خطبتا الجمعة من المسجد الحرام والمسجد النبوي
تاريخ النشر: 18th, August 2023 GMT
مكة المكرمة
أوصى فضيلة إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور أسامه بن عبدالله خياط، المسلمين بتقوى الله وعبادته، والتقرب إليه بطاعته بما يرضيه وتجنب مساخطه ومناهيه.
وقال فضيلته ” إن التقوَى وصيَّةُ الله للأولين والآخرين: ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ﴾ ، وإن المرءَ لا يزالُ بخيرٍ ما اتَّقَى الله، وخالَفَ نفسَه وهواه، ولَم تشغَله دُنياه عن أُخراه “.
وأوضح فضيلته إنَّه إذا كان العلم لدى كثير من الناس، قِوام الحياة، وأساس النهضات، وعِماد الحضارات، ووسيلة التقدُّم للأفراد والمجتمعات، فإنه لدى أولي الألباب من عباد الرحمن فوق ذلك كله: إذ هو طريقٌ يسهِّل الله به دخول الجنَّة دار السلام، والحظوة فيها بالنعيم المقيم، الذي لا ينفد ولا يبيد ، وقد بيَّن ذلك وأرشد إليه، رسول الهدى-صلوات الله وسلامه عليه- بقوله: “وَمَن سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فيه عِلْمًا، سَهَّلَ اللَّهُ له به طَرِيقًا إلى الجَنَّةِ” ، مشيراً إلى أن العلم سبب السعادة في الحياة الدنيا وفي الآخرة، قال معاذ بن جبل –رضي الله عنه-: “العلم حياةُ القلوبِ من الجهلِ ، ومصابيحُ الأبصارِ من الظُّلَمِ ، يبلغ العبدُ بالعلم منازلَ الأخيارِ ، والدَّرجاتِ العلى في الدنيا والآخرة ، به تُوصَلُ الأرحامُ ، وبه يُعرَفُ الحلالُ من الحرامِ ، وهو إمامُ العملِ ، والعملُ تابعُه ، يُلهَمُه السُّعداءُ ، ويُحرَمُه الأشقياءُ”.
وأفاد إمام وخطيب المسجد الحرام أن الله سبحانه وتعالى نوه بفضل العلم وأهله، ورفعة منزلتهم، وعُلوِّ كعبهم، وشرف مقامهم، ونفى المساواة بينهم وبين غيرهم، حيث قال عزَّ اسمه: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾. و جعل سبحانه للعلماء مقام الخشية الحقَّة منه؛ لأن العلم أرشدهم إلى كمال قدرته، وعظيم قوته، وبديع صفاته، فزادهم ذلك هيبة منه، وإجلالًا له، فقال عزَّ من قائل: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾. وشبه عز وجل العالم بالبصير، والجاهل بالأعمى والأصم، كما شبه كذلك العلم والإيمان بالنور، والجهل والكفر بالظلمات، ونفى المساواة بينهما كما تنتفي المساواة بين الظلِّ والحَرور الذي يُتضرَّر به، وكما لا يستوي الأحياء بنور العلم والإيمان، ولا الأموات الذين نَسوا الله وأعرضوا عن نوره، فأمات الله قلوبهم، فهي بذلك لا تتأثر بموعظة، ولا تستجيب لداعي الهدى، حيث قرن جل وعلا أهل العلم بذكر الملائكة في شهادتهم بالوحدانية لله تعالى، باستيقانهم أنَّه لا معبود بحق إلا الله، فعبدوه حق العبادة، ونَفَوا عنه الشركاء، فقال: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾.
وأكد فضيلته أنَّه لفضل قد بلغ الغاية، ولما لا يكون كذلك، وقد بيَّن رسول الله-صلَّى الله عليه وسلَّم- أنَّ العلماء هم ورثة الأنبياء حقًّا؛ لأنَّ الميراث الذي تركه الأنبياء هو العلم، فقال عليه الصلاة والسلام: ” مَن سلَكَ طريقًا يلتَمِسُ فيهِ علمًا ، سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طريقًا إلى الجنَّةِ، وإنَّ الملائِكَةَ لتَضعُ أجنحتَها لطالِبِ العلمِ رضًا بما يصنعُ وإنَّ العالم ليستغفِرُ لَهُ مَن في السَّمواتِ ومن في الأرضِ ، والحيتانِ في جوف الماءِ ، وإنَّ فضلَ العالمِ على العابدِ كفَضلِ القمرِ ليلة البدرِ على سائرِ الكواكبِ ، وإنَّ العُلَماءَ ورثةُ الأنبياءِ، إنَّ الأنبياءَ لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا وإنَّما ورَّثوا العلمَ فمَن أخذَهُ أخذَ بحظٍّ وافرٍ” ، إلى غير ذلك من نصوص الوحيين، الدالَّة على فضل العلم وأهله، وشرف منازلهم، وكريم مآلهم، مما كان له أعظم الآثار وأعمقها في نفوس السلف الصالح-رضوان الله عليهم-.
وأشار الدكتور أسامه خياط إلى أنه يتعين على طالب العلم أن يذكر أنَّه إذا كان المؤمن القوي خير وأحبّ إلى الله من المؤمن الضعيف، فإن من القوَّة المحبوبة عند الله تعالى، قوَّة المسلم في علمه وعمله، تلك المتمثلة في كمال المحبة لهذا العلم، ودوام المدارسة له، والاستكثار من البحث في دقائقه، والكشف عن غوامضه، والاستعانة على التمكُّن من أزمِّته بالعمل به وتعليمه، ولا ريب أنَّ قوَّة المسلم هي قوَّة لأمَّته، وأنَّ كلَّ ما يحرزه من تفوُّق، أو يصيبه من نجاح، أو يبلغه من توفيق، عائدٌ أثره عليها لا محالة ، والخرص على العناية بهذا العلم، بتصحيح النيات، التي هي قوام قبول الأعمال، وتعاهد الإخلاص لله تعالى فيه، وبذل أسباب التمكُّن منه، ورعايته حق رعايته، في طلبه وتحمُّله، وفي تعلُّمه وإشاعته، والعمل بما يقتضيه، فإن العمل هو ثمرة العلم، وعماد الانتفاع به، ومبعث الرِّفعة التي ذكرها الله بقوله: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾.
وذكر فصيلته أنه وإن كان المراد بالعلم الميراث النبوي، وهو: علم الكتاب والسنة وما له تعلقٌ بهما، إلا أنَّ الحق أنه شامل أيضًا لكل علم تنتفع به الأمة، ويعلو به قدرها، ويعزُّ به جانبها، ويكثر به خيرها، ويضطرد به تقدُّمها، وتأخذ به مكانها بين الأمم، ويكون سببًا في رسم الصورة الصحيحة الحقة لهذا الدين، في ربطه بين الدين والدنيا، وسعيه لكافة شعائره وشرائعه؛ لتحقيق السعادة للمسلم في الحياتين ، وإن في العناية بعلوم الحياة على اختلاف ألوانها: عنايةً بعلوم الكتاب والسنة، ببيان جملةٍ وافرة من معانيهما، بالاستعانة بما تقدمه تلك العلوم من فوائد وقواعد، وما توفره من وسائل، وما تستند إليه من كشوفٍ ومخترعات ، والحرص على الاشتغال بكل علمٍ نافع، وكل عملٍ صالح، تبلغون به رضوان الله، والرفعة لأمتكم في حياتكم الدنيا.
وفي المدينة المنورة قال فضيلة إمام وخطيب المسجد النبوي الشريف الشيخ الدكتور خالد بن سليمان المهنا في خطبة الجمعة اليوم إن الله تعالى خص نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بخصائص ميزه بها على جميع الأنبياء والمرسلين وجعل له شرعة ومنهاجًا أفضل شرعة وأكمل منهاج ، كما جعل أمته خير أمة أخرجت للناس فهم يوفون سبعين أمة هم خيرها وأكرمها على الله من جميع الأجناس فجمع الله لأمته بخاتم المرسلين وإمام المتقين وسيد ولد آدم أجمعين ما فرقه في غيرهم من الفضائل وزادهم من فضله أنواع الفواضل ألا وإن من فضائل هذه الشريعة العظام ومحاسنها الجسام كثرة سبل الخير وتنوع أعمال البر التي يتقرب بها كل مؤمن إلى مولاه غنياً كان المؤمن أم فقيرًا قوي كان أو ضعيفاً.
وأضاف فضيلته أن من رحمته سبحانه وفضله على عباده أن رزقهم كلهم ثم خص بعضهم بالغنى ليبلوهم بالشكر وليتقربوا إليه بالزكاة والصدقات فتعظم أجورهم وتطهر أموالهم وتزكو نفوسهم وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ثم إنه سبحانه وهو البر الرحيم شرع لعباده من القربات ما يشرك به الفقير أخاه الغني فيصير بمنزلته في حسن الثواب ، أخرج الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه من حديث الصحابي الجليل أبي ذر جندب بن جنادة الغفاري رضي الله عنه أن ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم قال : ( أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون ؟ إن لكم بكل تسبيحة صدقة وكل تكبيرة صدقة وكل تحميده صدقة وكل تهليله صدقة وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن المنكر صدقة وفي بضع أحدكم صدقة ) قالوا يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر قال ( أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر ).
واستطرد الشيخ المهنا يقول إن نصوص الوحيين الشريفين دلت على سعة مفهوم الصدقة وأن ما كان منها مالياً فإنه غير محصور في الفقير والمسكين وإن كان فضل الصدقة عليهما ثابتاً جزيلاً وأن ثمت أبواباً وسبلاً يلج منها العبد المنفق مهما قلت جدته إلى ديوان المتصدقين ويلحق به ركب ذوي اليسار المنفقين منها الإنفاق على العيال والأهل بل والإنفاق على النفس قال عليه الصلاة والسلام ( إذا أنفق الرجل على أهله نفقة يحتسبها فهي له صدقة ) وقال صلى الله عليه وسلم ( دينار أنفقته في سبيل الله ودينار أنفقته في رقبة ودينار أنفقته على مسكين ودينار أنفقته على أهلك أعظمها أجراً الذي أنفقته على أهلك ) ، ومن وجوه الصدقة أن يغرس المسلم غرساً أو يزرع زرعاً فينتفع به إنسان أو حيوان قال عليه الصلاة والسلام ( ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه إنسان أو طير أو بهيمة إلا كان له به صدقة ).
واختتم فضيلة إمام وخطيب المسجد النبوي الشريف الخطبة بقوله إن كل ما أعان المسلم أخاه عليه من جلب نفع أو دفع ضر أو إزالة مكروه أو أدخل السرور عليه كل ذلك صدقة قال عليه الصلاة والسلام ( إفراغك من دلوك في دلو أخيك صدقة وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة وتبسمك في وجه أخيك صدقة وإماطتك الحجر والشوك والعظم عن طريق الناس لك صدقة وهدايتك الرجل في أرض الضالة صدقة ) وقال عليه الصلاة والسلام ( والكلمة الطيبة صدقة ) ؛ وقال أبو الدرداء رضي الله عنه ما تصدق رجل بصدقة أفضل من موعظة يعظ بها جماعة فيتفرقون وقد نفعهم الله بها.
المصدر: صحيفة صدى
كلمات دلالية: المسجد الحرام المسجد النبوي خطبتا الجمعة صلى الله علیه وسلم إمام وخطیب المسجد رسول الله ل الله
إقرأ أيضاً:
ما حكم إقامة صلاة الجمعة في الزوايا المتقاربة؟.. الإفتاء توضح
أجابت دار الإفتاء المصرية، عن سؤال ورد اليها عبر صفحتها الرسمية بموقع التواصل الإجتماعي فيسبوك، مضمونة:"ما حكم إقامة صلاة الجمعة في الزوايا المتقاربة؟ فإنه يوجد في بعض القرى مسجد كبير يسع المصلين، ويوجد في الشوارع الجانبية زوايا تُصلَّى فيها الصلوات الخمس، فهل يجوز إقامة الجمعة في هذه الزوايا؟".
لترد دار الإفتاء موضحة: أن الأصل أن تصلى الجمعة في المسجد الكبير الذي يسع المصلين، فإن ضاق أو بعدت المسافة بحيث لا يستطيع المصلُّون الذهاب إليه إلا بمشقة فحينئذ تجوز صلاة الجمعة في الزوايا ولا حرج فيها، على أنَّه ينبغي مراعاة ضوابط الجهات المنظمة لإقامة الجمعة في الزوايا.
وأضاف أن صلاة الجمعة من الفضائل التي اختص الله بها الأمة المحمدية، وشَرَّفها بها، وحَثَّها على السَّعْي إليها والاجتماع فيها والاحتشاد لها، ومما يزيد في فضلها وشَرَفها ثبوت فرضيتها بقوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الجمعة: 9]؛ وذلك توخِّيًا لمعنى الترابط والائتلاف بين المسلمين.
قال العَلَّامة أبو الحسن ابن بَطَّال في "شرح صحيح البخاري" (2/ 475، ط. مكتبة الرشد) متحدثًا عن فضيلة هذا اليوم وهداية الله هذه الأمة إليه: [يوم الجمعة ذَخَرَه لهذه الأمة، وهداهم له تَفَضُّلًا منه عليها؛ ففضلت به على سائر الأمم] اهـ.
مكان إقامة صلاة الجمعة
من الأحكام الخاصة بصلاة الجمعة -ومنها صورة السؤال- مكان إقامتها، أي: المكان الذي تُؤدَّى فيه، والحديث في هذه المسألة يأتي من جهتين:
الأُولى: من حيث حكم صلاة الجمعة في الزوايا.
الثانية: من حيث حكم تعدد الجمعة في البلدة الواحدة.
حكم صلاة الجمعة في الزوايا
أمَّا مِن حيث حكم صلاة الجمعة في الزوايا، فإنَّ صلاة الجمعة في الزوايا جائزةٌ، إذ ليس من شروط صحتها المسجد، بل تجوز في الفضاء الخالي من البناء وفي الزوايا وفي المصلَّى، فعن أبي هريرة رضي الله عنه: "أَنَّهُمْ كَتَبُوا إِلَى عُمَرَ يَسْأَلُونَهُ عَنِ الْجُمُعَةِ؟ فَكَتَبَ: جَمِّعُوا حَيْثُمَا كُنْتُمْ". رواه ابن أبي شيبة في "مُصنَّفه".
وهذا يدل على أَنَّ إقامة الجمعة تجوز في أي مكان من القُرَى والـمُدن والفِنَاء وغير ذلك مِن الأماكن.
قال العظيم آبادي في "عون المعبود" (3/ 281، ط. دار الكتب العلمية): [وذهب البعض إلى اشتراط المسجد، قال: لأنها لم تقم إلا فيه، وقال أبو حنيفة والشافعي وسائر العلماء: إنه غير شرط، وهو قوي إن صحَّت صلاته صلى الله عليه وآله وسلم في بطن الوادي، وقد روى صلاته صلى الله عليه وآله وسلم في بطن الوادي ابن سعد وأهل السير، ولو سلم عدم صحة ذلك لم يدل فعلها في المسجد على اشتراطه] اهـ.
وعلى هذا الذي ذكرناه ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة، على اختلاف بينهم في التفاصيل، فقد اشترط الحنفيةُ الـمِصْر وتوابعه، والمراد بالـمِصْر -كما نَصَّ عليه الكاساني في "البدائع" (1/ 260، ط. دار الكتب العلمية) وصَحَّحه-: كل بلدةٍ فيها أسواقٌ ووالٍ وعالمٌ يُرْجَع إليه في أمور الدِّيْن. أمَّا الشافعية فإنهم يشترطون أن تكون صلاة الجمعة في حدود الأبنية، بينما يرى الحنابلة اشتراط القُرْب مِن البنيان.
قال الإمام أبو بكر الحدَّادي في "الجوهرة النيرة" (1/ 88، ط. المطبعة الخيرية) عند الكلام على أحكام صلاة الجمعة: [(قوله: أو في مُصَلَّى الـمِصْر) لأنّ له حكم الـمِصْر، وليس الحكم مقصورًا على الـمُصَلَّى، بل تجوز في جميع أفنية الـمِصْر، وقَدَّروه بمنتهى حد الصوت] اهـ.
وقال الإمام محيي الدين النووي في "المجموع" (4/ 501، ط. دار الفكر) عند كلامه أيضًا على أحكام صلاة الجمعة: [قال أصحابنا: ولا يشترط إقامتها في مسجد، ولكن تجوز في ساحة مكشوفة بشرط أن تكون داخلة في القرية أو البلدة معدودة من خطتها، فلو صَلَّوْهَا خارج البلد لم تصح بلا خلاف، سواء كان بقرب البلدة أو بعيدًا منه، وسواء صلوها في كِنٍّ أم ساحة؛ ودليله أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «صَلُّوا كَمَا رَأيتُمُوني أصَلِّي»، ولم يُصلِّ هكذا] اهـ.
وقال الإمام أبو السعادات الـبُهُوتي في "كشاف القناع" (3/ 337، ط. وزارة العدل السعودية): [(وتصح) الجمعة (فيما قارب البنيان من الصحراء، ولو بلا عذر) فلا يشترط لها البنيان؛ لقول كعب بن مالك: "أسعدُ بن زرارة أولُ مَن جَمَّعَ بنَا في هَزَم النَّبيت من حَرَّة بني بَيَاضة في نقيعٍ، يقال له، نَقيع الخَضِمات. قال: كم كنتم يومئذ؟ قال: أربعون رجلًا" رواه أبو داود، والدارقطني. قال البيهقي: حسن الإسناد صحيح. قال الخطابي: حَرَّة بني بياضة على ميل من المدينة. وقياسًا على الجامع. لكن قال ابن عقيل: إذا صلى في الصحراء استخلف من يصلي بالضعفة. و(لا) تصح الجمعة (فيما بَعُد) عن البنيان، لشبههم إذن بالمسافرين] اهـ.
وخالف فيما سَبَق المالكيةُ، حيث إنهم يشترطون في صحة الجمعة كونها في الجامع خاصة، لا في فِنَاءٍ أو ما شابهه، ومعنى الجامعية المشروطة هنا -كما حَقَّقه الدُّسُوقي في "حاشيته على الشرح الكبير" (1/ 374، ط. دار الفكر)-: مجرد التعيين والتحبيس للصلاة فيه.
وفَرَّعوا على ذلك: أنَّه لا تقام جمعتان في مِصْرٍ واحدٍ إلَّا في المسجد الجامع ولو تَعدَّدت، فالصلاة تكون صحيحة لأقْدَم الجامِعَين، وفي ذلك يقول أبو عبد الله الخَرَشي في "شرحه على المختصر" (2/ 74، ط. دار الفكر): [والجمعة للعتيق (ش) جواب عن سؤال مُقَدَّر، كأن قائلًا قال له: قد شَرطتَ في الجامع أن يكون مُتحِدًا فما الحكم إذا تعدَّد؟ فأجاب بأنها عند التَّعدُّد في البَلَد الواحد أو ما في حكمه صحيحة لأهل الجامع العتيق مِن تلك الجوامع، باطلة لأهل الجديد] اهـ.
لكن عموم الآية الواردة في صلاة الجمعة يدل على مذهب الجمهور؛ إذ ورد فيها قوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الجمعة: 9]، فلا وجه لخصوص المسجدية فيها.
ويُدَلِّل على ذلك أيضًا: حديث ابن عباس رضي الله عنهما: إنَّ أوَّلَ جُمُعةٍ جُمِّعت بعدَ جُمُعةٍ في مسجدِ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم في مسجدِ عبدِ القَيسِ بجُواثَى مِن البَحرين. رواه البخاري في "الصحيح". و"جُوَاثَى" -بضم أَوَّله وفتح الـمُثَلثَّة-: قريةٌ من قُرَى البَحرينِ.
وحديث أبي هريرة رضي الله عنه أيضًا: "أَنَّهُمْ كَتَبُوا إِلَى عُمَرَ يَسْأَلُونَهُ عَنِ الْجُمُعَةِ؟ فَكَتَبَ: جَمِّعُوا حَيْثُمَا كُنْتُمْ". رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه".
فالحديثان يدلان على جواز إقامة الجمعة في غير المسجد الجامع، قال العَلَّامة زين الدين ابن رجب في "فتح الباري" (8/ 138، ط. مكتبة الغرباء) عند شرح حديث مسجد عبد القيس: [والمقصود: أنهم جَمَّعوا في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قرية جواثاء، وإنما وقع ذلك منهم بإذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمره لهم... فيدل ذلك على جواز إقامة الجمعة بالقُرَى، وأنه لا يشترط لإقامة الجمعة الـمِصْر الجامع] اهـ.
وقال الإمام ابن المنذر في "الإشراف" (2/ 119، ط. مكتبة مكة الثقافية): [وقد روينا عن عطاء أنه قيل له: أهل البصرة لا يسعهم المسجد الأكبر؟ قال: لكل قوم مسجد يجتمعون فيه، ويجزئ ذلك عنهم من التجميع في المسجد الأكبر] اهـ.
وقال الإمام سراج الدين البلقيني في فتاويه المسماة بـ "التَّجَرُّد والاهتمام بجمع فتاوى شيخ الإسلام" (1/ 246، ط. أروقة) مُعلِّقًا على هذا الأثر عن سيدنا عمر: [وهذا ظاهرٌ في جواز التعدد] اهـ، ثم عَدَّد أوجه جواز الـجُمَع في غير المسجد الجامع.
وجواز الجُمَع على هذا النحو مروي أيضًا عن عدد من السلف، فعن ابن جريج، أنَّه قال: قلت لعطاء: أرأيت أهل البصرة لا يَسَعهم المسجد الأكبر كيف يصنعون؟ قال: "لكل قوم مسجد يجمعون فيه، ثم يجزئ ذلك عنهم" أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه".
وروي عن عمرو بن دينار قال: "إِذَا كَانَ الْمَسْجِدُ يُجَمَّعُ فِيهِ الصَّلَاةُ فَلْتُصَلَّ فِيهِ الْجُمُعَةُ" رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه". وأَمَّا ما ورد عن الأئمة الفقهاء مِن منع تَعدُّد الجمعة، فإنَّ ذلك كان لمعنى خوف تَفَرُّق الكلمة على الخلفاء، وقد زال هذا المعنى، كما قَرَّره الإمام السراج البُلْقِيني في "فتاويه" (1/ 247).
يضاف لذلك أنَّ جمهور العلماء أجازوا تَعدُّد الجمعة في المكان الواحد ما دامت مقاصد الجمعة قد تحقَّقت، وهي ظهور شعائر الدِّين، والموعظة، وتأليف بعض المؤمنين ببعض لتراحمهم وتوادهم، كما أورد ذلك تقي الدين السُّبْكي في "فتاويه" (1/ 174، ط. دار المعارف).
غير أنَّ منهم مَن أطلق التَّعدُّد ومنهم من قَيَّده بالحاجة، وعلى قول مَن قَيَّد بالحاجة لا يمتنع إقامتها أيضًا؛ لأنَّ مجتمعنا الآن لا يخلو من هذه الحاجة المذكورة في كلام الفقهاء، فكبار السن والمرضى في كل مكان يشق عليهم الإتيان للمسجد الجامع، وكذلك من أصحاب المهن من يضيق عليه وقته فيضطر إلى أن يصلي في أقرب مكان له، وغير ذلك من الحاجات المتداعية الآن.
حكم تعدد الجمعة في أماكن متعددة من البلدة الواحدة
ينضاف إلى ما سبق أنَّ الجمعة تقام في بلاد المسلمين في البلدة الواحدة في أماكن متعددة من غير نكير من أحدٍ، فكان ذلك إجماعًا.
قال الإمام زين الدين ابن نُجَيْم في "البحر الرائق" (2/ 154، ط. دار الكتاب الإسلامي): [يصح أداء الجمعة في مصر واحد بمواضع كثيرة، وهو قول أبي حنيفة ومحمد، وهو الأصح؛ لأن في الاجتماع في موضع واحد في مدينة كبيرة حَرَجًا بَيِّنًا، وهو مدفوع] اهـ.
وقال الإمام النَّفراوي في "الفواكه الدواني" (1/ 260، ط. دار الفكر): [وإن تعدد: فالجمعة للعتيق، إلا أن يكون البلد كبيرًا؛ بحيث يعسر اجتماعهم في محل ولا طريق بجواره تمكن الصلاة فيها فيجوز حينئذ تعدده بحسب الحاجة، كما ارتضاه بعض شيوخ المذهب، ولعل الأظهر حاجة من يغلب حضوره لصلاتها ولو لم تلزمه كالصبيان والعبيد؛ لأن الكل مطلوب بالحضور ولو على جهة الندب، وينبغي أن يلحق بذلك وجود العداوة المانعة من اجتماع الجميع في محلٍّ واحدٍ، بل لو قيل: إن هذا أولى لجواز التعدد لما بَعُدَ] اهـ.
قال الشيخ الكشناوي في "أسهل المدارك" (1/ 333، ط. دار الفكر) مُعَلِّقًا عليه: [وفي بعض تقييدات هذا المحل لبعض الأفاضل أنه قال: "ورجح المتأخرون جواز تعدد الجمعة، وعليه العمل عندنا بالمغرب، وهو الصواب"، إلى آخر ما قال اهـ] اهـ.
وقال الإمام العَبَّادي في "حاشيته على الغرر البهية" (2/ 50، ط. المطبعة الميمنية): [والظاهر أنَّ مِن الحاجة ضيقَ محلٍّ واحدٍ عن الجميع، فلو تعددت المساجدُ، ولم يكن فيها ما يسع الجميع، فالظاهر أنَّه لا كراهة من حيثُ التعددُ للحاجة، لكن هل الأفضل حينئذ فعلُها في مساجد البلد لشرف المساجد، أو في الصحراء احترازًا من تعدد جماعتها؟ فيه نظر، ولا يبعد أنَّ الأقربَ الأوَّلُ؛ لشرف المساجد، ولا أثرَ للتعدد مع الحاجة إليه] اهـ.
وقال الإمام الـمُوفَّق ابن قُدامة في "الكافي" (1/ 331، ط. دار الكتب العلمية) في معرض حديثه عن تعدد الجُمَع: [وإن احتيج إلى أكثر منها جاز؛ لأنها تُفعل في الأمصار العظيمة في جوامع من غير نكير، فصار إجماعًا، ولأنها صلاة عيد جاز فعلها في موضعين مع الحاجة كغيرها] اهـ. فعُلِم مِن ذلك وتأكَّد أَنَّ عمل المسلمين قد استمر على تعدد الجمع في البلاد، وأن القول بالمنع يؤدي إلى حرجٍ على الأمة وزيادة مشقةٍ عليها، والله سبحانه يقول: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج: 78]، كما أنه يؤدي إلى إبطال صلاة خلق كثير في أعصار متعددة.
الرجوع للجهات المختصة بتنظيم الصلاة في الزوايا
تجدر الإشارة إلى أنَّ تَعدُّد الجُمَع وإن كان جائزًا مِن حيث الحكم الشرعي، إلَّا أنه ينبغي الرجوع إلى الجهات المختصة بذلك، فالأمر موكولٌ إليها لتنظيم الصلاة في هذه الزوايا حسب المصلحة المقتضية وَفْق ما ترتئيه هذه الجهات.
الخلاصة
بناءً عليه وفي واقعة السؤال: فإنَّ الأصل أن تصلى الجمعة في المسجد الكبير الذي يسع المصلين، فإن ضاق أو بعدت المسافة بحيث لا يستطيع المصلُّون الذهاب إليه إلا بمشقة فحينئذ تجوز صلاة الجمعة في الزوايا ولا حرج فيها، على أنَّه ينبغي مراعاة ضوابط الجهات المنظمة لإقامة الجمعة في الزوايا.