لجريدة عمان:
2025-07-27@07:04:37 GMT

اللغة التي تفشل

تاريخ النشر: 26th, July 2025 GMT

تكتمل الكارثة بالعجز اللغوي عن وصفها. لم نعد قادرين على القول؛ لأن القول لم يعد قادرًا على ممارسة أفعاله، ولأن القول العاري من الإرادة موعود بخيانة نفسه. سولماز شريف، الشاعرة الأمريكية الإيرانية الأصل كانت قد كتبت ذات مرة:

«كل قصيدة فعل.

كل فعل عمل سياسي.

ولذا فكل القصائد سياسية». (اقرأ مقالتها «الخصائص شبه المشتركة بين السياسي والشعري: المحو» بترجمة مزنة الرحبية، على مجلة الفلق الإلكترونية).

تذكرنا شريف، فيما ننسى، بأن تسييس القصيدة ليس مسألة اختيار، بل هو شرط شعري مسبوق بشرط أول: أن تكون القصيدة فعلاً. فعل القصيدة شرط شعري لا حياد عنه. على القصيدة أن تفعل فعلها السياسي، «أن تدقَّ جدار الخزان» بتعبير غسان كنفاني كي تتحقق شعريًا. وبهذا المعنى تضع سولماز شريف شعرنا المكتوب في خضم الكارثة أمام تحدٍ وجودي يعيدنا للبحث في أزمة سابقة تتعلق بالدولة والحرية، وبالفضاء السياسي للغة عمومًا: كيف نكتب شعرًا «فاعلًا» بلغة معقَّمة معطَّلة سياسيًا من الأساس؟ فإذا كانت الخطب المنبرية الصريحة تفشل فشلها الذريع في الفعل، فكيف لإيماء الشعر أن يفعل بهذه اللغة المقهورة سياسيًا؟! يدهشني أن أقرأ عن غزيين يحاولون تعلم اللغة الإنجليزية كلغة طوارئ يترجمون بها معاناتهم للعالم. ولعل هذا الشاهد هو الأبلغ على فشل هذه اللغة، العربية، وعلى عطالتها السياسية، اللغة التي لم تعد تسعف، ولم تعد تلبي مهمة التواصل والوصول.

«قهر اللغة» هو الفصلُ الأقسى من فصول هذه الإبادة المفتوحة، حين تنتحر الكلمات على حدود السياج الخفي، الفاصل الواصل بين اللفظ ودقة المعنى. اللغة المقهورة التي ظلت عاجزة عن الفعل السياسي نكتشف اليوم، في امتحانها الأصعب، أنها مصابة بالعجز حتى أن الإيفاء بوظيفتها الأخيرة «التعبير». ولكن من منَّا الآن على استعداد ليقرَّ بعجز لغته عن التعبير، فضلاً عن الإتيان بجديد في هذا المناخ من الاستعصاء المرير، استعصاء ما بعد الصدمة؟!

سؤال الإبداع في الإبادة هو أيضًا سؤال إشكالي من ناحية أخلاقية وفلسفية في الآن نفسه: كيف لنا، قبل أي شيء، أن نبحث في الإبادة عن معنى؟ معنى جديد؟ كيف نطالب بإبداع من وحي الإبادة دون أن نجد في هذا المطلب تناقضًا فلسفيًا من قبل أن يكون أخلاقًيا؟ أوليس في هذا التسول البائس تواطؤًا يجعل من الكتابة «الجمالية» عن الإبادة تطبيعًا لها، أو توكيدًا ضمنيًا لما تسعى لاستنكاره؟ ربما تصبح مقولة أدورنو الشهيرة عن استحالة كتابة الشعر بعد «أوشفيتز» ضرورية في هذا السياق، حتى وإن بدت لنا مكابرة الكتابة في هذا الظرف، رغم قهر اللغة، مكابرةً أخلاقيةً مشروعة، بذريعة أن بديلها المطروح ليس سوى الصمت، الصمت عن الجريمة.

ما الذي يمكن فعله بهذه اللغة التي تفشل؟ على مدى عامين تقريبًا وأنا أراقب لغتي بخوف وحذر. الإبادة المستمرة هناك تمتحن لغتي هنا كما لم أعرف من قبل امتحانًا في اللغة. كيف يكتب اليوم من لم يهيئ نفسه وأدواته من قبل لاستقبال العالم بهذه الصورة؟ ثمة وحشية فاجرة، أكبر من طاقة اللغة على الاستيعاب. عنف يحشرني في زاوية ضيقة من المعجم، وهو ما يجبرني على تعلم أساليب جديدة في المراوغة والتملص للنجاة من هذا الحصار، حصار السكوت الذي لا يقترح إلا الكلام الجاهز.

أستطيع أن أحدد يوم السابع من أكتوبر 2023 تاريخًا لبداية مرحلة جديدة من لغتي. صرتُ كثير التَّفكر في اللغة باعتبارها موضوعًا موازيًا للعالم. بات عليَّ أن أُعقلن لغتي أكثر، أن أرشِّدها، وأن أتحداها في الوقت نفسه. يظهر هذا في تلعثمي وتعثري بالألفاظ كلما حاولتُ الكتابة أو الحديث عن الإبادة التي لم أعد أستطيع التعبير عنها بأي شكل من الأشكال دون الدخول في صراع مع اللغة وإمكانياتها. حتى وأنا أكتب كلمة «إبادة» الآن أصطدم بفراغ عدمي بعد الكلمة، وأدخل في متاه مفتوح لا يؤدي إلى أي شيء، عدم يحيل هذه الكلمة إلى مجرد لفظة إجرائية فقدت حوافها وحدودها من فرط الاستهلاك اليومي.

تختبر الحرب قدرة الشعر والفكر على امتصاص الصدمة واستقبال الفجيعة. حدث هذا جليًا في عقب الصدمة التي ولَّدتها النكسة سنة 1967، سنة الانقلابات الشخصية والتحولات الكبرى في صفوف الشعراء والمثقفين العرب. وهو ما يحدث اليوم وعلى مدى أشهر في صورة أكثر بطئًا وتماديًا. والحرب تأتي لتفحص جهوزية اللغة ولتعيد تشكيلها في نهاية المطاف. إنها تعبثُ بالعلاقة بين الدال والمدلول، وتبعثر الاستعارات القديمة لتأتي باستعاراتها الجديدة، وتفرض مع الوقت معجمها الموحَّد الذي توزعه على الجميع. كما تفتحُ الحرب الباب للشعراء الهواة لتقديم استقالاتهم والانصراف البيوت (لا شاعر للمهمات الصعبة اليوم)، وإن كانت في الوقت نفسه توفر مناخًا انتهازيًا لهذه الفئة من الشعراء المتسلقين على المراثي وأحصنة الحماسة.

سالم الرحبي شاعر وكاتب عُماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: فی هذا

إقرأ أيضاً:

اجهزة تجسس إسرائيلية متخصصة في في سحب خصوصيات المواطنين كانت في طريقها للحوثيين تقع في قبضة المقاومة الوطنية .. واحدث صواريخ ايران تفشل في الوصول لموانئ الحوثي.. تفاصيل جديدة .. عاجل

 

كشفت المقاومة الوطنية، الخميس، عن تفاصيل شحنة أسلحة إيرانية ضبطتها وصادرتها، في 27 يونيو، بالتعاون بين شُعبة الاستخبارات والقوة البحرية للمقاومة، أثناء تهريبها إلى مليشيا الحوثي، المدعومة من طهران.

 

وقال المتحدث باسم المقاومة الوطنية، العميد الركن صادق دويد، خلال مؤتمر صحفي عقده في مدينة المخا بمحافظة تعز؛ إن عملية الضبط جاءت بعد تعقب استخباراتي دقيق، وإن طبيعة الأسلحة المصادرة تعكس مستوى متقدمًا من الدعم العسكري الإيراني للمليشيا.

 

وأوضح دويد أن الشحنة تضمنت مكونات لـ12 صاروخًا من بينها صواريخ بحرية وأرض- أرض ودفاع جوي، فضلًا عن مضادات للدروع.. وأن تحليل بعض القطع ما زال جاريًا.

 

كما كشف دويد عن ضبط جهاز تجسس إسرائيلي صنع شركة "سيلبيريت" مهمته سحب المعلومات والبيانات والتجسس على خصوصيات المواطنين، إلى جانب ضبط كاميرات تجسس صغيرة الحجم وجهاز لكشف الكذب وكمبيوتر عليه تطبيقات متعددة.

ووفق العميد دويد، فإن الشحنة ضمت رؤوس وأجزاء الصاروخ البحري "قدر 380" ويصل مداه إلى 1000كم و3 أجزاء لصاروخ دفاع جوي يُدعى "طائر 3"، الذي يطلق عليه الحوثي "برق 3" ويصل مداه من 100 إلى 200 كم، وارتفاع 27 كم.. موضحًا أن هذين الصاروخين من الصواريخ الإيرانية الحديثة، وأن محاولة تهريبها بمثابة تأكيد رسمي على أن إيران ترسل أحدث أسلحتها للمليشيات الحوثية.

 

كما ضمت الشحنة قطعًا لصاروخ "غدير" الإيراني، الذي يطلق عليه الحوثيون "مندب2" ومداه يصل إلى 300 كم، وأجزاء من صاروخ "صقر 358" المضاد للطائرات ويسميه الحوثيون "صقر 2"، وأيضًا صواريخ "ستريلا 2" دفاع جوي قصيرة المدى، وصاروخ "جنيحات زعانف" فرص صوتي، ويطلق عليه الحوثي "فلسطين 2"، وصاروخ كروز المجنح "يا علي" يسميه الحوثيون "سجيل".

 

الشحنة اشتملت- أيضًا- على محركات صواريخ سومر 10 التي يصل مداها إلى 1000 كم، ويطلق عليها الحوثيون اسم "قدس"، وكذا قطعًا وأجهزة صاروخ أرض- أرض "قاسم"، وصاروخ "دهلاوية" المضاد للدروع الذي يصل مداه إلى 5- 5.5 كم، إلى جانب بواحث توجيه صواريخ.

 

واحتوت الشحنة على مسيَّرات إيرانية انتحارية تُدعى "معراج 532" التي يصل مداها إلى 500 كم، وطائرات استطلاع دراون "FPT"، ومحركات طائرات مسيّرة متعددة القوة، وكاميرات حرارية وليزرية متخصصة بكشف الطيران المسيّر، وجهاز فحص للمواد الكيمائية، ومدفع بي 10 المضاد للدروع، وأجزاء من قناصة AM-50، ونواظير ومعدات تستخدم لمحاكاة التدريبات العسكرية، وأجزاء من أسلحة عيارات وذخائر متنوعة.

 

وأشار إلى أن الشحنة كانت مخفية داخل معدات مدنية تستخدم في قطاع الكهرباء، وأن التحقيقات الأولية مع طاقم السفينة أظهرت أن هذه الشحنة هي الثالثة عشرة التي يتم تهريبها من إيران إلى الحوثيين، عبر شبكة تهريب يديرها قيادي حوثي يُدعى "محمد أحمد الطالبي" ويكنّى "أبو جعفر الطالبي".

 

وفيما اعتبر المتحدث العسكري أن تكرار محاولات تهريب الأسلحة يعكس دور الحوثيين المتزايد كأداة رئيسية لإيران في المنطقة، خاصة بعد تراجع نفوذ حلفاء طهران الإقليميين.. حذّر من معلومات تفيد بسعي المليشيا لتطوير أسلحة بيولوجية بالتعاون مع إيران، ما يمثل تهديدًا إقليميًا ودوليًا.

 

وشهد المؤتمر حضورًا إعلاميًا واسعًا، بمشاركة نحو 50 وسيلة إعلامية محلية وعربية ودولية.

 

وكانت المقاومة الوطنية قد أعلنت عن اعتراضها- في البحر الأحمر- لأكبر شحنة أسلحة استراتيجية قادمة من إيران إلى الحوثيين، بوزن 750 طنًا، جميعها موجهة لقتل اليمنيين وتهديد أمن الملاحة الدولية في البحر الأحمر

مقالات مشابهة

  • نائب بولندي ينتقد موقف بلاده من جريمة الابادة التي ترتكبها “إسرائيل” في غزة
  • الجاهل عدو نفسه (ترامب نموذجا)
  • من يهاجم الهلال .. يهاجم التاريخ نفسه لا تهاجموا المجد من خلف الشاشات .. الهلال لا يُشبه أحد
  • عبر شنق نفسه.. انتحار معلم غربي نينوى
  • فرق فنية تفشل هجومًا سيبرانيًا على مواقع إلكترونية يمنية.. وقراصنة يعلنون اختراق 75 موقعًا حكوميًا
  • الهاملي: جائزة «ندوة الثقافة» للشعر العربي ترسّخ حضور القصيدة
  • راغب علامة يدافع عن نفسه… ونقابة الموسيقيين في لبنان تعلّق
  • اجهزة تجسس إسرائيلية متخصصة في في سحب خصوصيات المواطنين كانت في طريقها للحوثيين تقع في قبضة المقاومة الوطنية .. واحدث صواريخ ايران تفشل في الوصول لموانئ الحوثي.. تفاصيل جديدة .. عاجل
  • أوزجان دينيز في قبضة أزمة مالية بسبب شقيقه: الفنانون أيضًا لا ينجون من مرارة العائلة