الدكتور عبد الله النعيم في فلسفته النقدية للتاريخ عالم اجتماع متجاوز للمؤرخ التقليدي
تاريخ النشر: 15th, December 2024 GMT
طاهر عمر
في هذا المقال سأحاول تسليط بؤرة الضؤ على منطقة مظلمة في محاولات النخب السودانية و هي جاهدة في جسر الهوة التي تفصل بين فلسفة التاريخ الحديثة و فلسفة التاريخ التقليدية و قد عجزت النخب السودانية عجز بائن أن تدرك في أي من المحطات تقف الآن و الظاهر للمتابع لكتابات المؤرخ التقليدي السوداني أنه قد فقد البوصلة تماما و لأسباب كثيرة أهمها غياب مراكز بحوث تكرس الجهود الفكرية للنخب و هي مبحرة في محيط الفكر لكي تحدد وجهتها المؤدية لطريق ينفتح على الفلسفة النقدية للتاريخ المفضية على مفهوم لإنسانية تاريخية و قد تبعها تغيّر مهم لكثير من المفاهيم مثلا مفهوم الدين التاريخي و مفهوم الإنسان التاريخي.
و صعوبة المهمة لنا تكمن في أن هناك محاولات باهرة من مفكريين سودانيين ترتقي أن تكون في مصاف المحاولات الجبّارة لكسر طوق الفكر التقليدي و الايمان التقليدي مثل الفكرة التي قدمها الأستاذ محمود محمد طه في فكره و قد وضعته في مقام المفكر السوداني الوحيد الذي يقترب من مفهوم الدين التاريخي كما تحدث عنه محمد أركون إلا أن النخب السودانية التقليدية في إجادتها للإنكفاء و الإلتواء قد إلتفت على الفكرة و أعادتها من جديد لحيز الفكر التقليدي السوداني المجافي لأفكار عقل الأنوار و أفكار الحداثة التي قد قضت على جلالة السلطة و قداسة المقدس كما يقول بودلير.
نقول إنكفاء النخب السودانية و إلتواءها الذي يعود بالتلميذ الى حيز المثقف التقليدي و أبهر مثال على ما أقول محاولات الدكتور النور حمد و هو من ألمع تلاميذ الأستاذ محمود محمد طه و أقربهم بأن يسير بفكر الأستاذ الى مستوى أرقى أو قريب من مستويات الفكر التي أنجزته الإنسانية التاريخية في مسيرها إلا أنه قد كبى في ارض المعركة و عاد ليغوص في حيز الفكر الأصولي و إستحالة التأصيل في تقديمه لفكرة المؤالفة بين العلمانية و الدين في لقاء نيروبي الذي خضعهم به الكوز خالد التجاني النور.
ربما تجد العذر لكل من النخب التي كانت في لقاء نيروبي و منهم كل من كمال الجزولي و رشا عوض و هما لا يخرجان من وحل الفكر الديني التقليدي و لكن لا يمكنك أن تجد العذر للدكتور النور حمد و هو تلميذ للأستاذ محمود محمد طه الذي قد تحدث في فكره عن الفكر الأصولي و إستحالة التأصيل قبل محمد أركون و عليه يكون من غير المتوقع من تلاميذ الإستاذ محمود محمد طه بأن يكونوا صيدا سهلا لخداع الكيزان مهما كانت درجة حيلهم كما حصل مع النور حمد في لقاء نيروبي.
بالتالي يصبح فكر الدكتور النور حمد في لقاء نيروبي مخيب للظن بل يمكنك أن تقول بأن دكتور النور حمد في مؤالفته بين العلمانية و الدين في لقاء نيروبي جاءت نتاج إمتلاكه لنصف الفكرة الجمهورية و أقصد نصف الفكر الجمهوري في إبداعات الأستاذ و إمتلاك الدكتور النور لنصف الفكرة و ليست الفكرة كاملة جعله يقدم فكرة المؤالفة بين العلمانية و الدين و يعجز بأن يسير بالفكرة كاملة الى نهاية الشوط كما سار بها الدكتور عبد الله النعيم و وصل لفكرة العلمانية و إمكانية فصل الدين عن الدولة في فكر ليبرالي واضح و هذا ما دعانا للحديث عن الفلسفة النقدية للتاريخ في فكر الدكتور عبد الله النعيم.
و فلسفة الدكتور عبد الله النعيم النقدية للتاريخ جعلته غير عابئ بنقد كثير من زملاءه الجمهوريين لفكره الذي قد أوصله لفكرة فصل الدين عن الدولة و هذا أيضا ما يجعلنا أن نقول أن فلسفة الدكتور عبد الله النعيم النقدية للتاريخ فلسفة تحمل في طياتها كثير من الأفكار التي لا تجد لها مثيل في خيال النخب السودانية بل تجعله متفوق حتى على أقارنه الجمهوريين.
و بسيره بالفكرة الى نهاية الشوط يكون الدكتور عبد الله النعيم قد فارق مواقع كثير من الجمهوريين أي تلاميذ الأستاذ محمود محمد طه و لا شك في نبوغهم و لكن لا تفصل بينهم و بين الكيزان إلا بضع خطوات فيما يتعلق بفصل الدين عن الدولة بشكل واضح كما تحدث عنه الدكتور عبد الله النعيم في فلسفته النقدية للتاريخ و بالمناسبة حتى فكرة العلمانية المحابية للأديان في حوار حول الدولة المدنية لمحمد ابراهيم نقد تعتبر متخلفة جدا و متأخرة عن فكرة الدكتور عبد الله النعيم في فكره الليبرالي الواضح و فصله للدين عن الدولة.
و بالتالي يحق لنا أن نقول أن للدكتورعبد الله النعيم فلسفة نقدية للتاريخ تختلف عن فهم المؤرخيين التقليديين السودانيين الرازحيين تحت نير فلسفة التاريخ التقليدية و تختلف فلسفة دكتور عبد الله النعيم النقدية عن أغلب أفكار النخب السودانية الغائصة في وحل الفكر الديني.
و عليه يمكننا القول أن فكر الدكتور عبد الله النعيم عن نظم الحكم في المجتمع و حديثه عن الديمقراطية الليبرالية كنظام حكم في المجتمع و فكرته عن فصل الدين عن الدولة تجعل منه عالم إجتماع قل نظريه من بين المفكريين السودانيين و بالمناسبة يذكرنا فكر الدكتور عبد الله النعيم بفكر منتسكيو في روح القوانيين و كان رأي ريموند أرون في أن أفكار منتسكيو في روح القوانيين و حديثه عن مجتمع تفصل فيه السلطات تجعل من منتسكيو عالم إجتماع من الدرجة الاولى و ليس قانوني تقليدي.
و كذلك دكتور عبد الله النعيم هو قانوني إلا أن فكرته عن الليبرالية و العلمانية و فصل الدين عن الدولة تجعل منه أي من الدكتور عبد الله النعيم عالم إجتماع لا يشق له غبار مثل منتسكيو في حديثه عن المجتمع في روح القوانيين لذلك يمكنك أن تسمي الدكتور عبد الله النعيم منتسكيو السودان في مفارقته لمدار القانوني السوداني التقليدي و مسار المؤرخ التقليدي السوداني و من هنا حق لنا أن نقول أن للدكتور عبد الله النعيم فلسفة نقدية حديثة للتاريخ.
مدخل دكتور عبد الله النعيم لفلسفته النقدية للتاريخ متشابه في أبعاده مع منهج هابرماس في حديثه عن السياسة و الديمقراطية و القانون و يختلف قليلا عن الفلسفة النقدية للتاريخ التي ينطلق منها ريموند أرون في بحثها عن أفق السياسة و علم الإجتماع و الفلسفة لذلك تأتي مقاربات الدكتور عبد الله النعيم في شكلها المعقد لنخب سودانية تقليدية لا تمتلك أي فلسفة نقدية للتاريخ و بالتالي تكون فلسفة عبد الله النعيم النقدية عصية على الفهم لأغلب النخب السودانية و هي رازحة في حيز فلسفة التاريخ التقليدية لأن فلسفة عبد الله النعيم تعتبر بعد رأسي يحتاج لقارئ مدرب و ليس قارئ ناعس لأن القارئ المدرب يمكنه أن يدرك أن فكر الدكتور عبد الله النعيم ينسبه لعلماء الإجتماع.
في ختام هذا المقال يلزمني التوضيح و هو أن فلسفة التاريخ النقدية للدكتور عبد الله النعيم في غوصها في السياسة و الديمقراطية و القانون تعتبر عصية على الفهم و تحتاج لتدريب هائل ينفتح على فن القراءة كما تحدث عنه الفيلسوف الفرنسي ادغار موران و هي خط موازي لفلسفة التاريخ النقدية التي تحدث عنها ريموند أرون و هي مقاربات بين الفلسفة و السياسة و علم الإجتماع و بالمناسبة عن فلسفة التاريخ النقدية التي تعالج علاقة علم الإجتماع و السياسة و الفلسفة نجد جهود كل من الدكتور الصديق الزيلعي و المرحوم الخاتم عدلان و هي جهود تقف جنبا لجنب مع جهود الدكتور عبد الله النعيم و ثلاثتهم آباء لأفكار الفلسفة النقدية للتاريخ في مفارقتها لفلسفة التاريخ التقليدية في السودان.
taheromer86@yahoo.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: النخب السودانیة محمود محمد طه حدیثه عن فی فکر
إقرأ أيضاً:
ضريبة الدخل على الأفراد بين فلسفة التفكير ومنهجية التطبيق
ضريبة الدخل على الأفراد هي إحدى أدوات السياسة المالية التي تهدف إلى تحقيق نمو جيد في الاقتصاد، ويتحقق ذلك بوجود سياسة نقدية فاعلة. وتُعدّ الضرائب عموما موردا فاعلا لتنويع مصادر الدخل من خلال إسناد الميزانية العامة للدولة بنسبة معينة من الإيرادات المالية، وفقًا لنسبة الضريبة المتفق عليها ودخول الأفراد المستهدفة.
وفي كل الأحوال، تُعدّ الضريبة أداة مالية سهلة التحصيل وسريعة التنفيذ، كما أن أثرها على المالية العامة أسرع مقارنة بأدوات السياسة النقدية التي تتطلب وقتا أطول لظهور نتائجها على المالية العامة والاقتصاد عموما. وبالتالي، يمكن الجزم بأن تطبيقها على المدى القصير أو المتوسط هو لتمويل بعض النفقات المتغيرة أو المرنة (flexible cost) في الميزانيات العامة، كالإنفاق على الجوانب الاجتماعية، على سبيل المثال لا الحصر: منافع الحماية الاجتماعية والبرامج الاجتماعية الأخرى.
وهنا نعتقد أن ضريبة الدخل على الأفراد هي أحد التوجهات الوطنية لتحقيق التكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع العُماني، من خلال فرض ضريبة على أصحاب الدخول المرتفعة بنسبة معقولة لا تتجاوز 5%، لتمويل مشروعات تنموية وبرامج اجتماعية تستهدف أصحاب الدخل المنخفض، كالنهج المتبع حاليا في تمويل صندوق الأمان الوظيفي وصندوق الحماية الاجتماعية.
ربما فكرة فرض ضريبة مباشرة على دخل الأفراد، بغض النظر عن مستوى دخولهم، ليست محبّذة لدى غالبية أفراد المجتمع، لأسباب مرتبطة بحداثة الفكرة أو بنمط التفكير المبني على الادخار لفترات طويلة أو لوضع خطط تنفيذية مبنية على حجم معين من الأموال. إلا أن فلسفة التفكير لا بد أن تطرح العديد من الأسئلة التي ينبغي على الفرد توظيف العلم والعقل للإجابة عنها، من بينها: آلية تمويل البرامج الاجتماعية التي تُحدث ربكة في التخطيط المالي، بسبب توسّع الفئات المستهدفة في منظومة الحماية الاجتماعية أو زيادة الأعداد الحالية في منافع الحماية.
كذلك، فإن تأدية ضريبة الدخل المرتفع، خصوصا على الأفراد، هو شعور إنساني نبيل، واستشعار لسنة رسول الله - في الزكاة، كما ورد في الحديث الشريف عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: «إن الله عز وجل فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم».
أرى أن منهجية تطبيق ضريبة الدخل على الأفراد لا بد أن تُفرض عند تحقيق نمو اقتصادي معيّن، بحيث يكون نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي مبلغ (8.000) ريال عُماني، بزيادة مقدارها (1.000) ريال مقارنة بالمبلغ الحالي المقدر بنحو (7.000) ريال عُماني سنويا لكل فرد، حتى تشمل ضريبة الدخل على الأفراد أكبر عدد من أفراد المجتمع، من باب المساواة في فرض الضريبة، على غرار ضريبة القيمة المضافة التي شملت جميع فئات المجتمع.
ولا ضير أن يتم تأجيل تطبيق ضريبة الدخل على الأفراد سنتين أو ثلاث سنوات، حتى يتم استهداف المقدار المناسب لنصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي. كما أقترح البدء بفرض ضريبة الدخل على الأفراد ممن يتجاوز دخلهم السنوي أكثر من (40.000) ريال عُماني بنسبة لا تتجاوز 5%، على أن تُفرض بنسب متفاوتة، ترتفع بنسبة 1% عن كل (10.000) ريال إضافي على الـ (40.000) ريال، على سبيل المثال: تُفرض ضريبة بنسبة 6% على من يتجاوز دخله السنوي (50.000) ريال، و7% لمن يتجاوز دخله (60.000) ريال، وتُثبت النسبة عند 10% لمن يتجاوز دخله (90.000) ريال وأكثر.
وفي ظني، فإن عدد من يتجاوز دخله السنوي أكثر من (40.000) ريال لن يتجاوز 2% من إجمالي سكان سلطنة عُمان، مما يجعل الأثر المتوقع من تطبيق ضريبة الدخل على الأفراد محدودا.
وأقترح الآتي:
الاشتغال على مصطلح تدوير المال مجتمعيا، والاستعانة بالجهات ذات العلاقة لغرس مفهوم التكافل الاجتماعي.
بث رسائل إيجابية ومطمئنة لأفراد المجتمع عن ضريبة الدخل على الأفراد، وتقليل التهويل من ضررها مجتمعيا. المضي في تطبيق ضريبة الدخل على الأفراد، لضمان وجود مصدر تمويل مستدام للبرامج الاجتماعية، وتحقيقا للتكافل المجتمعي، وعدم تأثر صرف مبادرات الحماية الاجتماعية مع التقلبات الاقتصادية الناتجة عن المتغيرات العالمية.
إطلاق منصة إلكترونية تحوي جميع البيانات عن دخل الفرد، لمعرفة مقدار الضريبة المستحقة، من خلال ربط إلكتروني بجميع مداخيله.
ضرورة الاشتغال على نظام ضريبي محكم، يضمن عدم لجوء البعض لممارسات غير مسؤولة، مثل التهرب الضريبي بكافة أنواعه.
رفع الوعي المجتمعي بأهمية تعزيز الجوانب الإيجابية، والاعتماد على المصادر الرسمية في تحليل الأخبار والبيانات عند التفاعل مع التوجهات الحكومية، وعدم الانسياق خلف المعلومات المغلوطة أو المضللة.