تتماشى تركيبة إدارة دونالد ترامب القادمة، مع طموحات وخطط اليمين الفاشي في إسرائيل، وتمنحه دفعة قوية لتنفيذ كل رغباته على الأرض، بحسب مواقف ورسائل المرشحين لمناصب مهمة في الإدارة الأمريكية لإسرائيل، والتي لا تبشر بالخير ولا بإمكانية الحديث عن أي بارقة أمل تعيد الأمور لمجراها بحسب التمسك العربي الرسمي بهذه البارقة الفاقعة التي حللت ألغاز وأحاجي بعض فهلوة السياسة الفلسطينية والعربية، التي تتعاطى مع قضاياها باستخفاف مذل.
فالوضع العربي الراهن لا يبعث على الارتياح، وغير قادر على حمل حدٍ ادنى من إمكانية شروط فاعلية عربية مشتركة تتصدى لمخاطر تتغلل في جسدها. وبعد فقدان النظام الرسمي العربي "التضامن" كصيغة نشأت في فترة من الفترات وتبخرت مع التطبيع والصمت عن الجرائم والعجز عن ردها، تطرح مجددا مسألة عدم فهم سياق المشروع الاستعماري الصهيوني في فلسطين، فرجال ترامب الجدد لديهم مواقف تتعلق بالقضية الفلسطينية، ومن مسألة العدوان على غزة ومن الإبادة الجماعية ومن العرب والمسلمين عموما، بعضهم يتشارك أفكار سموتريتش وبن غفير ومائير كاهانا وعوباديا يوسف، ولديهم إيمان تلمودي وتوراتي بتفوق العرق اليهودي على "الأغيار" وبحلم العودة لـ"يهودا والسامرة".
الوضع العربي الراهن لا يبعث على الارتياح، وغير قادر على حمل حدٍ ادنى من إمكانية شروط فاعلية عربية مشتركة تتصدى لمخاطر تتغلل في جسدها
الشخصيات المرشحة لقيادة السياسة الخارجية في إدارة ترامب، من وزير الدفاع بيتر هيغسيث ووزير الخارجية ماركو روبيرو الى سفير أمريكا في إسرائيل مايك هاكابي، ومبعوث الإدارة الامريكية للشرق الأوسط ستيف ويتكوف، لديهم جميعا تناغم مشترك مع طروحات اليمين الفاشي في إسرائيل، منهم من يؤمن بضرورة هدم الأقصى لبناء الهيكل ويرفض بالمطلق فكرة حل الدولتين، وبحق إسرائيل في السيادة على كل الأرض الفلسطينية باعتبارها جزءا من الدولة اليهودية، وبدعم جرائم الإبادة التي تقترفها في غزة. وهذه الشخصيات سيتم التعامل معها عربيا، كجزء من ثوابت معهودة في السياسة الأمريكية التي لا تحيد عن الصيغ الإسرائيلية.
والسؤال: ماذا بقي للحاكم العربي والسياسي الفلسطيني من رؤية أو قوة ليدافع فيها عن "السلام" والحق الفلسطيني؟ خسارة القوة الذاتية وتهميش المجتمعات العربية، بعد استسهال القسوة الإجرامية لإسرائيل في فلسطين ولبنان وسوريا وغيرها في المنطقة العربية، واليوم كما الأمس لأن تجارب السياسة العربية والفلسطينية الرسمية لا تعلّم كثيرا على ما يبدو، بما فيها التجارب الحية التي ما زالت ماثلة في جرائم الإبادة الفلسطينية وسقوط كل الأوهام وتسويغ القبول بها.
في هذه الأجواء التي تحافظ فيها إدارة ترامب على إيصال رسائل التشجيع لإسرائيل، جاءت تصريحات وزير المالية الإسرائيلي العنصري، بتسلئيل سموتريتش، بشأن إصدار تعليمات للتجهيز لفرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية المحتلة خلال العام المقبل. الأرضية اللازمة لتشريع الضم جاهزة بالاستيطان ومصادرة الأرض وتصعيد عدوان المستعمرين على سكان المدن الفلسطينية، والتعليمات تسقط آخر الثياب التي يتستر بها كل ناطق باسم حل الدولتين والسلام المزعومين، لكن ما الذي يحدث عندما تقتل إسرائيل كل الأوهام الفلسطينية والعربية، وتقضي على آخر خيط لـ"السلام" مهما كان هامشيا؟
فاللجوء الصهيوني لسياسة العدوان الشامل وحرب الإبادة الجماعية في غزة، ونقلها إلى لبنان، ثم الاستباحة المهينة للسيادة السورية دون رد نظام الأسد عليها، وغياب الثقل العربي، ينذر بأن مسألة الضم وإعادة استيطان غزة وفرض التهجير هي سياسة صهيونية؛ وفق خطة واضحة للوصول لهذا الهدف غير المرتبط بـ"طوفان الأقصى" وتصدي المقاومة للعدوان الإسرائيلي على غزة، بل نتيجة طبيعية لهذه السياسة وخططها. وإيقاع النقاشات ومضامينها واتجاهاتها عند اليمين الفاشي لحكومة نتنياهو عن الضفة يشير إلى أن ما سيجري فرضه سيكون أسوأ بدرجات عما يحصل في غزة.
ضم الضفة بالنسبة لإسرائيل، كحكومة ومؤسسات أمنية وأحزاب دينية عنصرية، لها نظرة مختلفة عن غزة وما يطلق عليه "يهودا والسامرة" ومكانتها التاريخية في الأسطورة الصهيونية؛ بمستوطناتها الضخمة وتداخلها الكبير مع المناطق المحتلة عام 48، وطبيعتها الجغرافية ومكانتها الاستراتيجية جعلتها هدفا لأطماع السيطرة والضم، لذلك أي حديث بعد ذلك متعلق بحل الدولتين والسلام والتطبيع خاضع بصورة مطلقة لشروط الاحتلال ومصالحه، وسيظهر مجددا النظام العربي وما تبقى من وظيفة السلطة الفلسطينية أمام حالة مذهلة من الارتباط والخضوع والارتهان للمحتل الإسرائيلي وللإدارة الأمريكية.
درس الاستغلال الذاتي للفرص يستدعي أولا وقبل كل شيء على الصعيد الفلسطيني؛ الإسراع في إعادة بناء العامل الذاتي بطريقة مختلفة عما عهدناه من الاستغراق في التحسر على المجتمع الدولي ومناشداته والاسترسال في البكاء على المنابر في طلب "احمونا"
الجاهزية العربية للتعاون مع إدارة ترامب، تنطلق من مشتركات أصبحت أكثر نضجا بما يتعلق بالقضية الفلسطينية، وحالة الشلل والموات التي ميزت السياسة العربية بمواجهة العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني، وجرائم الإبادة الجماعية، ينظر إليها إسرائيليا وأمريكيا على أنها أسباب مشجعة لفرض السيطرة والإملاءات، بغض النظر عن حالات الشجب والإدانة العربية لسياسة وجرائم الاحتلال، والتي أصبحت مفرداتها مدعاة للسخرية والتهكم من بعض المعلقين الإسرائيليين أنفسهم، خصوصا بعد قمة الرياض العربية الإسلامية الثانية، والتي تحولت لشماتة صهيونية فاقعة عن الخطاب السياسي العربي.
الوضوح الذي تقدمه إسرائيل وأمريكا في ارتكاب الجرائم وحمايتها، والذي يتجاوز سردية وذريعة القضاء على حركة "حماس" في غزة إلى تحويلها لمكان غير صالح للحياة، ثم وضوح الخطط والسياسات المتبعة لكل الضفة والقدس، يفرض على الجانب العربي والفلسطيني أن لا يستخدم أدوات التضليل والوهم ذاته للمشهد الفلسطيني والعربي، لأن الحقائق الإسرائيلية على الأرض تقول أن لا أحد ناجٍ من دائرة الاستهداف الصهيوني.
تستغل إسرائيل نفس الظروف التي مكنتها من الاستعلاء على المجتمع الدولي وقوانينه، لتطوير ترسانة من العدوان والعقوبات الجماعية على عموم الشعب الفلسطيني، ويستغل بعض النظام العربي ظروف ما بعد القضاء على الثورات العربية لخلق رقابة بوليسية استبدادية واجتماعية واسعة النطاق على الشارع العربي، تسمح للاحتلال التحرر من قيود الطرد والمقاطعة والتجريم أمام المحاكم الدولية، لأن هناك مجالا عربيا آخر تميز بتراجع الحقوق والحريات والأحزاب السياسية بشكل مرعب.
أخيرا، درس الاستغلال الذاتي للفرص يستدعي أولا وقبل كل شيء على الصعيد الفلسطيني؛ الإسراع في إعادة بناء العامل الذاتي بطريقة مختلفة عما عهدناه من الاستغراق في التحسر على المجتمع الدولي ومناشداته والاسترسال في البكاء على المنابر في طلب "احمونا"، بينما الواقع العربي المنتظر لترامب الثاني يتجهز للتضحية بما تبقى من أرض وحق وكرامة إنسانية بعد صمت ومشاركة في الجريمة.
x.com/nizar_sahli
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه ترامب اليمين إسرائيل العربي الفلسطينية غزة إسرائيل امريكا فلسطين غزة العرب مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات رياضة سياسة سياسة مقالات سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة فی غزة
إقرأ أيضاً:
حرب إسرائيل الأبدية ومنطق الإبادة الجماعية في غزة
منذ حدث السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 الذي قوض مرتكزات الأمن القومي الإسرائيلي القائم على الردع، دخلت المستعمرة الصهيونية في حالة شك وقلق، وسوّقت للجمهور الدولي دور الضحية التي تخوض حرب وجودية بمنطق الدفاع عن النفس. وقد حرّض وزراء إسرائيليون وشخصيات سياسية وضباط عسكريون وخبراء إعلاميون على تدمير غزة وإبادة سكانها الفلسطينيين دون مواربة. ونظرا لخبرة الولايات المتحدة الاستعمارية الحديثة، نصح المسؤولون الأمريكيون نظراءهم المستعمرين الإسرائيليين بتحديد أهداف سياسية قابلة للتحقيق ودمجها في أي عمليات عسكرية قد تترتب على ذلك، ونصحت الولايات المتحدة إسرائيل بعدم الوقوع في الأخطاء التي ارتكبتها أمريكا في فيتنام والعراق وأفغانستان. لكن قادة إسرائيل لم يمتثلوا للنصيحة الأمريكية، وغدت حرب إسرائيل بلا نهاية وأصبحت الإبادة الجماعية المستمرة بحق الشعب الفلسطيني في غزة الهدف الجوهري للحرب والاستراتيجية الأساسية لطرد من يتبقى حيا من الشعب الفلسطيني، وذلك للحفاظ على مشروع المستعمرة الاستيطانية اليهودية في إسرائيل واستعادة التفوق الديموغرافي اليهودي المفقود في فلسطين، والذي تم تحقيقه عام 1948 من خلال عمليات القتل والتهجير الجماعية.
لا يزال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يؤكد في تصريحاته أنه لن ينهي الحرب في غزة قبل أن تحقق إسرائيل "نصرا مطلقا"، ومع ذلك، فهو يرفض توضيح الأهداف السياسية للقتال، فهل يعني هذا أن إسرائيل تشن حربا دون استراتيجية واضحة المعالم؟ وإذا لم تكن هذه الحرب امتدادا لسياستها بوسائل أخرى، فهل هي حربٌ لذاتها، أم حربٌ مطلقة، أم حرب إبادة؟ أم أن إسرائيل تمتنع عن الإعلان عن أهدافها السياسية لأن ذلك من شأنه أن يُقوّض ادعاءها بأنها منخرطة في الدفاع المشروع عن النفس؟ وفي حقيقة الأمر، منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 تواترت تصريحات قادة المستعمرة بشن حرب إبادة جماعية، فالرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ صرّح بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر بقليل بأن "الأمة [الفلسطينية] بأكملها مسؤولة"، ثم صرّح وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك يوآف غالانت في 9 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 بالقول: "أمرتُ بحصار شامل على قطاع غزة. لن يكون هناك كهرباء، ولا طعام، ولا وقود، كل شيء مُغلق. نحن نُقاتل حيوانات بشرية، ونتصرف بناء على ذلك". ومع توالي التصريحات بإبادة الشعب الفلسطيني في غزة، كانت جنوب أفريقيا قد جمعت بحلول كانون الأول/ ديسمبر 2023 سجلا شاملا بهذه التصريحات لتقديمها إلى محكمة العدل الدولية، مؤكدة أن إسرائيل تنوي ارتكاب إبادة جماعية في القطاع الفلسطيني.
بات واضحا أن ما تقوم به إسرائيل من إبادة جماعية ليس مجرد رد فعل عاطفي انفعالي مؤقت، فهي تواصل إلحاق مستويات هائلة من الموت والدمار والتجويع والحرمان لا يمكن تبريرها بالضرورة العسكرية، فقد تحولت غزة إلى كومة من الأنقاض، حيث دمّرت آلة الإبادة الإسرائيلية الأحياء السكنية والمدارس والجامعات والمساجد والمكتبات والمستشفيات والشركات والمواقع الثقافية والتاريخية
منذ قدوم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في كانون الثاني/ يناير الماضي ثم اقتراحه في شباط/ فبراير أن تسيطر الولايات المتحدة على غزة وتعيد تطويرها إلى "ريفييرا" بدون فلسطينيين، تحللت إسرائيل من أي ضوابط في تحديد أهدافها، وأصبحت الإبادة برنامجا علنيا، ولم تعد القيادة الإسرائيلية ملزمة بصياغة رؤية لما بعد الحرب، وتراجعت الخطابات الموجهة للجمهور الدولي والتي تحدد الأهداف العسكرية الأضيق المتمثلة في هزيمة حماس وإنقاذ الأسرى الإسرائيليين.
وقد تبنى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو فكرة ترامب، واستخدمها كغطاء سياسي لإعلان غزة غير صالحة للسكن والدعوة إلى إعادة توطين سكانها الباقين على قيد الحياة بشكل دائم خارج القطاع. وسرعان ما استأنفت إسرائيل حرب الإبادة في آذار/ مارس، منهية وقف إطلاق النار الذي استمر شهرين، وفرضت حصارا شاملا على الغذاء والمياه، مما أدى إلى حالة مجاعة في جميع أنحاء غزة. وقد صف نتنياهو العملية بأنها "خطوات ختامية"، تهدف إلى ضمان "اختيار سكان غزة الهجرة خارج القطاع". وأعلن وزير المالية بتسلئيل سموتريتش في أيار/ مايو أن غزة ستختفي من الوجود خلال ستة أشهر، وأضاف أن السكان الناجين سيُجمعون في "منطقة إنسانية" واحدة، وسيغادرونها -وقد حطمهم اليأس- "مدركين أنه لا أمل ولا شيء يُنتظر في غزة".
لقد بات واضحا أن ما تقوم به إسرائيل من إبادة جماعية ليس مجرد رد فعل عاطفي انفعالي مؤقت، فهي تواصل إلحاق مستويات هائلة من الموت والدمار والتجويع والحرمان لا يمكن تبريرها بالضرورة العسكرية، فقد تحولت غزة إلى كومة من الأنقاض، حيث دمّرت آلة الإبادة الإسرائيلية الأحياء السكنية والمدارس والجامعات والمساجد والمكتبات والمستشفيات والشركات والمواقع الثقافية والتاريخية، وارتفعت حصيلة العدوان العسكري الإسرائيلي على قطاع غزة، منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 إلى 54 ألفا و772 شهيدا، بينهم أكثر من 18 ألف طفل، بالإضافة إلى 125 ألفا و734 جريحا بإصابات متفاوتة بينها إصابات خطيرة، غالبيتهم من النساء والأطفال، وسط أعداد كبيرة لا تزال تحت الأنقاض، وهو ما يذكرنا بما وصفه نائب رئيس البرلمان الإسرائيلي، عضو الكنيست نيسيم فاتوري، بأنه "الهدف المشترك الوحيد" للبلاد بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر، وهو "محو قطاع غزة من على وجه الأرض".
ثمة تصور شاع لدى العديد من المحللين والمراقبين بأن نتنياهو يرفض الاتفاق على وقف إطلاق النار وتبادل الرهائن بالسجناء مع حماس بسبب خوفه من أن الوزراء المتطرفين على يمينه -بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير- الذين يدعمون احتلالا عسكريا دائما واستيطانا نهائيا لقطاع غزة، سيُسقطون حكومته، وأن ذلك قد يؤدي إلى إنشاء لجنة تحقيق في فشل 7 أكتوبر، واستئناف محاكمة نتنياهو بتهم الفساد، مما قد ينهي مسيرته السياسية ويدخله السجن، ومن هنا يأتي اهتمام نتنياهو بمواصلة الحرب في غزة والهجوم في لبنان وسوريا. وهي تصورات صحيحة جزئيا، لكن ذلك لا يجعل ديمومة حرب الإبادة مسألة شخصية، فنتنياهو يمتلك استراتيجية طويلة المدى، سعى إليها طوال مسيرته السياسية الطويلة، وهي استراتيجية تتشابه مع السياسات الصهيونية التي تعود إلى فترة ما قبل قيام الدولة، وهي الاستراتيجية التي تُحرّك حرب الإبادة الحالية.
فالهدف الجوهري من الإبادة الجماعية المستمرة بحق الشعب الفلسطيني في غزة، ومن المخططات المتنوعة لطرد من يتبقى منهم على قيد الحياة، حسب جوزيف مسعد، هو الحفاظ على مشروع المستعمرة الاستيطانية اليهودية في إسرائيل عبر استعادة التفوق الديموغرافي اليهودي المفقود، والذي تم تحقيقه أول مرة عام 1948 من خلال عمليات القتل والتهجير الجماعية. فمنذ بدايات مشروعهم الاستعماري الاستيطاني في فلسطين، أدرك الصهاينة أن فرصة بقاء كيانهم مرهونة بإنشاء أغلبية يهودية في البلاد، وهو ما لا يمكن تحقيقه دون طرد الفلسطينيين. وقد وضع ثيودور هيرتزل، مؤسس الحركة الصهيونية في تسعينيات القرن التاسع عشر، خططا مسبقة لهذا الغرض، سعت المنظمة الصهيونية إلى تحقيقها منذ عشرينيات القرن العشرين. ومع ذلك، لم يصبح الطرد والتهجير ممكنا إلا بعد الغزو الصهيوني العسكري لفلسطين. ومع تفوق عدد الشعب الفلسطيني على اليهودي رغم سياسات التفوق العرقي الصهيوني، شكل الواقع الديموغرافي صدمة لا يمكن احتمالها بالنسبة لدولة الفصل العنصري، وعلى هذه الخلفية أصدر الكنيست الإسرائيلي "القانون الأساسي الجديد: إسرائيل كدولة قومية للشعب اليهودي" في تموز/ يوليو 2018، مؤكدا أن "أرض إسرائيل هي الوطن التاريخي للشعب اليهودي، حيث تأسست دولة إسرائيل" وأن "ممارسة حق تقرير المصير الوطني في دولة إسرائيل هو حق حصري للشعب اليهودي".
لم يعد من الممكن الرهان على قدرة الولايات المتحدة على ضبط المنطقة وتطويع الأنظمة الاستبدادية العربية للإذعان لمشروع الإبادة والتهجير، فقد برهنت الشعوب العربية إبان انتفاضات الربيع العربي على أنها تمتلك القدرة على تقويض الواقع، والفعل والحركة في لحظات تاريخية
لم يعد بالإمكان تبرير تصريحات القيادات الإسرائيلية باعتبارها مجرد انفعالات عاطفية وخطابات انتقامية بعد تسعة عشر شهرا من حملة إسرائيل لتصفية وإبادة غزة، فقد بات واضحا للجميع أنها تعكس منطقا استراتيجيا ورؤية بعيدة المدى. وقد أوضح نتنياهو، في مستهل اجتماع الحكومة الإسرائيلية في 30 آذار/ مارس 2025، أن الضغط العسكري الإسرائيلي المرافق للضغط السياسي هو الأمر الوحيد الذي يعيد المحتجزين الإسرائيليين. وأضاف أنّ خطة الحكومة الإسرائيلية لليوم التالي للحرب هي: نزع سلاح حماس وإبعاد قادتها إلى خارج قطاع غزة، ووضع الأمن العام في القطاع تحت سيطرة إسرائيل، وتنفيذ خطة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب لـتهجير الفلسطينيين طوعيا من قطاع غزة. وفي آذار/ مارس 2025، وافق مجلس الوزراء الإسرائيلي على إنشاء "هيئة لإدارة الهجرة الطوعية [للفلسطينيين] من غزة".
وقد وصف جوزيب بوريل، الممثل الأعلى للسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي السابق، هذه التصريحات الإسرائيلية بأنها "إعلانات واضحة عن نية الإبادة الجماعية"، مشيرا إلى أنه "نادرا ما سمعت زعيم دولة يحدد بوضوح خطة تتناسب مع التعريف القانوني للإبادة الجماعية". فوفقا لاتفاقية الإبادة الجماعية لعام 1948، يشمل هذا التعريف الأفعال المرتكبة "بقصد تدمير جماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية، كليا أو جزئيا"، مثل قتل أفراد من الجماعة أو فرض شروط تهدف إلى تدميرهم جسديا. وعندما يتحدث المسؤولون الإسرائيليون صراحة عن جعل غزة غير صالحة للعيش بشكل دائم لتحفيز نزوح جماعي، فإنهم يصفون هذا السيناريو بالضبط.
خلاصة القول أن المستعمرة اليهودية لم تعد تخفي نواياها بارتكاب إبادة جماعية في غزة، في ظل الخوف من تحول المستوطنين اليهود إلى أقلية ديموغرافية، ومع تواصل عجز إسرائيل عن تحقيق هدفها الجوهري رغم دعم ومشاركة الولايات المتحدة فإن حربها الإبادية في غزة مستمرة، وباتت أبدية بلا نهاية. لكن بوادر الانقسام بدأت تظهر حتى مع أقرب حلفائها غير الولايات المتحدة، 20 أيار/ مايو الماضي، حذرت المملكة المتحدة وفرنسا وكندا من أنها ستفرض عقوبات إذا استمرت إسرائيل في منع المساعدات الإنسانية وتصعيد عملها العسكري في غزة، وأصدرت ألمانيا وإيطاليا بيانات استياء. وتتخلى بعض الشخصيات في أروقة السلطة الدولية ووسائل الإعلام عن مواقفها، ومع تصاعد الانتقادات سوف تجد المستعمرة نفسها في عزلة على المدى البعيد.
فمع تصاعد الوقاحة الصهيونية وتقويض مبادئ القانون الدولي، أجبرت إسرائيل العالم على مواجهة حالة طوارئ أخلاقية وقانونية، ولم يعد من الممكن الرهان على قدرة الولايات المتحدة على ضبط المنطقة وتطويع الأنظمة الاستبدادية العربية للإذعان لمشروع الإبادة والتهجير، فقد برهنت الشعوب العربية إبان انتفاضات الربيع العربي على أنها تمتلك القدرة على تقويض الواقع، والفعل والحركة في لحظات تاريخية، وأن طاقتها الانفجارية استثنائية وغير متوقعة، وكما فشلت المستعمرة في تحقيق أهدافها في ظروف مثالية سابقة، فإن فشلها بديمومة الحرب والإبادة والتهحير في الظروف الحالية مصيره الفشل.
x.com/hasanabuhanya