التعبيرية في الأدب.. من صرخة الإنسان إلى عالم جديد مثالي
تاريخ النشر: 24th, June 2025 GMT
تظل التعبيرية في الأدب على اختلاف المكان والزمان تشكل نزعة شمولية صارخة تطمح إلى الكشف بطريقة درامية ومؤثرة عن معاناة الإنسان المعاصر، وتنعكس آثارها على النتاج الأدبي بشتى أنواعه، وتمتد لتشمل الفنون الأخرى كالرقص والرسم والموسيقى.
والتعبيرية بمعناها اللغوي تعني تصوير ما يعتمل في النفس الإنسانية من مشاعر محيطة، وإحساسات مقهورة واعية وغير واعية، يتضح من خلالها جوهر الإنسان وحقيقة ذاته الحية بأنماطها الغريزية والخلقية، ولا يعني ميلنا إلى التفسير اللغوي المبسط للتعبيرية أنها نزعة انطوائية مرتدة إلى الداخل، وإنما هي من أرحب الحركات الفنية استيعاباً لأعباء الأنا الجماعية، واستقطاباً لما يحيط بها من إرهاصات وتحديات يجتمع على تجسيد انعكاساتها أكثر من كاتب وفنان.
ولتوضيح هذه الظاهرة المرحلية الغامضة في الأدب العالمي، لا نجد أنسب من هذه الفقرة التي يسوقها الدكتور عبد الغفار مكاوي على لسان الناقد "هرمان بار" الذي كان من أبرز المعاصرين للحركة التعبيرية ومن أكثر الداعين لها حماساً، بقول بار "الإنسان في هذه الفترة يصرخ بحثاً عن نفسه، والعصر كله أصبح صرخة واحدة تنطق بالمحنة، والفن كذلك يصرخ معه ويطلق صيحته في أعماق الظلام، يستغيث يستنجد بالروح" وهذه هي التعبيرية.
لقد اختلف النقاد ومؤرخو الأدب في تحديد مكان نشأة التعبيرية وزمانها كحركة فنية قائمة بذاتها، إلا أن معظمهم يقر بأن ألمانيا هي المنبع الأول لهذا النهج الفكري الوجداني الصارخ، والذي يرفض جميع المعالجات السطحية لخلفية القضايا الإنسانية ومكوناتها الداخلية.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2التشادي روزي جدي: الروایة العربية طریقة للاحتجاج ضد استعمار أفريقياlist 2 of 2“أسرار خزنة” ترصد صدمة الثقافة البدوية بالتكنولوجياend of listفبعد أن ظهرت نظريات فرويد ونضجت تجاربه في ميدان التحليل النفسي، أخذ نفر من الكتاب الساخطين يلتقطون باهتمام لاهف هذه الاستكشافات الباطنية ليوظفوها في كتاباتهم، كما أخذوا يغوصون في أعماق النفس البشرية، ويحيلون انطباعاتهم المضطربة والمتوترة إلى صرخات واحتجاجات معبرة تتصدى بعنف لانجراف الحضارة التكنولوجية المادية، هذه الحضارة التي أحالت القيم والمثل الأخلاقية إلى أرقام ومعادلات مدرجة في جداول الربح والخسارة من وجهة نظر الأفكار النفعية.
إعلانوبهذا فقد ظهرت التعبيرية أواخر القرن الـ19 دعوة إلى الاهتمام باختزانات النفس الاجتماعية والسياسية، ثم تحددت هذه الحركة بشكل أقوى وأعم في الربع الأول من القرن العشرين، حيث اندفع المزيد من الشباب الألمان ما بين 1915 و1925 ليرفعوا أصواتهم عالياً، وليحشدوا صيحاتهم التعبيرية في جو دخاني فاسد زاخر بالصراعات القومية الطاحنة، والتيارات المادية الضاغطة، والويلات الناجمة عن الحرب العالمية الأولى.
ففي مجال الشعر ظهرت في ألمانيا 3 أصوات شابة جعلت من القصيدة لوحة صارخة الألوان، متسمة بالإيحاء، مليئة بالاحتجاج على زخمة الواقع، غنية بالشوق إلى عالم يوتوبي جديد يتسم بالمثالية والنقاء المنشود.
وتتمثل هذه الأصوات البارزة في أشعار كل من "جورج هايم" و"جورج تراكل" و"جو تغريدبن" ونكتفي في هذه العجالة أن نورد مقطعاً من قصيدة "هايم" قام بترجمتها ملكاوي في كتابه "التعبيرية" وذلك للتدليل على طبيعة الشعر التعبيري في مقطع يصف فيه الشاعر آلهة الحرب في الطغيان والجبروت، فيقول:
"نهض من رقاده
من طال نومه
نهض من الأقباء المنخفضة العميقة
يقف في الشفق ضخماً ومجهولاً
يسحق القمر في اليد السوداء"
أما في مجال الرواية والقصة القصيرة، فمع أن الإبداع التعبيري كان أقل أثراً من غيره وأبطأ نظراً لما تحتاجه طبيعة العمل القصصي من أناة وتدبر، ومع ذلك فقد برز في هذا الميدان عدد لا بأس به من كتاب القصة بتقدمهم كل من "ألفريد دوبلين" و"كاريل آينشتاين" و"فرانز كافكا" الذي كان على اتصال وثيق بالروائيين التعبيريين، بالإضافة إلى "روبروت موزيل" و"توماس مان".
المسرح التعبيريأما على صعيد المسرح، فقد كانت الحركة التعبيرية أكثر بروزاً وتبلوراً، حيث أعلن رواد المسرح التعبيري ثورتهم على الدراما الكلاسيكية المقتدية بكل من "ليسنج" و"غوته" و"شيلر" كما رفضوا المذهب الطبيعي المتمثل في المنهج الواقعي عند "إبسن".
وإن كان للتعبيريين دور ظاهر في حقل الشعر والقصة، فإن دورهم على خشبة المسرح كان أعظم أثراً في بث روح الحيوية والإثارة في طبيعة الأداء المسرحي الذي طالما سيطرت عليه الرتابة المملة، والقيود التقليدية المتحكمة في التأليف والإخراج، فجاء حصاد الكتاب التعبيريين في حقل الدراما فائضاً بكل دفعات الاحتجاج المنتصرة لإرادة النفس الإنسانية، ولمعاناته العاطفية والذهنية.
ولم يبدأ هؤلاء المسرحيون المجددون من الفراغ، فقد وجدوا في أعمال الكاتب المسرحي "جورج بوشنر" ما يغذي طموحهم كما وجدوا في إنتاج "سترند برغ" و"فرانك ديكند" الكثير من الصراعات الداخلية والاتجاهات التحليلية الزاخرة بالرموز التعبيرية والمونولجات المتعددة الطويلة.
وقد جاءت المسرحية التعبيرية مستمدة من دوي الحرب وصخب التقدم التكنولوجي وحمى التعصبات القومية المتصاعدة، ومن الطبيعي أن يتميز هذا اللون من المسرحيات بالرفض الصارخ والتمرد على الواقع المعاش، والحنين الجارف إلى عالم هادئ جديد يستعيد فيه الإنسان جوهره المفقود.
إن قراءة أولية لبعض المسرحيات التعبيرية تجعلنا نتوصل إلى أن المسرحية التعبيرية قد تشكلت على خشبة المسرح بسمات فنية جديدة تقوم على التجريب، وبوسعنا أن نلمس هذا التجديد والتجريب في بعض المسرحيات التي تركها "بروتولد برخت" لعشاق المسرح التعبيري رغم انشغاله بالشعر الملحمي والمسرح الذهني، وهي "طبول الليل" و"أحراش المدن" و"القروش الثلاثة".
إعلانكما يشير الدكتور مكاوي -في دراسته للمسرح التعبيري في ألمانيا- إلى أن المسرحية الثلاثية "غاز" للكاتب "جورج كايزر" تعتبر نموذجاً فريداً للمسرحية التعبيرية الغنية بالمواقف المتصارعة والإيحاءات العميقة الموحية.
وفي كتابه "أشهر المذاهب المسرحية" يتعرض الناقد دريني خشبة لأبرز السمات الفنية التي تمتاز بها المسرحية التعبيرية عن غيرها، ويهمنا أن نزاوج بهذا الصدد بين ما أورده خشبة وبين ما تكوَّن لدينا من انطباعات واستنتاجات قرائية لنماذج من المسرح التعبيري على صعيد العمل الدرامي الذي أصبح في مقدمة الفنون الأدبية.
تدور أحداث المسرحية التعبيرية عادة حول شخصية محورية تحمل في ذاتها مشكلة تنعكس آثارها السيكولوجية على حركات البطل ومنطوقاته. أما بقية الشخصيات فهي بعيدة عن الضوء متحركة في الظل، وإذا ظهرت فهي تظهر ظهوراً جانبياً، يأتي مساعداً لدور الشخصية المحورية وخادماً للفكرة العامة.
وفي المسرحية التعبيرية يستريح البطل لالتقاط الأنفاس، ومن ثم يواصل الحركة في الطريق المرسومة والمؤدية إلى الخلاص من الأزمة الحادة والتي يكون البطل المحوري قد طرح أبعادها على الجمهور منذ البداية، وبشكل عاطفي مثير يهدف إلى إيجاد الاندماج بين المسرح والجمهور.
ولا يعني هذا أن المسرحية التعبيرية -لدى محاولاتها لامتلاك وجدان الجمهور- تعتمد على بهرجة شكلية أو تصنُّع ميلو درامي في الأداء، وإنما تأتي بطبيعتها مشحونة بالصرخات العميقة المتزنة والإيماءات الصادقة المصحوبة بإيقاع معبر إلى جانب الحيل المسرحية والأقنعة والتحولات الضوئية من جانب إلى آخر، حيث يشكل عنصر الإضاءة ركيزة أساسية في إخراج المسرحية التعبيرية، فيتعاون كل من المؤلف والمخرج ومهندس الإضاءة على تسليط الأضواء على البطل المحوري، وذلك بما يتناسب مع الحالة النفسية التي يمر بها، فنرى المشاهد حافلة بالإنارة والتعتيم، ورسم الخيالات والظلال والأشباح، حيث يساعد ذلك كله في الإيحاء بأسرار النفس وخلجاتها المكبوتة.
وفي معرض التمرد الحر على الكلاسيكية الرتيبة، ونتيجة للاحتجاج الشامل على المدرستين الطبيعية والرمزية الغامضة، لم يكن كتاب المسرح التعبيري في حاجة إلى شخصيات فردية خاصة وتقديمها بأسمائها المحددة وبصورتها الطبيعية، ولذلك نراهم قد مالوا إلى رسم الصورة النموذج للشخصية، واكتفوا بإسداء الألقاب عليها كالأب والابن والرجل والشبح والرئيس وهكذا.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات التعبیریة فی
إقرأ أيضاً:
المملكة تختتم مشاركتها في معرض سيئول الدولي للكتاب 2025
المناطق_واس
اختتمت المملكة مشاركتها في معرض سيئول الدولي للكتاب 2025، الذي أُقيم خلال الفترة من 18 إلى 22 يونيو، في مركز كويكس للمؤتمرات والمعارض بالعاصمة الكورية سيئول، بمشاركة وفد رسمي تقوده هيئة الأدب والنشر والترجمة، وممثلين عن عدد من الجهات الثقافية السعودية.
وشهد الجناح السعودي طوال أيام المعرض حضورًا لافتًا من الزوّار والمهنيين في مجالات النشر والترجمة وصناعة الكتاب، حيث قدّم برنامجًا ثقافيًا شاملًا تضمّن ندوات حوارية، ولقاءات مهنية، إلى جانب عرض مجموعة من الإصدارات الأدبية المترجمة التي تُبرز تطورات المشهد الأدبي في المملكة.
أخبار قد تهمك الأمير عبدالعزيز بن سعود يستقبل سفير سلطنة عمان المعيّن حديثًا لدى المملكة 22 يونيو 2025 - 7:38 مساءً وزارة السياحة تعلن عن تجاوز حاجز الـ100 مليون سائح محلي ووافد للسنة الثانية على التوالي في عام 2024 22 يونيو 2025 - 5:17 مساءًوأكد الرئيس التنفيذي لهيئة الأدب والنشر والترجمة الدكتور عبداللطيف بن عبدالعزيز الواصل، أن هذه المشاركة عكست التحوّل الذي يشهده القطاع الثقافي السعودي، وما يحمله من محتوى نوعي يعزز من الحضور الأدبي للمملكة في الأسواق العالمية، لا سيما في قارة آسيا، ويسهم في فتح آفاق جديدة للتعاون الثقافي والمعرفي.
وأشار إلى أن الهيئة تعمل، من خلال مشاركاتها الدولية، على تمكين صناعة النشر المحلية، وتحفيز حركة الترجمة، وتوسيع نطاق الشراكات المهنية مع دور النشر والمؤسسات الثقافية في مختلف الدول، تأكيدًالمكانة المملكة كمركز ثقافي متجدد ومؤثر.
وضم الجناح السعودي عددًا من الجهات الثقافية التي عكست التنوع الثقافي في المملكة، بقيادة هيئة الأدب والنشر والترجمة، وبمشاركة مكتبة الملك عبدالعزيز العامة، ومكتبة الملك فهد الوطنية، وجمعية النشر السعودية، مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية، وجامعة الأمير سطام بن عبدالعزيز، وشركة ناشر للنشر والتوزيع، إلى جانب عدد من دور النشر المحلية.
وتأتي مشاركة المملكة في معرض سيئول الدولي للكتاب في سياق التوجّه الإستراتيجي لتعزيز حضورها في المحافل الثقافية الدولية، والتعريف بالهوية الأدبية المتجددة للمملكة، والتفاعل مع التجارب العالمية في مجالات الأدب والنشر والترجمة، وذلك ضمن مستهدفات رؤية السعودية 2030 الرامية إلى بناء قطاع ثقافي مزدهر ومستدام.
يُذكر أن المملكة حلّت ضيف شرف في معرض سيئول الدولي للكتاب 2024، في مشاركة متميزة جسّدت من خلالها هيئة الأدب والنشر والترجمة ثراء الثقافة السعودية وتنوعها، وقدّمت برنامجًا ثقافيًا متكاملًا ضمّ ندوات، وعروضًا فنية، وأنشطة تفاعلية، حظيت بإقبال لافت من الجمهور الكوري، وأسهمت المشاركة في تعزيز حضور الأدب السعودي في كوريا الجنوبية، وتوطيد جسور التعاون الثقافي والمعرفي بين المملكة وكوريا الجنوبية.