موقع النيلين:
2025-06-14@01:27:05 GMT

حكاية الطياني القرآني

تاريخ النشر: 1st, December 2024 GMT

قبل سنوات شيّد لنا معماري شاب حديث التخرج ستديو للصوتيات بقناة أمدرمان الفضائية قبل انطلاقها، وكان فيه حيوية ونشاط واهتمام بالثقافة والأدب. وقد دخل عليّ في إحدى الأيام بمكتبي قرأ على مسامعي قصة قصيرة وهي جزء من مجموعة ينوي اصدارها فسألني تقييمي للقصة بدون مجاملة السودانيين وأطلق بعدها ضحكة ذات مغذى. بعد أن انتهى من القراءة قلت له بصراحة إن القصة مثقلة بالمفردات والحشو والترصيع اللغوي، مما أخفى قوة الفكرة فيها.

وتداولنا في أشياء كثيرة عن أدب القصة والرواية ورؤيتي حولها، ونصحته بمراجعة القصص القرآني ففيه أحكام في اللغة وابراز للمعنى وانتقال فني من حدث إلى حدث دون الاغراق في التفاصيل، ودون أن يتجاوز النص ذكاء القارئ.

ونصحته بأن يبدأ بسورة الكهف حيث تطل في ثناياها الكريمة قصة أهل الكهف والرقيم وقصة صاحب الجنتين وقصة سيدنا موسى والخضر وقصة ذو القرنين.

واضفت له نصيحة أخرى بأن يقرأ الأحاديث التي رواها الفاروق عن المصطفى صلى الله عليه وسلم فابن الخطاب كان مشهورا بحبه للأدب وكان عارفا بخبايا الشعر والشعراء وكان له شغف بشعر زهير بن ابي سلمى، وأكد هذا ابن عباس إذ قال: خرجت مع عمر بن الخطاب في أول غزوة غزاها فقال لي: أنشدني لشاعر الشعراء» قلت: ومن هو يا أمير المؤمنين؟ قال: ابن أبي سلِمى» قلت: وبم صار كذلك؟ قال: لا يتبع حوشي الكلام ولا يعاظل في المنطق ولا يقول إلا ما يعرف ولا يمتدح أحداً إلا بما فيه.

وعندما قابل رضي الله عنه أعاين من قبيلة زهير قال لهم : إن أشعر العرب صاحب ومن ومن ومن وقرأ عليهم أبيات المعلقة التي جملها بنصائح ناصعات بقيت في جيد الفكر الانساني الرصين حتى قبل ظهور الاسلام:
‎وَمَنْ لَمْ يُصَـانِعْ فِي أُمُـورٍ كَثِيـرَةٍ
‎يُضَـرَّسْ بِأَنْيَـابٍ وَيُوْطَأ بِمَنْسِـمِ
‎وَمَنْ يَجْعَلِ المَعْروفَ مِنْ دُونِ عِرْضِهِ
‎يَفِـرْهُ وَمَنْ لا يَتَّقِ الشَّتْـمَ يُشْتَـمِ
‎وَمَنْ يَكُ ذَا فَضْـلٍ فَيَبْخَلْ بِفَضْلِـهِ
‎عَلَى قَوْمِهِ يُسْتَغْـنَ عَنْـهُ وَيُذْمَـمِ
‎وَمَنْ يُوْفِ لا يُذْمَمْ وَمَنْ يُهْدَ قَلْبُـهُ
‎إِلَـى مُطْمَئِـنِّ البِرِّ لا يَتَجَمْجَـمِ
‎وَمَنْ هَابَ أَسْـبَابَ المَنَايَا يَنَلْنَـهُ
‎وَإِنْ يَرْقَ أَسْـبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّـمِ
‎وَمَنْ يَجْعَلِ المَعْرُوفَ فِي غَيْرِ أَهْلِـهِ
‎يَكُـنْ حَمْـدُهُ ذَماً عَلَيْهِ وَيَنْـدَمِ
‎وَمَنْ يَعْصِ أَطْـرَافَ الزُّجَاجِ فَإِنَّـهُ
‎يُطِيـعُ العَوَالِي رُكِّبَتْ كُلَّ لَهْـذَمِ
‎وَمَنْ لَمْ يَذُدْ عَنْ حَوْضِهِ بِسِلاحِـهِ
‎يُهَـدَّمْ وَمَنْ لا يَظْلِمْ النَّاسَ يُظْلَـمِ
‎وَمَنْ يَغْتَرِبْ يَحْسَبْ عَدُواً صَدِيقَـهُ
‎وَمَنْ لَم يُكَـرِّمْ نَفْسَـهُ لَم يُكَـرَّمِ
بل أن سيدنا عمر قال في حقه كلمة مشهودة: “لو أدركتُ زهيراً لولّيته القضاء!” مشيرا إلى أبياته:
فَإِنَّ الْحَقَّ مِقْطَعَهُ ثَلَاثٌ .. يَمِينٌ أَوْ نَفَارٌ أَوْ جِلَاءُ
فَذَلِكُمُ مَقاطِعُ كُلِّ حَقٍّ .. ثَلاثٌ كُلُّهُنَّ لَكُم شِفاءُ
معنى الأبيات التي استشهد بها الخليفة الثاني أنّ زهيراً استوفى في قوله جميع الطرق الممكنة لإظهار الحق، فهو إما يكون باليمين، أي “القسم”، وإما أن يكون بالمنافرة، فيرفع المتخاصمون أمرهم إلى من يحكم بينهم، وإما أن يكون بالجلاء، وهو انكشاف الأمر بالحجّة والدليل.

من كان يصدق أن مثل هذه المعاني الكبار تصدر عن شاعر جاهلي وقد صدق المصطفى صلى الله عليه وسلم حينما قال: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”
وقد ظهرت موهبة ابن الخطاب بعد ان استكمل ثقافته باللغة والشعر وأقوال العرب والقرآن في سردياته وقوالبه الموحية، مما رواه عن المصطفى صلى الله علبه وسلم. ومن أحب ما قرأت في سياق السرديات الذكية والبالغة التأثير حديثه الأشهر عن مثول جبريل عليه السلام أمام المصطفى صلى الله عليه وسلم والذي اختصر فيه كل قيم الاسلام في عدة جمل ومفردات فانظر عزيزي القارئ للمسرح الذي رسمه سيدنا عمر بهذه القصة القدسية والتي فاقت كل القوالب الفنية القديمة والمعاصرة فالكلمات على قدر المعاني، بلا ترف لفظي ولا تقعر ولا اغراق

” بينما نحن جلوس عند رسول الله ﷺ ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي ﷺ فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد، أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله ﷺ: الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا، قال: صدقت. فعجبنا له يسأله ويصدقه! قال: فأخبرني عن الإيمان. قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: صدقت. قال: فأخبرني عن الإحسان. قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قال: فأخبرني عن الساعة.

قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، قال: فأخبرني عن أماراتها. قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان، ثم انطلق فلبثت مليا، ثم قال: يا عمر، أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم”
غادرني الشاب شاكراً بعد أن سجل نصائحي وبعض الملاحظات في دفتره ومضى إلى حال سبيله وأكمل عمله في الاستديو ولم أقابله إلا بعد عامين، حين ذكرني بالحادثة والقصة وظننت أنه سيناولني مجموعته القصصية وكنت ارجو في نفسي أنه تدبر ما قلت قديماً، لكنه فاجئني قائلاً: أنا يا أستاذ لم أتدبر قصص سورة الكهف، بل حفظتها وقد حرضني جمال السورة أن أعكف على القرآن فحفظته، وحفظت كل أقوال سيدنا عمر وسيرته وكل ما قاله فيه الشعراء والكتاب إلى يومنا هذا، وأنا الآن والحمدلله إمام مسجد الحارة وصاحب حلقة في التحفيظ والتجويد والتفسير، يعني باختصار طياني وقرآني، وطياني هذه إشارة لتخصصه في المعمار. ومن ملاحظاته اللطيفة قبل أن يودعني: “والله يا أستاذ إن هذا الحديث الحكاية والخُطب والأخريات يؤهلن الفاروق للمنافسة في جائزة نوبل للآداب”

عزيزي القارئ إن الاشتغال بمهنة الصحافة والاعلام يمنح صاحبه موهبة الاستدعاء للشخوص والأحداث والمواقف فيطلون عليك دون استئذان حتى وإن مضت سنوات وسنوات. تذكرت حكاية هذا الشاب بحسرة حيث تملكني احساس عميق بأن مسرح هذا الحدث الودود لن يكون موجوداً أو شاخصاً في عاصمتنا المنكوبة، ففي ظني أن المعماري الشاب صار الآن نازح في مكانٍ مجهول، وتبعه مجلس الحفظ والتجويد والتفسير، ونالت الدانة العمياء حرم المسجد العتيق.
** حاشية:
عزيزي القارئ يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: “تهادوا تحابوا” وحديث سيدنا عمر عن جبريل عليه السلام هديتنا لكم هذا المساء، فالرجاء أن تحفظه أنت وأسرتك الكريمة وألا تنسونا من صالح الدعاء.

حسين خوجلي

إنضم لقناة النيلين على واتساب

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: المصطفى صلى الله علیه وسلم سیدنا عمر

إقرأ أيضاً:

توفيت بعده بـ40 يومًا.. حكاية حب نادرة جمعت محمد عوض وزوجته


في مثل هذا اليوم، الثاني عشر من يونيو، وُلد أحد أبرز رموز الكوميديا المصرية في القرن العشرين، الفنان الكبير محمد عوض، الذي امتلك موهبة فريدة جعلته يترك بصمة لا تُنسى في المسرح والسينما والتلفزيون. 

 

 

 

 

ورغم رحيله قبل أكثر من ربع قرن، لا تزال أعماله خالدة في ذاكرة الأجيال، تحمل نكهة خاصة من البهجة والضحك الأصيل. في هذا التقرير نستعرض محطات مهمة من حياة محمد عوض، من نشأته وبداياته الفنية، إلى أهم أعماله وحياته الشخصية، وانتهاءً بوفاته.

   النشأة والبدايات

وُلد محمد عوض في 12 يونيو 1932 بحي العباسية في القاهرة، وينحدر من عائلة مصرية من محافظة الشرقية. منذ صغره، أظهر شغفًا بالفن والأنشطة الاجتماعية، حيث انخرط في الكشافة وشارك في العديد من الرحلات والمسابقات الثقافية.

 

 

 

 

لم يكن الطريق نحو الفن مباشرًا، إذ درس في البداية الفلسفة بكلية الآداب جامعة عين شمس وتخرج عام 1957، قبل أن يتجه إلى دراسة الفن بشكل أكاديمي ويحصل على دبلوم المعهد العالي للفنون المسرحية عام 1962، ليبدأ بعد ذلك رحلته الحقيقية مع عالم التمثيل.

 

 

 

 

المسرح في حياة محمد عوض
 

بدأ محمد عوض رحلته الفنية من خلال المسرح الجامعي، حيث أسّس فرقة لتقديم مسرحيات الفنان الكبير نجيب الريحاني، وهو ما جذب انتباه العديد من المتخصصين في المجال. بعد تخرجه، انضم إلى فرقة الريحاني وفرقة المسرح الحر، وبدأ في تقديم العروض الكوميدية التي كانت تلامس هموم الناس بروح خفيفة.

 

 

 

 

قدّم عددًا من المسرحيات الناجحة التي أصبح بعضها من علامات المسرح المصري مثل: جلفدان هانم، أصل وصورة، العبيط، مطرب العواطف، نمره 2 يكسب، تجاوز عدد المسرحيات التي قدّمها 80 عملًا مسرحيًا، ما يجعله واحدًا من أكثر الفنانين المصريين إنتاجًا في المسرح.

  السينما والتلفزيون

دخل محمد عوض عالم السينما عام 1960 من خلال فيلم "شجرة العائلة"، ثم توالت أدواره السينمائية التي لاقت رواجًا كبيرًا، خصوصًا في فترة الستينيات والسبعينيات، ومن أبرزها: للنساء فقط، أميرة العرب، نمر التلامذة، بابا عايز كده، المساجين الثلاثة، السيرك

وفي التلفزيون، برز بدور شرارة في مسلسل "برج الحظ"، كما شارك في عدة مسلسلات مهمة مثل: البراري والحامول، بنت الحتة، زقاق السنجقدار

أما في الإذاعة، فشارك في البرنامج الشهير "ساعة لقلبك" وقدم من خلاله شخصيات كوميدية أضفت عليه مزيدًا من الشعبية.

حياته الشخصية

ارتبط الفنان محمد عوض بزوجته قوت القلوب عبد الوهاب، التي كانت زميلته في معهد الفنون المسرحية. أثمر هذا الزواج عن ثلاثة أبناء، لكل منهم حكاية خاصة مع الفن:

• عادل عوض مخرج سينمائي متزوّج من الفنانة راندا، وهو والد الفنانة جميلة عوض.

• عاطف عوض مصمّم استعراضات تزوج من رانيا فريد شوقي، وأنجب منها فريدة وملك.

• علاء عوض ممثل ظهر في عدد من الأعمال بالثمانينيات، لكنه اختفى عن الأضواء بعد مشاكل قانونية.

المعاناة والرحيل

في أواخر حياته، أُصيب الفنان محمد عوض بمرض السرطان، وظل يعاني منه لمدة سبع سنوات. رغم الألم، لم يتوقف عن العطاء الفني، وواصل المشاركة في أعمال درامية ومسرحية.

رحل عن عالمنا يوم 27 فبراير 1997 عن عمر ناهز 65 عامًا، ونعته الساحة الفنية والجمهور بحزن شديد، لم تتحمل زوجته فراقه، وتوفيت بعده بنحو 40 يومًا، لتُغلق صفحة رومانسية وإنسانية نادرة.
 

ترك محمد عوض إرثًا فنيًا غنيًا، يجمع بين الكوميديا الراقية، والتمثيل الجاد، والروح الوطنية، لم ينسَ واجبه تجاه بلده، فقد قدّم عروضًا مجانية في السد العالي دعمًا للعمال، وساهم في العمل التطوعي خلال حرب 1967.
 

مقالات مشابهة

  • قصة تحول دولة من خيمة إلى إمبراطورية.. حكاية المؤسس عثمان
  • وفد من حركة أمل زار الشيخ عودة بعد الاعتداء عليه: لمحاسبة المجرمين!
  • دعاء العودة للعمل.. احرص عليه لتيسير الأمور والرزق
  • توفيت بعده بـ40 يومًا.. حكاية حب نادرة جمعت محمد عوض وزوجته
  • حكاية صبية فلسطينية اسمها غريتا
  • أوليات العداء والعدوان ضد المشروع القرآني
  • دعاء قبل النوم للرزق في الصباح.. احرص عليه يوميا بعد صلاة العشاء
  • بعد الاعتداء عليه... وفد من حزب الله يطمئن لصحة الشيخ عودة وهكذا علّق الأخير
  • هل تأخير الصلاة عن وقتها بسبب العمل عليه إثم؟.. الإفتاء تجيب
  • وفد من مؤسسة المرجع فضل الله زار الشيخ عودي مستنكرا الاعتداء عليه