الجغرافيا السياسية كانت قاسية على سوريا وهي أشد قسوة على الثورة!
تاريخ النشر: 26th, December 2024 GMT
جاء في "معجم البلدان" لياقوت الحموي أن مكان دمشق كان دارا لنوح -عليه السلام-، في حين كان منشأ خشب السفينة في جبل لبنان، وأنّ ركوبه في السفينة يوم الطوفان كان في ناحية البقاع، وقد رُوي عن كعب الأحبار أن أوّل حائط وُضع في الأرض بعد الطوفان حائط دمشق وحرّان.
وكما اتصلت جغرافيا الشام قديما، اتصلت حديثا رغم تقسيمها إلى دول وحدود سياسية، لكنها لم تمنع أن تتردد أصوات التغيير شمالا وجنوبا في خط متصل لا تعوقه الحدود الحديثة، فكان أول حائط ينقض بعد طوفان الأقصى هو حائط دمشق المنيع الذي احتمى به حكم عائلة الأسد طيلة 54 عاما، ليلحق بحائط غلاف غزة الذي انقض صبيحة السابع من أكتوبر ليُفجِّر زلزالا يبدو أنه سيُعيد صياغة هلال المشرق من غزة إلى طهران، وربما أبعد من ذلك مما قد تُسفر عنه الأيام.
وفي تجلٍّ لظلال الجغرافيا الواسعة التي تغرق فيها الشام، وفي مقابلة مع قناة محلية تركية، قال وزير الخارجية التركي هاكان فيدان إنه أجرى مجموعة من الاتصالات مع نظرائه الروس والإيرانيين لإقناعهم بعدم اعتراض التحرك العسكري الذي بدأته المعارضة السورية.
على ما يبدو فقد كان هذا مفتاحا ضروريا لنجاح الحملة العسكرية التي شنَّتها قوى المعارضة السورية صبيحة السابع والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني، فيمكنك فقط أن تُلقي نظرة على الخريطة السياسية لسوريا قبل ذلك التاريخ لتُدرك مدى أهمية النفوذ الخارجي في حسم مصير سوريا، إذ كانت الحدود الداخلية المرسومة على خريطتها ليست للحدود الإدارية للمحافظات أو المدن، بل كانت لمناطق النفوذ المقسمة بين مجموعات محلية ترعاها أطراف خارجية، على رأسها روسيا وإيران.
إعلانففي حين كان النظام يسيطر على العاصمة دمشق ومحافظات الساحل وبعض مدن الوسط، وتنتشر على أراضيه قوات روسية تضم ضباطا وطائرات وسفن راسية على موانئ طرطوس واللاذقية، بالإضافة إلى قوات من الحرس الثوري الإيراني وعناصر من حزب الله وجماعات مسلحة أخرى قادمة من مناطق مختلفة، تنقسم باقي الأراضي بين المعارضة المدعومة بدرجات متفاوتة من تركيا في الشمال والشمال الغربي، وأخرى مدعومة من الولايات المتحدة في مناطق من الجنوب، وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) المتمركزة في الشرق مع قوات أميركية تدربها وتقدم لها السلاح والمشورة، وأخيرا تتمركز إسرائيل في مرتفعات الجولان التي تحتلها منذ عقود.
قد تبدو الخريطة مشبعة بالوجود الدولي، ومع ذلك فإن هذا النفوذ يُعد أقل كثافة مما كان عليه الحال منذ 2013 حين تشرذمت الخريطة السورية وتمدد تنظيم الدولة الإسلامية وتعددت التدخلات الدولية، وصولا إلى 2020 حين وقَّعت روسيا مع تركيا اتفاق وقف إطلاق النار، لتستقر خريطة سوريا على النحو الأخير الذي انهار سريعا بعد عملية "ردع العدوان".
تبلغ مساحة سوريا نحو 187 ألف كيلومتر مربع، وتحيط بها تركيا شمالا بحدود تبلغ 900 كيلومتر مربع، ثم العراق والأردن في الشرق بحدود 600 و400 كيلومتر، وإلى الجنوب تتماس مع "إسرائيل" بحدود 83 كيلومترا، ثم لبنان بحدود 400 كيلومتر، ويمتد شريط ساحلي في منتصف الجهة الشرقية منها بطول 190 كيلومترا، يُمثِّل خط اتصالها البحري بالدول الأكثر نفوذا بها، فرنسا سابقا ثم روسيا.
هذه الجغرافيا التي تقع على خطوط التماس الجيوسياسي بين قوى إقليمية وعالمية مَثَّلت عبر تاريخها إحدى أهم ساحات الصراع على النفوذ، فما الذي يميز الجغرافيا السياسية السورية فيجعلها محط أنظار قوى خارجية؟ وكيف أثَّر عامل الجغرافيا في مسار الثورة السورية؟
قدرُ الجغرافيا السورية"ربما تكون الجغرافيا صماء أحيانا، ولكن ما أكثر ما كان التاريخ لسانها، ولقد قيل بحق إن التاريخ ظل الإنسان على الأرض بمثل ما أن الجغرافيا ظل الأرض على الزمان".
بهذه الكلمات المفتاحية العميقة عبَّر المفكر المصري الراحل جمال حمدان عن أثر الجغرافيا في صناعة أحداث التاريخ، ويُنسب للقائد العسكري الفرنسي نابليون بونابرت أنه قال: "الجغرافيا قدر الأمم"، وتلك حقائق متكررة، فلطالما حددت الجغرافيا مصائر أمم وشعوب.
إعلانبيد أنه لا توجد نظرية واحدة تشرح التفاعل بين الجغرافيا والسياسة، بل كان هذا السؤال دائما مجالا للجدل الواسع الذي أنتج العديد من التفسيرات والتصورات. ويقدم أستاذ العلوم السياسية فيل كيلي أطروحة تحاول جمع شتات الفرضيات المتعلقة بالجيوبوليتيك في مجموعة من المنصات. والمنصة، بحسبه، هي صندوق افتراضي يضعه المحللون لتوصيف منطقة معينة.
فمثلا تصف منصة "قلب الأرض" المنطقة الوسطى للدولة أو القارة، التي تُمثِّل مركز السيطرة السياسية. وتصف منصة "رقعة الشطرنج" وجود خليط بين أطراف متحالفة وأخرى متصارعة (دول أو جماعات) في منطقة واحدة، ما يعني تميزها بالصراع والانقسام المستمر الذي لا يتوقف إلا بخلق ديناميكية توازن قوى للحفاظ على استقلالية المنطقة أمام التدخل الخارجي.
وتصف منصة "رقعة الشطرنج" عادة نمط العلاقات بين الدول في منطقة ما، لكن عند تطرُّقه لوصف نمط العلاقات بين جماعات محلية داخل إطار الدولة، قدَّم مصطلح "الحزام المتداعي" (Shatterbelt) الذي يميز ديناميكية الصراع في المستوى الداخلي، بسبب الانقسام السياسي أو الطائفي أو الطبقي، الذي قد يؤدي إلى تدخل قوى خارجية.
وعودا إلى سوريا، تُعد العاصمة دمشق بمنزلة "قلب الأرض" في الحالة السورية، وهي وفق الباحث في شؤون الشرق الأوسط آراش رايزنيجاد تظهر في الخريطة كأنها حصن صغير منعزل تربطه طرق متفرقة إلى بقية البلاد، ويحيط بها مجموعة من المناطق المختلفة عنها جغرافيا التي عادة ما ارتبطت تاريخيا بجهات خارجية أكثر من ارتباطها بدمشق.
وتقع حلب في أقصى الشمال، وهي بوابة تجارية طبيعية جاذبة للقوى الخارجية عن طريق البر، مما أكسبها مكانة منافسة لدمشق، وفي الغرب ثمة شريط ساحلي عُدَّ في فترات تاريخية متعددة ملجأً للأقليات الدينية في البلاد، وعادة ما كان نقطة الاتصال مع القوى الأجنبية المهيمنة في سوريا، مثل فرنسا خلال فترة الانتداب ثم روسيا عام 2015. وفي الشرق ناحية نهر الفرات، ارتبطت مناطق الرقة ودير الزور والحسكة تاريخيا بالموصل أكثر من ارتباطها بدمشق.
إعلانأما جنوبا فقد كانت الجبال ملجأ أيضا لبعض الطوائف الدينية. هذا التشرذم الجغرافي والهوياتي في آنٍ واحد، فضلا عن وقوع سوريا بين قوى كبرى عبر التاريخ، جعلها -وفق رايزنيجاد- تعاني غالبا من صعوبة في تكوين هوية وطنية شاملة، وسهولة في تعرضها للتدخل الخارجي.
وتقع سوريا أساسا على منصة رقعة الشطرنج، حيث العديد من دول الجوار التي تجد فيها مصالح حيوية تريد الحفاظ عليها، وتحولت لاحقا إلى منصة الحزام المتداعي، حين انفجرت التناقضات الداخلية لفسيفساء المجتمع السوري، المقسمة على أساس ديني وعِرقي بين السنة والشيعة والعلوية والعرب والأكراد والدروز وغيرهم، وخارجيا بتحالفها مع بعض جيرانها في مواجهة إسرائيل، ومشكلاتها مع لبنان، واختلاف نظامها السياسي عن القائم في الأردن، إلى جانب علاقاتها المتأرجحة مع تركيا، خاصة بعد عام 2011، فضلا عن التدخل الإيراني ثم الروسي بعد الثورة.
وهذا ليس مستغربا، فموقع سوريا الجغرافي جعلها منذ ولادة النظام الإقليمي الحديث في أعقاب الحرب العالمية الأولى في موقع القلب من الصراع على الشرق الأوسط.
ثم بعد نشأة النظام العسكري في سوريا في الخمسينيات وإلى سنوات الثورة، كانت سوريا أيضا ساحة صراع دولي وإقليمي على النفوذ، انخرطت فيه في أوقات مختلفة الولايات المتحدة ودول أوروبية والاتحاد السوفياتي ثم روسيا وإسرائيل وتركيا ومصر والعراق وإيران والسعودية والأردن وغيرها.
من الجهات الأربع، ثمة حدود ملتهبة قابلة للاشتعال، في الشمال تشترك تركيا مع سوريا في حدود تفصل بين مناطق تقطنها أغلبية كردية، ومنذ انهيار الدولة العثمانية ورسم الحدود السياسية الحديثة تصاعدت المسألة الكردية، وتنامى نشاط الحركات الانفصالية حتى باتت تُمثِّل مصدرَ توترٍ مستداما لكلا البلدين.
إعلانثم الحدود مع العراق الذي كان في عهد صدام حسين الخصم اللدود لنظام الأسد (الأب)، ثم بعد سقوط صدام أصبحت الحدود بين البلدين في حالة سيولة، تارة أمام الميليشيات الشيعية، وتارة أمام تنظيم الدولة الإسلامية الذي أزالت جرافاته الحدود بين البلدين في ذكرى توقيع اتفاقية سايكس بيكو في يونيو/حزيران عام 2014، ثم الجولان المحتل وخطوط التماس مع إسرائيل، ثم لبنان الذي لم تهدأ علاقاته مع سوريا ولم تبتعد عن عهد التوتر منذ تأسيس البلدين.
في خضم رحلة بشار الأسد لتأمين نفسه ونظام حكمه وتعزيز سلطته، اعتمد سردية مواجهة التدخلات الخارجية لمنح نفسه حق إسقاط كل المحاذير السياسية والقانونية والدولية، فضلا عن الأخلاقية، من أجل الحفاظ على "الدولة"، لكن المفارقة أنه في سبيل ذلك ضحَّى باستقلالية الدولة وبمقدراتها، وبنيتها التحتية، ومنازل المواطنين وممتلكاتهم، وجزء كبير من الشعب نفسه.
وأدى استعمال القتل الوحشي من قِبَل النظام، الذي بلغ حد إسقاط الأسلحة الكيميائية والبراميل المتفجرة على المناطق المدنية، إلى خلق حلقة مفرغة من انعدام الأمن. فممارسة النظام للعنف دفعت بالمعارضة إلى ممارسة عنف مضاد، ثم اتخذه النظام ذريعة إضافية لتصعيد العنف مرة أخرى، وعودة المعارضة للرد بعنف مقابل، نتج عن ذلك تآكل شرعية النظام وتراجع قدراته العسكرية بسبب صعوبة التجنيد أو نفاد الإمدادات، ما مهَّد الأرضية لاستدعاء أطراف خارجية بُغية حسم الصراع لصالح النظام.
واستغلالا للتناقضات المجتمعية لصالحه، اعتمد النظام في استدامة بقائه على نخبة من الأقلية العلوية والبعثيين الموالين له في الأجهزة العسكرية والأمنية، وهو ما كان يحتاج إلى رافعة دولية تعزز نفوذ تلك الأقلية وتُعوِّض تهاوي الدعم الجماهيري الذي كان قائما بفعل القبضة الأمنية المُحْكَمة، منحته إيران بصورة كبيرة هذه الرافعة، كما لجأ إلى ما يسمى دبلوماسية "الأبواب الخلفية"، فعلى سبيل المثال اتخذ من تصنيع وتجارة الكبتاغون، التي قادها ماهر الأسد شقيق الرئيس، أداة للضغط على دول عربية لإعادة تأهيله دوليا وإرجاعه إلى "الحضن العربي".
وفي مقالة بعنوان "العوامل الجيوسياسية في الحرب الأهلية السورية"، يقول الباحثان كيم هوا تان وأليروبندي بيرودين إن ما حدث في سوريا كان مرتبطا بتداخل عوامل تتعلق بالوضعية السياسية الداخلية وتداخلها مع الأوضاع الإقليمية ثم الدولية، في مزيج معقد ومركب كانت الجغرافيا الفريدة لسوريا عاملا رئيسيا فيه.
إعلانفبعد تحول الثورة السورية إلى صراع مسلح، واجه نظام الأسد نقصا حادا في العامل البشري بسبب الإصابات والانشقاقات والتهرب من الخدمة العسكرية. كما أسهم التراجع الحاد للاقتصاد السوري في عدم قدرة النظام على حكم المناطق التي يسيطر عليها وتمويل جهوده العسكرية، ما جعل من الصعب على النظام حسم الحرب لصالحه.
كما أن تصلُّب النظام ورفضه إنهاء الصراع عبر المفاوضات، بوصفه نظام أقلية يرى تسليم السلطة سلميا خطوة انتحارية، إلى جانب تفكك المعارضة وتعدد مطالبها، زاد من تعقيد المشهد الداخلي، ما أطال عمر الصراع وفتح الباب أمام لجوء النظام للاستعانة بالدعم الخارجي لضمان بقائه ومسارعة دول أخرى لإسناد قوى المعارضة، كلٌّ حسب مصلحته.
كما خلط ظهور تنظيم الدولة أوراق الساحة الإقليمية، بوصفه جماعة مسلحة مرتبطة بالصراع في عدة مناطق أخرى بخلاف سوريا، ما شتَّت أهداف بعض الداعمين الدوليين وحوَّل هدفهم الأول من مساندة قوى المعارضة إلى القضاء على التنظيم.
ووجدت هذه الأوضاع الداخلية والإقليمية المعقدة صداها على الساحة الدولية، فإحجام الغرب عن دعم قوى المعارضة والدخول مباشرة في الصراع رغم انتقادهم لمنظومة تحالفات الرئيس السوري يرجع جزء منه إلى الخوف من وقوع أسلحة إستراتيجية بيد مجموعات لا يثق الغرب في موقفها المستقبلي تجاه إسرائيل، مما أنتج في المحصلة انفساح المجال أمام روسيا لتعزيز حضورها في الشرق الأوسط وأمام إيران لاستكمال بناء ما سمّته محور الممانعة.
التعقيد الذي فرضته الجغرافيا السورية لم يقف عند بنيتها الداخلية أو حدود دول الجوار، بل ثمة أصداء ترددت حتى بلغ مداها نقاطا بعيدة في جغرافيا العالم، حيث تقع سوريا في القلب من الشرق الأوسط، وهي منطقة تماس بين قارات العالم، من آسيا برا نحو تركيا وأوروبا، وبحرا نحو الساحل الجنوبي لأوروبا وشمال أفريقيا.
كما أنها كانت ولا تزال مركزا تجاريا مهما، يتحكم في ممرات ومضائق بحرية إستراتيجية على طول البحر الأحمر وفي غرب المتوسط. هذه الوضعية الخاصة للشرق الأوسط جعلت الفاعلين الدوليين والقوى العظمي تعتبره مجالا رئيسيا لحسم النفوذ وتسوية الصراعات ومعايرة موازين القوى.
بالنسبة للولايات المتحدة، كانت سوريا أحد أهداف العقيدة الخارجية الأميركية لحفظ أمن إسرائيل عبر دعم حكومة أقلية، أو إشغالها في صراع الهيمنة مع العراق أو مع مصر، وأخيرا بتوظيفها بوصفها منصة لابتزاز الخصوم في المنطقة. وتحركت روسيا بالمقابل من الولايات المتحدة على عدة أصعدة، فلطالما حرصت أن تقدم نفسها "شريكا نزيها" لدول الشرق الأوسط لتحسين سمعتها الدولية، لكن حرصها على مواجهة النفوذ الأميركي في حوض البحر المتوسط الذي تعتبره الخاصرة الجنوبية الرخوة للبحر الأسود دفعها لكسر تلك الصورة والتحرك عسكريا لإسناد النظام السوري.
إعلانويقول أستاذ العلوم السياسية في جامعة ابن خلدون التركية، علي أصلان، إن روسيا كانت تهدف من وراء دعم النظام السوري للوصول إلى المياه الدافئة ومنها إلى أفريقيا، وهو ما يُعد حيويا بالنسبة لها خاصة بعد خسارة حليفها الليبي في شمال أفريقيا، معمر القذافي، إبان ثورة فبراير/شباط 2011.
ويضيف أصلان أن روسيا عرضت على النظام القديم في سوريا حمايته أمام شعبه مقابل حصولها على قواعد عسكرية برية والسماح لقطعها البحرية بالرسو على موانئ الساحل الغربي لسوريا.
أما في إيران، فعلى ما يبدو أن دروس التاريخ لا تزال ماثلة أمام أنظار صناع السياسة الخارجية، فخسائر بلادهم في القرن التاسع عشر لصالح الإمبراطوريتين الروسية والبريطانية تُشكِّل حافزا لاستعادة مكانتها في المنطقة. ومن أجل ذلك صنع النظام الإيراني مزيجا معقدا من الإرث الفارسي القديم والقومية الإيرانية الحديثة إلى جانب السردية الشيعية من أجل التعبئة لاستعادة نفوذها في الشرق الأوسط والقوقاز، كما يقول أستاذ دراسات الشرق الأوسط أمين تارزي.
ومع اندلاع الثورة في سوريا، وتزايد حاجة النظام السوري إلى حلفاء من الخارج، سارعت إيران لملء الفراغ في سوريا وخلق عمق إستراتيجي ووصْل نفوذها في العراق بلبنان عبر سوريا، مما يُسهِّل عملية إمداد الأسلحة إلى حزب الله وتعميق حصارها لإسرائيل من جهة، وتثبيت مكانتها إقليميا من جهة أخرى، دون تصدير حدودها للخطر.
وتقاطعت السياسة الخارجية الإيرانية مع نظيرتها التركية في المنطقة، فقد فرضت الجغرافيا على الدولتين مساحات للتنافس الجيوسياسي تاريخيا، كانت سوريا دائما واحدة منها. يقول أصلان إن السياسة الخارجية التركية تحولت منذ قدوم حزب العدالة والتنمية من العزلة التي فرضتها الأنظمة العسكرية خلال القرن الماضي إلى الانفتاح على محيطها الحيوي ومجالها التاريخي.
إعلانوترى تركيا في سوريا مساحة لاحتواء النفوذ الإيراني واحتواء التوسع الإسرائيلي المحتمل في المنطقة نحو حدودها، كما أن عملية الانفتاح التي سعت لترسيخها خلال العقدين الماضيين تقوم أساسا على إيجاد حكومات صديقة، خاصة في سوريا القريبة منها جغرافيا.
تتشابه سوريا إذن في طبيعتها الجيوسياسية بالنسبة للشرق الأوسط مع بولندا بالنسبة لأوروبا، فهي أرض منبسطة دون حدود طبيعية محاطة بمجموعة من الدول الصديقة والعدوة، وتقع في تقاطعات قوى كبرى ترى فيها عمقا إستراتيجيا داخل أوروبا. وحتى تتغلب سوريا على خصائص جغرافيتها السياسية كان عليها دائما الاستعانة بحليف موثوق أو التحول إلى قوة عسكرية تفرض نفوذها بالقوة، وكما كانت الجغرافيا السورية عبئا على نظام الأسد وعلى الثورة، فهي لا تزال عبئا أيضا على السلطة الجديدة وأحد أهم التحديات التي ستواجهها.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات أبعاد قوى المعارضة الشرق الأوسط فی المنطقة فی الشرق فی سوریا ما کان التی ت
إقرأ أيضاً:
تعرف على السلطان الأحمر الذي أسس الدولة البوليسية في سوريا
كان رجل الظل الذي أدار دفة السياسة في سوريا، بعد إعلان استقلالها عام 1946، مرورا بفترة الحكم المدني الديمقراطي، ثم عهد الانقلابات العسكرية المتتالية، إلى إعلان الوحدة مع مصر، تحت مسمى الجمهورية العربية المتحدة، وانتهاء بانفصالها عن مصر عام 1961.
إنه عبد الحميد السراج -الذي يلقب بـ"الرجل الصامت" وارتبط اسمه بصورة الدولة البوليسية، التي كرسها لقمع معارضيه والتنكيل بهم، بل وتصفيتهم جسديا.
سماه الكاتب غسان زكريا "السلطان الأحمر"، كما وصفه الكاتب المصري صلاح عيسى -في مقال له- بأنه "مهندس" مشروع الوحدة الاندماجية بين مصر وسوريا، ويد الرئيس المصري آنذاك جمال عبد الناصر الطولى التي حارب بها التمدد الشيوعي، و"مشاريع التحالف الإمبريالية"، في كل من العراق والأردن ولبنان.
المولد والنشأةولد السراج في مدينة حماة عام 1925، والتحق بمدرسة الدرك، ثم الكلية الحربية في حمص، وبدأ حياته المهنية في مخفر "باب الفرج" بمدينة حلب، وفي عام 1947 التحق بجيش الإنقاذ الذي حارب في فلسطين، حيث تعرف إلى حسني الزعيم، الذي قاد أول انقلاب عسكري على الرئيس شكري القوتلي في 1949، وعيّن السراجَ مرافقا عسكريا له.
شارك السراج في انقلاب أديب الشيشكلي على اللواء سامي الحناوي، وعندما أصبح الشيشكلي رئيسا في 1953 أرسل السراجَ في دورة عسكرية مكثفة إلى باريس.
إعلانوبعد الإطاحة بالشيشكلي في 1954، تعرض السراج لمضايقات من الضباط الانقلابيين، واكتفى رئيس الحكومة آنذاك، صبري العسلي، بإبعاده إلى باريس ليكون ملحقا عسكريا.
لمع نجم السراج محليا في 1955، وتحديدا بعد اغتيال عدنان المالكي، رئيس شعبة العمليات في الجيش السوري، يوم 22 أبريل/نيسان، حيث تم تعيينه رئيسا للمكتب الثاني، شعبة الاستخبارات، وأعطي صلاحيات واسعة لتعقب المتهمين باغتيال المالكي، كما ورد في وثائقي بثته قناة الجزيرة بعنوان "العقيد السراج.. رجل الرعب".
وتوصلت التحقيقات التي قام بها السراج لاتهام أعضاء في الحزب القومي السوري الاجتماعي بعملية الاغتيال، فشن السراج حملة اعتقالات واسعة في صفوف الحزب شملت سكرتيره الأول وكوادره، ونخبة من المثقفين والشعراء من بينهم محمد الماغوط وأدونيس، إضافة إلى جولييت ألمير زوجة مؤسس الحزب، الراحل أنطون سعادة.
واتسمت الفترة التي لمع فيها نجم السراج بين 1955 و1961 بمعارك سياسية وأمنية خاضها على جبهات متعددة، فالقوميون السوريون متهمون -في نظره- بمناصرة نوري السعيد رئيس الوزراء العراقي آنذاك ومشروع "حلف بغداد"، وهنالك الشيوعيون الذين رأى فيهم مناهضة الحلم الوحدوي الناصري، بصفتهم داعمين ومدعومين من خصم عبد الناصر اللدود في العراق عبد الكريم قاسم، وفق ما جاء في آخر لقاء صحفي للعقيد السراج عام 2002.
أما البعثيون، فله معهم صولات وجولات، لم يكسبها كلها، وإن كان قد سجل عددا من النقاط ضدهم. وهو، وإن كان محسوبا عليهم أحيانا، ومن أشد مناصريهم، إلا أنه رأى فيهم تهافتا على السلطة، واستغلال الوحدة لمآرب حزبية ضيقة. وظهر ذلك جليا عندما ناصبوه العداء بعد أن استثنى عبد الناصر أغلب مرشحيهم من عضوية المجلس التنفيذي.
إعلانعُرف عن السراج تعلقه الشديد بشخصية جمال عبد الناصر، وإعجابه بالشعارات القومية والوحدوية التي نادى بها. وكان العدوان الثلاثي على مصر في 1956 نقطة مفصلية في تحويل المشاعر القومية والعواطف الوحدوية إلى خطوات عملية باتجاه الوحدة الاندماجية بين مصر وسوريا.
السراج يخطف نظر عبد الناصراستغل السراج زيارة رئيس الجمهورية شكري القوتلي لموسكو، من أجل حشد الدعم لعبد الناصر، في أعقاب العدوان الثلاثي على مصر، فأمر بتفجير خط النفط التابع لشركة نفط العراق، والمتجه إلى تركيا وأوروبا من خلال الأراضي السورية.
وقد شكلت هذه العملية ضربة موجعة لبريطانيا، في حين توجهت أنظار عبد الناصر بإعجاب نحو هذا "الضابط الثائر"، كما ورد في "وثائقي الجزيرة" ومقابلة السراج الأخيرة.
بعد العدوان الثلاثي، تغلغل الفكر الناصري في صفوف الشباب العرب، وبدأت سوريا تسير نحو الوحدة مع مصر، وشهد عام 1957 صراعا شديدا داخل مؤسسة الجيش السوري، وأصبحت التجاذبات السياسية بين ضباطه تهدد تماسك الدولة السورية، ورأى السَراج حينها أن الوحدة مع مصر باتت ضرورية لإنقاذ الدولة.
وكان لدخول جهات عربية وإقليمية على خط الوحدة المصرية السورية -من أمثال الزعيم العراقي عبد الكريم قاسم، وكل من القيادتين السعودية والأردنية، ولكلٍ أسبابه- أن مهدت أرضية صلبة للسراج للإطاحة بمناوئيه، بحجة أنهم ضد إرادة الشعوب العربية في الوحدة، وروج لمحاولات اغتياله شخصيا أو اغتيال الرئيس القوتلي المقرب من عبد الناصر.
في فبراير/شباط 1958، أعلنت الوحدة بين سوريا ومصر، وتنازل شكري القوتلي عن منصب الرئاسة لصالح الوحدة، واختير عبد الناصر رئيسا للجمهورية العربية المتحدة، واشترط حل الأحزاب السورية التي استجابت على مضض، وكان السَراج حينها الفاعلَ الحقيقي في سوريا، حيث عينه عبد الناصر وزيرا للداخلية في الإقليم الشمالي من الجمهورية الجديدة، ثم ما لبث أن عينه رئيسا للمجلس التنفيذي في سوريا.
إعلانوفي هذه المرحلة وصل السراج لذروة قوته، فأبدع في صناعة الخوف، وأمعن في القتل والإخفاء دون مساءلة، وبدأت معالم الدولة المدنية في تلك الفترة تضمحل شيئا فشيئا. وكان الشيوعيون -المناهضون للوحدة المصرية السورية والداعمون الرئيسيون لثورة عبد الكريم قاسم في العراق- هم أكثر ضحايا السراج عددا ومكانة.
ولعل الحادثة التي تعتبر عنوانا لتلك الفترة الدموية هي تصفية فرج الله الحلو -نائب الأمين العام للحزب الشيوعي في سوريا ولبنان- بطريقة وحشية في سجون السَراج، ولجأ معاونوه الأمنيون -بعد افتضاح أمرهم- إلى التخلص من الجثة عن طريق إذابتها بالأسيد.
على إثر هذه الحادثة، تعرض عبد الناصر لانتقادات دولية عنيفة، وتلقى اتصالات من الزعيم السوفياتي خروتشوف، ونهرو وتيتو وباقي قادة دول عدم الانحياز، فطلب من السَراج التكتم على الأمر ونفي نبأ اعتقال الحلو، وربما كانت هذه الحادثة بمنزلة مسمار دُقَ في نعش العلاقة بينه وبين عبد الناصر.
واستمرت يد السراج الأمنية بالتمدد، حتى طالت لبنان، واستغل الاحتجاجات التي قادها اللبنانيون ضد كميل شمعون الرئيس اللباني حينها، وهو المعارض للجمهورية المتحدة، حيث عمل السراج على تمويل المعارضين -أمثال كمال جنبلاط وحميد فرنجية وصائب سلام- وإمدادهم بالسلاح والرجال للإطاحة بكميل شمعون، ومنعه من الترشح لولاية رئاسية ثانية.
وقد برر السراج هذا التدخل -في لقائه الصحفي الأخير مع كمال الطويل من جريدة السفير- بقوله: "ليس هناك مخفيات، أنا رأيت من زاويتي أن سوريا في خطر، ما دام ليس لها نفوذ مُقرر في لبنان، وتعززت هذه القناعة أكثر بقيام الوحدة، لم نكن نهتم بأمورهم الداخلية المحضة، وإنما بأن تكون سياستهم الخارجية معنا".
بداية النهاية.. النزول من القمةتركت حادثة تصفية فرج الله الحلو حالة من الهلع والخوف، مصحوبة بنوع من التذمر والرفض للحالة الأمنية التي وصلت إليها البلاد تحت قبضة السَراج. ومع ظهور حالات أخرى مماثلة في عدة مدن سورية، تساءل الناس عن أعداد الجثث التي لم يتم الإفصاح عنها في أقبية الموت.
إعلانضاق الضباط السوريون ذرعا بالملاحقات الأمنية التي يشنها السراج ضدهم، وكذلك بالطريقة الاستعلائية التي يتعامل بها الضباط المصريون معهم، وسياسة التنقلات التي طالت كل من يعارض، أو يُشَكُك في ولائه للوحدة وقادتها، فأوعز عبد الناصر للسراج بتخفيف الوطأة على الجيش والمدنيين.
ثم بدأ عبد الناصر بتحجيم صلاحيات السَراج ونقلها تدريجيا إلى المشير عبد الحكيم عامر، الذي لم تكن علاقته بالسَراج جيدة، وكان الصراع بينهما محتدما على النفوذ في سوريا، فتحدث عبد الناصر إلى السَراج في اجتماع مغلق، وأبدى امتعاضه من العداء الدولي الذي تسببت به تصرفات السَراج، وأخبره بتفويض عامر للوساطة مع تلك الدول وكسب ودها.
أدرك السَراج أنه أصبح خارج دائرة اهتمامات عبد الناصر، فقدم استقالته في 22 سبتمبر/أيلول 1961، أي قبل أيام من انهيار الوحدة، وأخذ يراقب الأحداث عن بُعْد، في الوقت الذي كان فيه الضابط عبد الكريم النحلاوي، مدير مكتب المشير عامر في دمشق، يخطط للانقلاب على عبد الناصر وإسقاط الوحدة بين البلدين.
نهاية الحلم والمسيرة الشخصيةويوم 27 سبتمبر/أيلول 1961 استيقظت دمشق على أصوات الرصاص، وتلا النحلاوي "البيان العاشر" الذي أنهى قصة الجمهورية العربية المتحدة. وكان من أوائل ما قام به القادة الجدد لسوريا اعتقال السَراج وإيداعه في سجن المزة، الذي تلطخت جدرانه بدماء ضحاياه، وكان مقبرة للمعارضين في عهده.
لم ينس عبد الناصر حليفه القديم، فأمر بوضع خطة محكمة لتهريب السَراج إلى القاهرة، وبالتعاون مع الزعيم الدرزي كمال جنبلاط، طلب ناصر من الرئيس اللبناني فؤاد شهاب التعاون مع المخابرات المصرية لتأمين هروب السَراج، وكان ذلك بالتنسيق مع أطراف عدة، منهم الضابط الأردني نذير رشيد، المحسوب على حركة الضباط الأحرار، وسامي الخطيب من المخابرات اللبنانية.
وقد وردت تفاصيل تهريب السراج إلى القاهرة متفرقة في مصادر عدة، منها ما جاء على لسانه في حديثه إلى صحيفة السفير، أو تلك التي وردت في وثائقي الجزيرة، وكذلك ما ذكره موقعا "الموسوعة الدمشقية" و"التاريخ السوري المعاصر".
إعلانتم تهريب السراج أولا إلى لبنان في سيارة عسكرية متنكرا بزي ضابط صف سوري، ومن لبنان إلى القاهرة بالطائرة. وفي اليوم التالي، استقبله عبد الناصر في مراسم استقبال رسمية في قصر الضيافة، حيث شكل فرار السَراج صفعة قاسية للنظام الجديد في سوريا، وبهذا انتهت مسيرة السَراج سياسيا وأمنيا، ومنذ العام 1968 اختفى تماما عن المشهد السياسي.
بعد استقراره في مصر عينه عبد الناصر في وظيفة مدنية في مؤسسة التأمينات الاجتماعية، وأمضى فيها بضع سنين قبل أن يعتزل الحياة العامة كليا، ويبتعد عن أضواء الإعلام والصحفيين.
لكنه بقي في كنف الرؤساء الذين حكموا مصر بعد عبد الناصر حتى مات في 22 سبتمبر/أيلول 2013، وأقيمت له جنازة رسمية، حضرها مندوب عن وزير الدفاع آنذاك -عبد الفتاح السيسي- بصفته نائبا سابقا للرئيس عبد الناصر في فترة الوحدة.