظة الانطلاق وتنتهي بسلام الوصول.
.article-img-ratio{ display:block;padding-bottom: 67%;position:relative; overflow: hidden;height:0px; } .article-img-ratio img{ object-fit: contain; object-position: center; position: absolute; height: 100% !important;padding:0px; margin: auto; width: 100%; } طرق الحج.. من دروب المشقة والخوف إلى مسارات الراحة والأمان - واس
إلى جانب البنية التحتية، يبرز دور العمل التطوعي، إذ يشارك آلاف المتطوعين في تقديم الإرشاد والمساعدة والدعم الميداني، في تجسيد حي لقيم التكافل والكرم السعودي.
كما وضعت رؤية المملكة 2030 خدمة الحجيج في صدارة أولوياتها، من خلال تطوير المرافق الذكية في المشاعر المقدسة، وتعزيز وسائل النقل المتطورة (القطارات – الحافلات الترددية – الطرق السريعة)، إدارة الحشود إلكترونيا لضمان سلامة الحجيج، وتمكين التحول الرقمي عبر مراحل الرحلة.
.article-img-ratio{ display:block;padding-bottom: 67%;position:relative; overflow: hidden;height:0px; } .article-img-ratio img{ object-fit: contain; object-position: center; position: absolute; height: 100% !important;padding:0px; margin: auto; width: 100%; } طرق الحج.. من دروب المشقة والخوف إلى مسارات الراحة والأمان - واس
تُثبت هذه التحولات الشاملة التزام المملكة العميق بخدمة الإسلام والمسلمين، وسعيها الدائم إلى تقديم تجربة حج آمنة وميسرة وإنسانية، تعكس مهابة الشعيرة وعظمة المقصد.
وتبقى طرق الحج القديمة والحديثة شاهدة على مسيرة أمة، وعلى تطور بلاد اختارت أن تجعل من خدمة ضيوف الرحمن أولوية دائمة، وشرفًا لا يُضاهى.