مقاهي وسط البلد مسارح فنية
تاريخ النشر: 29th, November 2024 GMT
كانت معظم المقاهي في منطقة وسط البلد بالقاهرة منذ بداية القرن العشرين مسارح فنية للفنانين ولجمهورهم من عشّاق المسرح. وفي وقت الحرب العالمية الأولى ظل الإقبال على المسارح ضعيفا، فكانت المقاهي والمراقص تلقى رواجا كبيرا، حيث الموسيقى والرقص والتهريج.
ومن المقاهي التي شهدت رواجًا في ذلك الوقت مقاهي “بوفيه الكورموجراف وقهوة استراليا وقهوة دينالسكا”، إلى جانب البوديجاء وبيرون، الباقيتين إلى اليوم.
مسرح حديقة “ريش”
كان لمقهى “ريش” بوسط البلد حديقة واسعة تمتد إلى ميدان طلعت حرب، مفروشة بالرمل الأحمر كما يصفها أحمد محفوظ في كتابه “خبايا القاهرة”، وقد أقيم المقهى، كما يشير مكاوي سعيد في كتابه “مقتنيات وسط البلد” على أرض قصر الأمير محمد علي توفيق. وبعد هدم القصر بنيت البناية القائمة حتى الآن في العام 1908. أما أول من أسس كافيه ريش فهو بيرنارد ستينبرج في 26 أكتوبر عام 1914، ثم باعه لرجل الأعمال الفرنسي هنري بيير الذي عرف بشغفه بالفن والأدب، وهو الذي أطلق عليه هذا الاسم على اسم مقهى بالاسم نفسه في باريس، ولا يزال هذا المقهى موجودا حتى الآن في باريس.
ثم استدعي هنري بيير للخدمة العسكرية في فرنسا فقام ببيع المكان إلى الخواجة اليوناني ميشيل بوليتس الذي امتلك “ريش” بين عامي 1916 وحتى 1932، ثم باعه ليوناني آخر هو “مانولاكس”، الذي قام ببيعه بعد عشر سنوات أي في العام 1942 إلى جورج إيتانوس وسيلي، وهو يوناني أيضًا، وعندما قرر وسيلي مغادرة القاهرة إلى اليونان في العام 1960 مثل أغلب أبناء الجالية اليونانية والجاليات الأجنبية بشكل عام رأى أن يبيعه لعامل نوبي كان يعمل بالمقهى بسعر معقول، لكن الرجل رفض ليس لأنه لا يملك المال المطلوب، بل لأنه استبعد فكرة أن يكون مالكا للمكان، وفي النهاية انتقلت ملكية “ريش” إلى المصري عبد الملك خليل، والذي يدير ورثته المكان حتى اليوم.
وعلى مسرح الحديقة غنى عدد من أساطين الغناء في مصر في بداية القرن الماضي مثل صالح عبدالحي وزكي مراد والشيخ أبو العلا محمد وأم كلثوم حين غنت على مسرح “ريش” الخميس 13 مايو 1932 قبل أن تشتهر وتصبح سيدة للغناء العربي.
مقهى رمسيس أو مقهى الفن
عند ناصية حارة علي الكسار الحالية مع عماد الدين كان مقهى رمسيس ملء السمع والبصر في العقود الأولى من القرن العشرين وكانت مساحته كبيرة، يرتاده الأدباء والفنانون والكومبارس، منهم محمد تيمور والدكتور حسين فوزي وزكي طليمات ومن الفنانين عزيز عيد، روزاليوسف وفاطمة رشدى وأمينة رزق وزينب صدقي وأحمد علام ودولت أبيض، ومن الكتاب الصحفيين محمد التابعي وفكري أباظة ومحمد عبد المجيد حلمي صاحب مجلة المسرح ومحمد علي حماد، كما كان يجلس عليه من شباب أسرة مجلة أبوللو منهم طه حسين، توفيق الحكيم، أحمد زكي أبو شادي، أحمد رامي، وقد أصبح حاليًا محلات لشركة بافاريا لطفايات الحريق.
مقهى بَعرَه
قهوة شعبية شهيرة تتوسط شارع عماد الدين، وكانت ملاذا للكومبارس المغرمين بأضواء السينما، حيث كانت تنتشر مكاتب مديري الإنتاج الفني وصانعي السينما. تأسست قهوة “بَعرَه” (بفتح الباء وتسكين العين)،سنة 1918، على يد سيدة تدعى “ميرا صبرة”، وكانت القهوة آنذاك مكان الجلوس المحبب للجنود الإنجليز. وكدلالة على القوة والنفوذ اللذين كانت تتمتع بهما السيدة ميرا صبرة، أطلق اسمها على أحد الشوارع في منطقة بولاق أبو العلا، حيث كانت تسكن.
وفي بداية الثلاثينيات انتقلت ملكية القهوة إلى الأبناء، فأدارها الحاج محمد الزناتي، الملقب بـ”بَعرَه”، وتحولت إلى ملتقى للفنانين.
مقهى ومسرح "أبيه دي روز"
كان مقهى "أبيه دي روز" يعد في حقيقته مسرحًا لكبار النجوم، ففي شارع الألفي بالدور الأرضي من المكان الذي يشغله حاليا كازينو شهر زاد، كان يقع مقر مقهى اسمه “أبيه دي روز” ولم يكن يختلف عن المقاهي الليلية في شيء، وكان صاحبه أجنبي يدعى “روزاتي” وكان البرنامج الذي يقدمه يحوي نمرا مختلفة بينها مشهد يسمى “خيال الظل” وفيه ترفع الستار عن المسرح خاليا، وفي وسطه ستار أبيض شفاف ويطفأ النور ويمثل من خلفه رجل وفتاة يقومان ببعض الحركات الهزلية الصامتة، وكان يقوم بالدورين شخصان أجنبيان.
اختلف الرجل مع صاحب الملهى وترك العمل، فحل محله استيفان روستي، وأتقن الدور وربط له صاحب المحل مرتبا قدره ستون قرشا، وكان هذا المبلغ يعتبر ثروة ضخمة لاستيفان، خصوصا وعمله على المسرح لا يستغرق أكثر من ربع ساعة كل ليلة.
واستقدم استيفان روستي نجيب الريحاني للعمل معه، ليقوم الريحاني بتأدية دور خادم بربري يظهر في اسكتش خيال الظل، وتقاضى الريحاني عن هذا الدور أجرا يوميا قدره 40 قرشا.
المصدر: بوابة الفجر
كلمات دلالية: مسارح فنية وسط البلد
إقرأ أيضاً:
غسان حسن محمد.. شاعر التهويدة التي لم تُنِم. والوليد الذي لم تمنحه الحياة فرصة البكاء
بقلم : سمير السعد ..
في عالمٍ تُثقله الحروب وتغرقه الفواجع، تبرز قصيدة “تهويدة لا تُنيم” للشاعر العراقي غسان حسن محمد كصرخة شعرية تحمل وجع الوطن، وتجسِّد الإنسان العراقي في زمنٍ لم يعد فيه للتهويدات مكان، ولا للطفولة حضنٌ آمن. غسان، ابن العمارة ودجلة والقصب، هو شاعر يكتب بقلبه قبل قلمه، ويغزل قصائده من نسيج الوجع العراقي بأدقّ خيوط الإحساس وأصفى نبرة صدق.
يفتتح الشاعر قصيدته بمشهد يختزل حجم الانهيار الداخلي في صورة جسدية/معمارية رمزية:
“من ربّت على ظهرِ الجسر..،
حتى انفصمت عُراه.”
ليتحوّل الجسر، رمز العبور والحياة، إلى معبر نحو الفقد والانفصال، ولتمتدّ صورة اليُتم على النهر كلحن لا يُفضي إلى الوصول:
“ليمتدَّ اليتمُ على كامل النهرِ،
يعزفُ لحنَ اللاوصول؟!”
هنا لا يتحدث الشاعر عن اليتيم بمعناه الفردي، بل يُحوّله إلى حالة جماعية تسري في جسد المكان، حالة بلد بأكمله يُرَبّى على غياب الآباء، وانقطاع الحكايات.
تدخل الحرب بوصفها شخصية غاشمة، لا تنتظر حتى تهدأ التهويدة، بل تُباغت الزمن وتفتك بالطمأنينة:
“الحرب..،
الحرب..،
(لعلعةٌ..):
كانت أسرعَ من تهويدة الأمِّ لوليدها”
هكذا يضع الشاعر التهويدة، رمز الحنان والرعاية، في مواجهة مباشرة مع صوت الحرب، لنعرف أن النتيجة ستكون فاجعةً لا محالة. ولا عجب حين نسمع عن الوليد الذي لم تمنحه الحياة حتى فرصة البكاء:
“الوليدُ الذي لم يفتر ثغرهُ
عن ابتسام..”
فهو لم يعرف الفجيعة بعد، ولم يلعب، ولم يسمع من أبيه سوى حكاية ناقصة، تُكملها المأساة:
“لم يَعُد أباه باللُعبِ..,
لم يُكمل حكايات وطنٍ..،
على خشبتهِ تزدهرُ المأساة لا غير.!”
في هذا البيت تحديدًا، يكشف غسان عن قدرة شعرية مدهشة على تحويل النعش إلى خشبة مسرح، حيث لا تزدهر إلا المأساة، في تورية درامية تفتك بالقلب.
ثم يأتي المشهد الفاصل، المشهد الذي يُكثّف حضور الغياب:
“عادَ الأبُّ بنعشٍ.. يكّفنهُ (زهرٌ)
لم يكُن على موعدٍ مع الفناء.!”
فالموت لم يكن مُنتظرًا، بل طارئًا، كما هي الحرب دومًا. لقد كان الأب يحلم بزقزقة العصافير، وسنابل تتراقص على وقع الحب:
“كان يمني النفسَ
بأفقٕ من زقزقات.،
وسنابلَ تتهادى على وقع
أغنية حبٍّ..
تعزفها قلوبٌ ولهى!”
بهذا المشهد، يقرّب الشاعر المأساة من القلب، يجعل القارئ يرى الأب لا كمقاتل، بل كعاشق كان يحلم بأغنية، لا بزئير دبابة. حلمُ الأب كُسر، أو بالأدق: أُجهض، على خيط لم يكن فاصلاً، ولا أبيض، بين الليل والنهار:
“حُلم أُجهض على الخيط
الذي لم يكن فاصلاً..،
ولا ابيضَ..
بين ليلٍ ونهار”
لا زمن في الحرب، لا بداية ولا نهاية، ولا فاصل بين حلمٍ وحطام. فالحرب تعيش في الفراغ، وتُشبع نهمها من أجساد الأبناء دون أن ترمش:
“ذلك أن لا مواقيت لحربٍ..
تُشبعُ نهمَ المدافع بالأبناء..”
وفي النهاية، تأتي القفلة العظيمة، القفلة التي تحوّل الحرب من آلة صمّاء إلى كائنٍ لو امتلك عيناً، لبكى، ولابتسم الطفل:
“فلو كانَ للحربِ عينٌ تدمع.،
لأبتسم الوليد!”
ما أوجع هذا البيت! إنه انقلابٌ شعريّ كامل يجعل من التهويدة التي لم تُنِم أيقونةً لفجيعة كاملة، وابتسامة الوليد غاية ما يتمنّاه الشاعر، وكأنّها وحدها قادرة على إنهاء الحرب.
غسان حسن محمد الساعدي ، المولود في بغداد عام 1974، والحاصل على بكالوريوس في اللغة الإنجليزية، هو عضو فاعل في اتحاد الأدباء والكتاب في العراق. صدرت له عدة مجموعات شعرية ونقدية منها “بصمة السماء”، و”باي صيف ستلمين المطر”، و”أسفار الوجد”، إضافة إلى كتابه النقدي “الإنصات إلى الجمال”. شاعرٌ واسع الحضور، يكتب بروح مغموسة بجماليات المكان وروح الجنوب العراقي، وينتمي بصدق إلى أرضه وناسها وتاريخها الأدبي والثقافي.
شاعر شفاف، حسن المعشر، لطيف في حضوره، عميق في إحساسه، يدخل القصيدة كمن يدخل الصلاة، ويخرج منها كما يخرج الطفل من حضن أمه، بكاءً وشوقًا وحلمًا. هو ابن العمارة، وابن دجلة، وابن النخيل والبردي، يدخل القلوب دون استئذان، ويترك فيها جُرحاً نديًّا لا يُنسى.
في “تهويدة لا تُنيم”، لا يكتب الساعدي الشعر، بل يعيش فيه. يكتب لا ليواسي، بل ليوقظ. لا ليبكي، بل ليُفكّر. قصيدته هذه، كما حياته الشعرية، تُعلن أن الشعر ما يزال قادراً على فضح الحرب، وردّ الضمير إلى مكانه، لعلّ الوليد يبتسم أخيرًا.