«فلسفة الدين».. التحليل العقلي للمعتقدات الدينية
تاريخ النشر: 28th, December 2024 GMT
فلسفة الدين هي الدراسة العقلية للمعاني والمحاكمات التي تطرحها الأسس الدينية وتفسيراتها للظواهر الطبيعية وما وراء الطبيعة مثل الخلق والموت ووجود الخالق. أي أن فلسفة الدين هي ذلك الفرع من الفلسفة المعني بدراسة وتحليل طبيعة المعرفة الدينية وما تنطوي عليه المعتقدات الدينية ونوع الأدلة والبراهين التي تستند إليها تلك المعرفة، وتحاول تحليل التجارب الإيمانية والبحث في منابعها وتجليتها وأحوالها.
ولهذا نجد، خلال التاريخ أن الدين والفلسفة كثيرًا ما كانا شريكين أو خصمين سواء في عصر اليونان أو زمن الرومان، كما أن تعارضهما سمة مهمة جدًا في تاريخ الفلسفة، فمجرد زعم أو ادعاء أن الفلسفة كانت تزدري (تستخف) الدين، إذ الواقع أن الفلسفة لم تهمل الدين إلا في الظاهر فحسب. ففي التاريخ لم يحدث أبدًا أن ترك الواحد منهما الآخر دون أن يمسه.
عزيزي القارئ، أننا في الفلسفة نجد أن الأعلى (الله) يسمي المطلق، الفكرة العادية، ومن نافلة القول إننا نرتد أكثر هنا إلى الوراء ونقول إن هذا الأعلى كان يسمي في فلسفة فولف – فيلسوف ألماني – (الشيء)، ذلك أنه يعلن نفسه في التو على أنه تجريد وهو يتطابق تطابقاً غير دقيق بالمرة مع فكرتنا عن الله. والمطلق في الفلسفة الأكثر حداثة ليس تجريداً كاملاً على هذا النحو، ومع هذا ليست فيه الدلالة نفسها المتضمنة في مصطلح الله. ولكي نجعل حتى الفرق واضحاً يجب في المقام الأول أن ننظر فيما تدل عليه كلمة تدل.
إلا أنه ظهر في نهاية القرن الثامن عشر، مصطلح "فلسفة الدين"، وهي نوع من الفلسفة تعتمد العقلَ في بحث وتحليل المقدسات، والمعتقدات، والظواهر الدينية، وتفسيرها. ففلسفة الدين هي التكشف وهي الاستيعاب لله، موجودة وعن طريقها فحسب تكون معرفتنا الفلسفية بطبيعة الله قد تم التوصل إليها. إن الله هو هذه الفكرة المعروفة تماماً والمألوفة – إنه فكرة هي – على أي حال – لم تتطور بعد علمياً ولم تُعرف بعد علمياً.
ولعل القارئ لهذا الفرع من الفلسفة – فلسفة الدين – يُدرك أتم الادراك أن العلاقة بين الفلسفة والدين اتخذت أشكالاً متعددة، في المراحل التاريخية المختلفة، حسب رؤية علماء الدين للفلسفة وحسب رؤية الفلاسفة للدين، وقدم الفلاسفة في هذه الإطار تصورات فلسفية متنوعة للعلاقة بين الدين والفلسفة.
وكانت فلسفة الدين في العصور القديمة جزءًا لا يتجزأ من الميتافيزيقا. فقد تجلت فلسفة الدين عند أفلاطون في نظرياته الفلسفية وخاصة في نظريته حول "المثل" التي جعل على رأسها مثالاً للمثل هو "مثال الخير" الذي هو صورة الإله الأسمى عند أفلاطون، وقد كان لأفلاطون نظريته المستقلة عن الخلق، وتحدث فيها عن دور الإله الصانع في خلق هذا العالم الذي أعتبره أفلاطون حادثاً، وإن لم يكن صنعه قد تم إلا من خلال وجود مادة قديمة هي العناصر الأربعة، ومثال قديم هو ما يشكل من خلاله الإله الصانع أي شيء أو أي كائن من الكائنات.
أما أرسطو في كتابه الشهير "الميتافيزيقا" قد اعتبر أن البحث عن العلة الأولى للوجود، علة الحركة غير المتحركة من صميم البحث الميتافيزيقي، وتم تسميته "الإله". وتبعاً لأرسطو فإن البحث حول الإله هو موضوع دراسة اللاهوت الطبيعي. وتبنى الفلاسفة منذ ذلك التاريخ حتى اليوم مصطلح فلسفة الدين لهذا النوع من الدراسة كمجال مستقل من التخصص. وذلك على الرغم من أنه مازال هنالك بعض الفلاسفة وخاصة الفلاسفة الكاثوليك يعتبرونه جزءًا من الميتافيزيقا.
وإذا ألقينا النظر على العصر الوسيط – بشقيه المسيحي والإسلامي – يمكننا القول إن الفكرة التي سادت العصر الوسيط المسيحي هي تلك التي نادت بعجز العقل البشري وحده عن الإحاطة بكثير من مسائل ما بعد الطبيعة. ومن هنا خضعت الفلسفة للدين (أو العقل للنقل) خضوعاً تامًا في القرن الثالث عشر الميلادي، وانتشرت العبارة المشهورة التي تقول: "إن الفلسفة إن هي إلا خادمة لعلم اللاهوت أو تابعة له".
وأكد أيضاً فلاسفة الإسلام علي أنه "لا يوجد أي تعارض بين الدين والفلسفة فالحق لا يضاد الحق"، وأن الحجة العقلية الفلسفية داعمة للإيمان والاعتقاد الديني ومؤكدة له، فالدين والفلسفة يلتقيان في معالجة موضوعات معينة مثل أصل العالم، طبيعة الإنسان، وطبيعة الوجود. أما في العصور الحديثة فقد استقلت الفلسفة عن اللاهوت، وعادت إلى الاعتزاز بالعقل، وهذا ما رأيناه مع رينيه ديكارت، وديفيد هيوم، وإيمانويل كانط.
إذًا فالعلاقة بين الدين والفلسفة علاقة جدلية من قديم، والتلاقي بينهما قليلًا، والتصادم كثيرًا، هو الذي يحكم طبيعة التعامل بينهما، أو بالأحرى التعامل بين من ينتمي إلى كل منهما. ومثل هذه العلاقة من الشد والجذب تعكس تداخل موضوعاتها والقضايا المتعلقة بهما. فالدين يمثل القلب والعقل معًا، وهو رحلة العلاقة الروحية من الإنسان تجاه خالقه، وهو ضمان للسعادة في الدينا والآخرة. أما الفلسفة فهي جهد الإنسان لبلوغ الحقيقة.
[email protected]
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: فلسفة الدين
إقرأ أيضاً:
المرجعية الدينية صمام الأمان في الأزمات
بقلم : علي الحاج ..
لطالما كانت المرجعية الدينية في العراق الملاذ الآمن والحصن الحصين عند اشتداد الأزمات، والدليل الحي على ذلك ما شهدته البلاد من مواقف مصيرية، أبرزها ما بعد عام 2003، حيث أسهمت المرجعية بدور محوري في إعادة تنظيم الحياة السياسية والاجتماعية والأمنية.
يشير سماحة الشيخ قيس الخزعلي في كلمته إلى أن المرجعية الدينية العليا، المتمثلة بسماحة آية الله العظمى السيد علي السيستاني، كانت بحق صمام الأمان، ليس فقط للمذهب الشيعي، بل لكل العراقيين. وقد تجلّى هذا الدور في دعوة المرجعية للاستفتاء على الدستور، وفي فتوى الجهاد الكفائي التي أوقفت تمدد تنظيم داعش الإرهابي، وحمت العراق من الانهيار الكامل.
لم تكن الفتوى مجرد بيان ديني، بل كانت تحوّلًا استراتيجياً في مسار الأحداث، جمعت تحت رايتها آلاف المتطوعين ممن لبّوا نداء المرجعية وحققوا أعظم الانتصارات، مثبتين أن المرجعية ليست طرفاً سياسياً، بل قيادة أخلاقية وروحية وشرعية تتدخل عندما يبلغ الخطر ذروته.
يؤكد الشيخ الخزعلي أن المرجعية تمثل الامتداد الطبيعي للمعصومين في زمن الغيبة، فهي المرجع في الفتوى والحكم الشرعي. ومن هنا فإن كل من يخالف فتوى المرجعية أو يتنصل منها فهو يخالف الحق، لأن الحكم الشرعي الصادر عن الفقيه الجامع للشرائط هو الموقف الذي يُبرئ الذمة أمام الله.
وقد واجهت المرجعية محاولات متكررة للتشكيك بمكانتها، خصوصًا بعد الانتصار على داعش، حيث برزت أصوات تشكك في أصل التقليد وتدعو إلى الاستقلال عن العلماء، مدفوعة بمخططات هدفها تفريق كلمة الشيعة وإضعاف وحدتهم. إلا أن هذه المحاولات فشلت، لأن وعي الجماهير وتمسكهم بقيادتهم كان أقوى من حملات التضليل.
وفي زمن تتعدد فيه العناوين وتتكاثر فيه الدعوات، تبقى المرجعية الدينية هي البوصلة التي توجه الناس نحو الحق، وهي القلعة التي تتحطم على أسوارها مؤامرات الخارج وأصوات الداخل المنحرفة. فالمرجعية لم تكن يومًا عبئًا على الدولة أو المجتمع، بل كانت رافعة للمشروع الوطني والديني، ومصدر إلهام للصبر والثبات وتحقيق الانتصار.
وهكذا، فإن التمسك بالمرجعية هو تمسك بالثوابت، والابتعاد عنها هو تضييع للبوصلة. فبها يُعرف الحق، وعندها يُفصل النزاع، ومن خلالها يُحفظ الدين والوطن.