لماذا تستمر الإبادة بعد صدور أحكام الجنائية؟
تاريخ النشر: 30th, November 2024 GMT
وافقت إسرائيل أخيرا على قرار وقف إطلاق النار في لبنان! مضطرة لأن مقاومة حزب الله فاجأت العدو المحتل بضراوتها وصمودها وتهديدها اليومي لمدن الاحتلال بصواريخ ومسيرات في قمة التكنولوجيا والدقة ولكن المحتل استمر في قصف غزة البطلة ومن جهته لخص زميلنا توفيق الحميدي بإيجاز تداعيات قرارات محكمة الجنايات الدولية منذ أصدرت المحكمة مذكرتي اعتقال ضد رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو ووزير حربه السابق يؤاف غالانت قائلا «رغم الضغوطات الغربية الهائلة التي تعرضت لها المحكمة ونائبها العام كريم خان للحيلولة دون إصدار هذه المذكرات حيث تشمل جرائم الحرب التي يتهم بها نتنياهو وغالانت: وهي «تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب وتعمد إحداث معاناة شديدة وإلحاق أذى خطير بالجسم أو بالصحة والقتل العمد وتوجيه هجمات ضد السكان المدنيين أما الجرائم ضد الإنسانية فتشمل الإبادة والقتل العمد بما في ذلك في سياق الموت الناجم عن التجويع والاضطهاد وأفعال لا إنسانية أخرى».
ومن الأسئلة العديدة التي يطرحها الناس: من سينفذ مذكرات الاعتقال؟ الجواب هو: تتضمن مذكرات الاعتقال تفاصيل المشتبه به ووصف جريمته والأسس القانونية لإصدارها ثم يتم إرسال مذكرات الاعتقال إلى الدول الموقعة على معاهدة روما المؤسسة للمحكمة الجنائية وهي 124 دولة التي تكون ملزمة بالتعاون مع المحكمة لتنفيذ مذكرات الاعتقال.
وسؤال ثان: هل بإمكان نتنياهو وغالانت السفر؟
الجواب هو: سيتعين على نتنياهو وغالانت التفكير جيدا قبل أن يقررا السفر إلى أي من هذه الدول الـ 124 حول العالم خشية تعرضهما للاعتقال وهذا يعني أنهما سيكونان ملاحقين دوليا مما سيحد من تحركهما وسفرهما دوليا.
سؤال ثالث مهم: لا تعترف بعض الدول بسلطة المحكمة مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين مما قد يُصعّب تنفيذ مذكرات الاعتقال ضد نتنياهو وغالانت؟
الجواب القانوني هو: رغم الالتزام القانوني للدول الأعضاء في المحكمة إلا أن بعضها قد يواجه صعوبات في تنفيذ مذكرات الاعتقال بسبب الضغوط السياسية أو الدبلوماسية فمثلا قد تتردد بعض الدول في اعتقال مسؤولين رفيعي المستوى مثل رؤساء دول بسبب علاقات سياسية أو اقتصادية. وترى بعض الدول أن رؤساء الدول يتمتعون بحصانة سيادية رغم أن المحكمة لا تعترف بهذه الحصانة بالنسبة للجرائم الدولية كما تتجنب بعض الدول تنفيذ الاعتقالات منعا للتوترات السياسية أو العسكرية مع الدول المعنية وخوفا من العواقب.
لكن القانون ينص على أنه إذا رفضت دولة موقعة تنفيذ مذكرة اعتقال يمكن للمحكمة الجنائية الدولية أن تحيل الأمر إلى مجلس الأمن الدولي أو أن تتخذ إجراءات دبلوماسية لإدانة الدولة.
ومن جهته قال السيد خان المدعي العام لدى المحكمة: «إن أي تأخير غير مبرر في هذه الإجراءات يؤثر سلبا على حقوق الضحايا» وأكد أن المحكمة تتمتع بالولاية القضائية على الإسرائيليين الذين يرتكبون جرائم وحشية في الأراضي الفلسطينية وطلب من قضاة المحكمة رفض الطعون التي قدمتها عشرات الحكومات الخائفة من ردود فعل دولة عظمى كالولايات المتحدة.
سؤال آخر هو: هل تعترف «إسرائيل» بالمحكمة الدولية؟
الجواب القانوني هو: مع العلم أن إسرائيل لا تعترف بالولاية القضائية للمحكمة التي تأسست عام 2002 لكن تم قبول عضوية فلسطين في المحكمة وهي طرف معني بالإجراءات الأخيرة ولذلك تصر إسرائيل على مواصلة حرب الإبادة الجماعية في تحدّ لمذكرتي الاعتقال بحق نتنياهو وغالانت كما سبق أن تجاهلت قرارين لمجلس الأمن الدولي بإنهاء الحرب فورا وأوامر محكمة العدل الدولية باتخاذ تدابير لمنع أعمال الإبادة الجماعية وتحسين الوضع الإنساني الكارثي في غزة! فحولت إسرائيل قطاع غزة إلى أكبر سجن في العالم إذ تحاصره للعام الـ18 وأجبرت حربها نحو مليونين من مواطنيه البالغ عددهم حوالي 2.3 مليون فلسطيني على النزوح في أوضاع كارثية مع شح شديد ومتعمد في الغذاء والماء والدواء فضلا عن قتل 44 ألفا منذ بدء الحرب.
ومن جهته علق نائب الرئيس المصري الأسبق محمد البرادعي على مذكرات التوقيف قائلا: «هناك تعاطف غير مسبوق في كل أنحاء العالم شعبيا وسياسيا وقانونيا مع حقوق الشعب الفلسطيني وضد الاحتلال والعنصرية الإسرائيلية» وتابع: «ليس بيدي سوى أن أطلب من الحكومات العربية باسم الإنسانية وباسم الشعوب العربية أن تتناسوا خلافاتكم وأن تتقدموا الصفوف مجتمعين وأن تستخدموا ما لديكم من نفوذ وهو ليس بقليل للتوصل إلى حل عادل وشامل للقضية الفلسطينية. وأضاف عبر «إكس»: «هذه فرصة قد لا تتكرر ولن تطول وقبل أن يتم تنفيذ المخطط الجاري لتصفية القضية.. اللهم قد بلغت».
وفي نفس السياق كتب أمس المفكر الفلسطيني ماجد كيالي على موقع (درج) يقول: «ثمة ظاهرتان: الأولى أن إسرائيل في ظل حكومة اليمين القومي والديني المتطرف، بقيادة نتنياهو وسموتريتش وبن غفير بشنّها حرب إبادة جماعية في غزة ولبنان تنذر بعودة الفاشية والميل إلى الانقضاض على قيم الحداثة والليبرالية الديمقراطية التي أعلت من شأن القيم الإنسانية قيم الحرية والكرامة والمساواة وهو ما نلاحظه أيضاً في مظاهر تقييد حرية الرأي في بعض الدول الغربية ومحاولة حظر نقد إسرائيل الاستعمارية والعنصرية والعدوانية بدعوى مناهضة اللاسامية.
وبالرغم من دعم الاتحاد الأوروبي لحل الدولتين واعترافه بالدور المحوري للقانون الدولي فإن الموقف الأوروبي قد يشهد انقسامات نتيجة المصالح الوطنية المختلفة حيث من المرجح أن تدعم دول مثل النرويج وأيرلندا القرار استنادًا إلى مواقفهما المؤيدة للعدالة الدولية والحقوق الفلسطينية بينما دول ألمانيا وفرنسا قد تعبران عن تحفظات خشية تأثير القرار على استقرار المنطقة. هذا التحفظ يعكس القلق الأوروبي من تقويض أي جهود دبلوماسية سابقة لتحقيق السلام في حين أن (جوزيب بوريل) مسؤول الخارجية للاتحاد الأوروبي أعلن بوضوح أن موقف الاتحاد الأوروبي سينحاز إلى جانب القانون الدولي دون موقف سياسي معين.
(الشرق القطرية)
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الاحتلال جرائم الجنائية الدولية الاحتلال جرائم الجنائية الدولية مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة رياضة صحافة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة نتنیاهو وغالانت مذکرات الاعتقال بعض الدول
إقرأ أيضاً:
اللغة التي تفشل
تكتمل الكارثة بالعجز اللغوي عن وصفها. لم نعد قادرين على القول؛ لأن القول لم يعد قادرًا على ممارسة أفعاله، ولأن القول العاري من الإرادة موعود بخيانة نفسه. سولماز شريف، الشاعرة الأمريكية الإيرانية الأصل كانت قد كتبت ذات مرة:
«كل قصيدة فعل.
كل فعل عمل سياسي.
ولذا فكل القصائد سياسية». (اقرأ مقالتها «الخصائص شبه المشتركة بين السياسي والشعري: المحو» بترجمة مزنة الرحبية، على مجلة الفلق الإلكترونية).
تذكرنا شريف، فيما ننسى، بأن تسييس القصيدة ليس مسألة اختيار، بل هو شرط شعري مسبوق بشرط أول: أن تكون القصيدة فعلاً. فعل القصيدة شرط شعري لا حياد عنه. على القصيدة أن تفعل فعلها السياسي، «أن تدقَّ جدار الخزان» بتعبير غسان كنفاني كي تتحقق شعريًا. وبهذا المعنى تضع سولماز شريف شعرنا المكتوب في خضم الكارثة أمام تحدٍ وجودي يعيدنا للبحث في أزمة سابقة تتعلق بالدولة والحرية، وبالفضاء السياسي للغة عمومًا: كيف نكتب شعرًا «فاعلًا» بلغة معقَّمة معطَّلة سياسيًا من الأساس؟ فإذا كانت الخطب المنبرية الصريحة تفشل فشلها الذريع في الفعل، فكيف لإيماء الشعر أن يفعل بهذه اللغة المقهورة سياسيًا؟! يدهشني أن أقرأ عن غزيين يحاولون تعلم اللغة الإنجليزية كلغة طوارئ يترجمون بها معاناتهم للعالم. ولعل هذا الشاهد هو الأبلغ على فشل هذه اللغة، العربية، وعلى عطالتها السياسية، اللغة التي لم تعد تسعف، ولم تعد تلبي مهمة التواصل والوصول.
«قهر اللغة» هو الفصلُ الأقسى من فصول هذه الإبادة المفتوحة، حين تنتحر الكلمات على حدود السياج الخفي، الفاصل الواصل بين اللفظ ودقة المعنى. اللغة المقهورة التي ظلت عاجزة عن الفعل السياسي نكتشف اليوم، في امتحانها الأصعب، أنها مصابة بالعجز حتى أن الإيفاء بوظيفتها الأخيرة «التعبير». ولكن من منَّا الآن على استعداد ليقرَّ بعجز لغته عن التعبير، فضلاً عن الإتيان بجديد في هذا المناخ من الاستعصاء المرير، استعصاء ما بعد الصدمة؟!
سؤال الإبداع في الإبادة هو أيضًا سؤال إشكالي من ناحية أخلاقية وفلسفية في الآن نفسه: كيف لنا، قبل أي شيء، أن نبحث في الإبادة عن معنى؟ معنى جديد؟ كيف نطالب بإبداع من وحي الإبادة دون أن نجد في هذا المطلب تناقضًا فلسفيًا من قبل أن يكون أخلاقًيا؟ أوليس في هذا التسول البائس تواطؤًا يجعل من الكتابة «الجمالية» عن الإبادة تطبيعًا لها، أو توكيدًا ضمنيًا لما تسعى لاستنكاره؟ ربما تصبح مقولة أدورنو الشهيرة عن استحالة كتابة الشعر بعد «أوشفيتز» ضرورية في هذا السياق، حتى وإن بدت لنا مكابرة الكتابة في هذا الظرف، رغم قهر اللغة، مكابرةً أخلاقيةً مشروعة، بذريعة أن بديلها المطروح ليس سوى الصمت، الصمت عن الجريمة.
ما الذي يمكن فعله بهذه اللغة التي تفشل؟ على مدى عامين تقريبًا وأنا أراقب لغتي بخوف وحذر. الإبادة المستمرة هناك تمتحن لغتي هنا كما لم أعرف من قبل امتحانًا في اللغة. كيف يكتب اليوم من لم يهيئ نفسه وأدواته من قبل لاستقبال العالم بهذه الصورة؟ ثمة وحشية فاجرة، أكبر من طاقة اللغة على الاستيعاب. عنف يحشرني في زاوية ضيقة من المعجم، وهو ما يجبرني على تعلم أساليب جديدة في المراوغة والتملص للنجاة من هذا الحصار، حصار السكوت الذي لا يقترح إلا الكلام الجاهز.
أستطيع أن أحدد يوم السابع من أكتوبر 2023 تاريخًا لبداية مرحلة جديدة من لغتي. صرتُ كثير التَّفكر في اللغة باعتبارها موضوعًا موازيًا للعالم. بات عليَّ أن أُعقلن لغتي أكثر، أن أرشِّدها، وأن أتحداها في الوقت نفسه. يظهر هذا في تلعثمي وتعثري بالألفاظ كلما حاولتُ الكتابة أو الحديث عن الإبادة التي لم أعد أستطيع التعبير عنها بأي شكل من الأشكال دون الدخول في صراع مع اللغة وإمكانياتها. حتى وأنا أكتب كلمة «إبادة» الآن أصطدم بفراغ عدمي بعد الكلمة، وأدخل في متاه مفتوح لا يؤدي إلى أي شيء، عدم يحيل هذه الكلمة إلى مجرد لفظة إجرائية فقدت حوافها وحدودها من فرط الاستهلاك اليومي.
تختبر الحرب قدرة الشعر والفكر على امتصاص الصدمة واستقبال الفجيعة. حدث هذا جليًا في عقب الصدمة التي ولَّدتها النكسة سنة 1967، سنة الانقلابات الشخصية والتحولات الكبرى في صفوف الشعراء والمثقفين العرب. وهو ما يحدث اليوم وعلى مدى أشهر في صورة أكثر بطئًا وتماديًا. والحرب تأتي لتفحص جهوزية اللغة ولتعيد تشكيلها في نهاية المطاف. إنها تعبثُ بالعلاقة بين الدال والمدلول، وتبعثر الاستعارات القديمة لتأتي باستعاراتها الجديدة، وتفرض مع الوقت معجمها الموحَّد الذي توزعه على الجميع. كما تفتحُ الحرب الباب للشعراء الهواة لتقديم استقالاتهم والانصراف البيوت (لا شاعر للمهمات الصعبة اليوم)، وإن كانت في الوقت نفسه توفر مناخًا انتهازيًا لهذه الفئة من الشعراء المتسلقين على المراثي وأحصنة الحماسة.
سالم الرحبي شاعر وكاتب عُماني