استقلال السودان.. الزيف والحقيقة!
تاريخ النشر: 2nd, January 2025 GMT
فايز الشيخ السليك
ابتسمتُ عندما قدم لي مشرفي في الشركة التي أعمل بها التهنئة بمناسبة (( عيد ميلادي )) الافتراضي، لم أودُ قطع حبل دهشته بسبب فرادة تاريخ الميلاد المصادف الأول من يناير.
لم أخبره بأنَّ هذا التاريخ زائف، لا اليوم حقيقي، ولا الشهر صحيح ولا السنة كذلك، لكن كل ما أذكره أنه في أحد أيام الشتاءات القارصة في سودان ثمانينات القرن الماضي ذهبنا مجموعة من أولاد القرية إلى الخرطوم، لاستخراج " شهادات التسنين"، حيث اكتفى الطبيب بالنظرة إلي الطفل الواقف أمامه، وفتح فمه، ثم كتابة تاريخ الميلاد تقديراً، ربما يكون أحدنا أصغر سناً لكنه طويل القامة فيكتب له القومسيون الطبي ميلاً أكبر منا، أو العكس.
هي حكايات من تواريخ ميلاد كثيرين؛ غالباً ما تكون تواريخ زائفةً مثل أشياء كثيرة عندنا، كقول الشاعر ، وغناء المغني..
كرري تحدث عن رجالٍ كالأسود الضارية..
خاضوا اللهيب وشتتوا كتل الغزاة الباغية..
ما لان فرسانٌ لنا بل فرَّ جمع الطاغية..
وهو على غير حقيقة الوقائع التي حدثت في معركة كرري في سنة ١٨٩٨، التي ولج الاستعمار عبر بوابتها، وأسس دولته" الكوليونالية" بعد ترسيم خطوط السكك الحديد، والسعي لتحديث الحياة السائدة وقتها، وتأسيس بعض المشاريع الزراعية الكبرى كمشروع الجزيرة بغرض تصدير قطنه إلى مصانع لانكشير في بريطانيا العظمى، ولنستورد نحن ذات القطن " أقمشةً وثياباً لندنية وسويسرية؛ ونظل ندور في تبعية إلى يومنا هذا، ونحن نحتفل بذكرى الاستقلال التاسعة وستين مع أنه استمرار لذات أسس ونهج الدولة التي أسسها المستعمر.
وردت تعريفات الدولة في الفكر السياسي، و في علم الاجتماع، وفي مفاهيم التنمية منذ أن بدأ الإنسان يفكر في تأطير علاقته مع الآخرين، لتحقيق مصالحه، ومصالح أسرته، وعشيرته، وقبيلته، حال وجود آخرين يختلفون عنه في تلك الكيانات الأسرية والعشائرية والقبلية، وهي كيانات تربط المجتمعات المقيمة داخل حيز جغرافي معين، وترتبط مصالحها ببقائها على وئام، أو توافق على حد أدنى من التعايش.
وظهر المصطلح قبل آلاف السينين في الفلسفة الأغريقية، بجمهورية أفلاطون، " يوتوبيا"، وهي نظرة مثالية مستندةً على كيان يتم تقسيمه إلى حاكم فيلسوف، وحراس مساعدين، وعمال يدويين، فيما جاءت رؤية الفيلسوف الإسلامي الفارابي في مدينته الفاضلة ترجمةً لفلسفة افلاطون والتأكيد على دور الأخلاق في السياسة، ثم كانت رؤية ابن خلدون القائمة على العصبية، في تقسيم المجتمعات، إلا أن نقلةً نوعية شهدتها أوروبا ؛ لا سيما بعد أن طوت حقبة الانحطاط الفكري، ودحرجت أركان الدولة الدينية " الثيوكراتية"، أو الكهنوتية".
يرى المفكر العربي الدكتور محمد عابد الجابري أن " النظريات الأوروبية حول الديمقراطية وحول المسألة الاجتماعية وحول العلاقة بينهما كانت نظريات تؤطِّرها وضعية تاريخية معينة قوامها جملة أسس وأركان من أهمها ما يلى: وجود الدولة الوطنية القومية، وجود بنى صناعية حديثة متنامية، وجود طبقة برجوازية متمسكة بالقيم اللبرالية، وجود طبقة عاملة يتزايد عدد أفرادها يوماً بعد يوم، وجود أحزاب تؤطِّر الأفراد وتتقاسم النخب " ، ويضيف " أنَّ اختفاء القبيلة وذوبانها " فى المجتمع الأوروبي" كإطار يستقطب ولاء الأفراد كان شرطاً لقيام نوع آخر من الولاء هو التبعية للسيد الإقطاعى أولاً ثم للحزب أو النقابة بعد ذلك".
يضطَّر الأفراد في أي مجتمعٍ اضطراراً طبيعياً إلى البحث عن كيانً ينتمون إليه، وتتنوع الكيانات من سياسية إلى مدنية أو نقابية، وروابط ثقافية وفنية وأدبية، ، وهي أوعية مهمة لاستيعاب طاقات الأفراد فيها، ولاشباع غرائزهم الاجتماعية والحاجة إلى الانتماء، كخطوة مهمة من خطوات تحقيق الذات، فراعي الأبقار سيكون سعيداً لوجود اتحاد رعاة يقاسمه همومه اليومية والحياتية، والمزارع في حاجة إلى اتحاد مزارعين لمتابعة مشاكل الزراعة، وهناك من يبحث عن منظمة تدافع عن حقوق الإنسان، أو تقديم الخدمات الطوعية، وهناك من يسعد بالاشتراك في نادي رياضي، أو جمعية ثقافية، وطلاب المدارس والجامعات يكونون سعداء حال توظيف طاقاتهم الشبابية في أنشطة يقدمون عبرها الخدمات لأهلهم، وهناك من تشبع غريزته السياسية والانضمام إلى حزب سياسي.
ويشير بروفيسورر تيسير محمد أحمد، إلى أنِّ " الدولة ليست مجرد مؤسسة فقط أو مجرد تركيب، بل هى مركب علاقات معقد خلقته اختلافات وصراعات العلاقات الاجتماعية واشكال التنظيم الاجتماعي المتطابقة معها" .
بينما ينحى الدكتور أبكر آدم إسماعيل، منحىً ثقافياً في تعريفه لعلاقات المجتمعات السودانية مع الكائن المسمى الَّدولة، ويقول " إن السُّودان دولة مصنوعة وقصيرة التجربة – أقل من قرنين منذ قيام الدولة الحديثة فيه – وهذه الدولة الحديثة مجرد شكل تم إلباسه على مجتمعات تقليدية مختلفة ثقافياً ، ومتفاوتة تاريخياً تم جمعها حسب مقتضيات خارجية متمثلة فى مصالح الاستعمار وتوجهاته فى الأساس، ولما ذهب الاسىتعمار خلف شكل الدولة وراءه لهذه الكيانات للتنازع حوله كل بأسلحته القديمة، التى ليس ن بينها مالك لافق يستوعب ضرورة التوازن من أجل التعايش السلمى".
إنَّ الدولة بمعناها المفاهيمي والوظيفي، عبارة عن كيان محدد، يقع داخل رقعة جغرافية يسكنها أناس يحملون موروثاً حضارياً مشتركاً ، ويوحدهم المصير ، والمستقبل، والمصالح المشتركة، و يمكن تحديد هوية هذا الكيان بمدى فاعليته في رسم خطوط هندسة اجتماعية، تضع حدوداً بين الهياكل المعنية بالتشريع، والقضاء، والحكم، والخدمات ، وتوفير الأمن، للأفراد، والمجتمعات في داخل هذا الكيان، وفض النزاعات فيما بينهم، ويشترط لفاعلية هذا الكيان هيكلته على أسس ديمقراطية، تراعي قيم المساواة والعدالة الاجتماعية، وتوفر شروط الحرية، للجميع، دون تحيز إثني، أو ديني، أو طبقي.
نجد أنه بمفهوم الدولة الحديثة أن ثمة أحداث متتالية فضحت هشاشة ما يمكن تمسيته " دولةً " في السودان، ومن ضمن هذه الأحداث؛ انفصال الجنوب في يناير 2011، وتفاعلاته وكشف مقدار شرخ الوجدان الجمعي، واقتراب انهداد المعبد فوق رؤوس الجميع ، هذا يمكن الانتباه إليه كذلك في سلسلة الحروب المستمرة منذ عشية " الاستقلال " في عام ١٩٥٥ في مناطق الجنوب الجديد بالنيل الأزرق ، وجنوب كردفان، ودارفور، وشرق السودان نهايةً بالحرب العبثية الحالية، وهو أمرٌ جدير بالتوقف عنده، لماذا الحروب المتكررة؟ ولماذا الفشل في استدامة نظام سياسي رغم مرور سبعة عقود على " الاستقلال؟
لم يعرف السودان عبر تاريخه مفهوم الدولة القومية بمؤسساتها الحديثة، إلا في القرن التاسع عشر، حيث بدأت في التشكُّل مع بدء الحملة التركية المصرية لاستعمار السُّودان من أجل " المال والرجال"، وكانت الأرض الممتدة من جنوب مصر حتى حدود كينيا واوغندا جنوباً، واثيوبيا واريتريا شرقاً، وتشاد وليبيا غرباً عبارة عن دويلات صغيرة، مثل السلطنة الزرقاء، وسلطنة الفور ، والمسبعات، وفي غرب البلاد نشأت سلطنة الفور في الفترة من 1445 م – 1874 م"، وظلت وحدة منفصلة لا رابط قومي لها مع الشرق والشمال والجنوب، وظلت السلطنة عصية على الاستعمار لأكثر من عشرين عاماً، حتى تمكن الزبير باشا "أحد تجار الرقيق المشهورين في مناطق بحر الغزال من هزيمة الفور وضم سلطنتهم "رمزيا".
دخل الأتراك والمصريون السودان سنة ١٨٢١، وفشل الاسىتعمار التركي صعوبات في بناء دولة حديثة فوق أرض بلاد مترامية الأطراف، متنوعة المناخات، ومختلفة التضاريس، إلا أن الأتراك أسسوا نظماً إدارية باستجلاب موظفين وعمال أوروبيين، وأتراك، ومصريين، كما اعتبروا اللَّغة التركية لغة التواصل والعمل، مع وجود ضعيف للّغة العربية.
تفجَّرت الثورة المهدية سنة 1881 ، كحركة مقاومة شعبية، ونجحت في توحيد قطاعات واسعة من السودانيين تحت زعامة الإمام محمد أحمد المهدي، الذي توفي بعد أن أنهى الحكم التركي بعد أشهر قليلة ليخلفه خليفته عبد الله التعايشي، وقد اختلفت أسباب اخضاع المهدي للمجموعات المتباينة تحت سيطرته، مع التأكيد أنه لم يكن يحمل مشروعاً وطنياً يحدد شكل الدولة وطبيعتها وحقوق المجموعات الاثنية.
كانت أبرز ملامح الفترة المهدية قيام دولة إسلامية ضعيفة فاقدة السيطرة على الأطراف وسط حروبات أهلية، ونمو صراع ذو منحى عنصري قائم على ثنائية " الأشراف"، و" الغرابة" أو " أولاد البحر"، و"أولاد الغرب"، وهي نزعة تعكس ثنائية مستمرة في السودان، وبالطبع فإن الخليفة التعايشي فشل في فرض سلطته المركزية بسبب الحروب الداخلية والخارجية.
لقد أمضى الخليفة عبد الله ، معظم فترة حكمه في خوض حروبٍ داخلية بغرض اجبار مجموعات قبلية للاذعان لحكمه ولفكرة المهدية، لقد حارب الخليفة الكبابيش ، والداجو ، والمساليت، والفور، هذا عدا خلافاته الكبيرة مع "الأشراف" " وبالرغم من يمين الولاء الذي أقسمه كل من " الأشراف" و"اولاد البحر" فإنهم لم يكونوا مستعدين للمرة بقبول حكم الخليفة عبد الله، وبادروا على الفور بالتآمر والاطاحة به باستدعاء جيش المهدي الكبير في الغرب بقيادة محمد خالد، وهو دنقلاوي من أولاد البحر، وابن عم المهدي، ومن ناحية الخليفة قد تحرك بحزم حيث عزل خالد، وأمن الجزيرة بإمدادها من الجنوب لأم درمان.
كما سعى الاستعمار البريطاني المصري لتوطيد أركان حكمه إلى ترسيخ القبلية، واثارة العنصرية الموجودة أصلاً ما بين الشماليين أنفسهم، أو بين الشمال والجنوب بواسطة سياسات "الأرض المقفولة"، وقد كان السير هارلود مايكل، السكرتير المدني البريطاني في الفترة من 1924- 1934، هو من نصح الحاكم العام السير جون مافيري بضرورة حكم السودان من بعد، بدعم السلطات المحلية والقيادات التقليدية.
نال السودان استقلاله في يناير 1956 م على طبق من ذهب" و" صحن صيني ما فيهو شق ولا طق" على حد توصيف السيد إسماعيل الأزهري أول رئيس سوداني، وكان الاستقلال نتيجة موازنات دولية دفعت بريطانيا بالتخلي عن عدد من مستعمراتها، ومن ضمنها السودان، وتم ذلك دونما تضحية كبيرة سوى من تحركات معزولة هنا وهناك أكبرها ثورة اللواء الأبيض في سنة1924، وما أفرزته من إشكالات الهوية، ومأزقها، الذي أراده بعض النخبة " باسم الشعب العربي"، فيما أصر علي عبد اللطيف بجذوره الأفريقية ، " الشعب السوداني النبيل".
خرج الاسىتعمار وخلف وراءه دولة " كولينيالية" هشة المشاعر الوطنية، ومضطربة الهوية، ويرى البروفيسور تيسير محمد أحمد علي في ورقة بعنوان " السودان.... الاستقلال ومأزق المشروع الوطني" " في غالب الأحوال ما يكون الاستقلال المرحلة الأولى في عملية البناء الوطني، مربوطة بالشعور بنمو الحقوق السياسية والتحرر من السيطرة. ولابد أن يتضمن، ليس فقط التخلص من المستعمر، بل التحرر الكامل من كافة العلاقات، والبنى، والهياكل، وحتى المفاهيم التي خلفها المستعمر، واستبدالها بأخرى تأطر لمشروع وطني كامل يقابل احتياجات الشعب والدولة المستقلة".
وفي ذات السياق يرى الدكتور حيدر إبراهيم " لم يهتم السودانيون بعد الاستقلال ببناء دولتهم الوطنية، والتي كان لا بد أن تكون دولة وطنية، ديمقراطية، تعددية الثقافات، وعلمانية أو مدنية، ولكن السودان خضع لعملية طويلة ومركَّبة لتوظيف الدين سياسياً، ابتدرته القوى الطائفية التقليدية، وأكملته قوى جديدة محافظة" الإخوان المسلمون بمسمياتهم السودانية المختلفة، ومع زج الدين في السياسة وجعله أساساً ممكناً لأي دولة سودانية قادمة، كانت هذه مقدمة لتهميش كل العناصر غير المسلمة واعتبارهم مواطنين من الدرجة الثانية، وفي هذا التوجه وأد لفكرة الدولة الوطنية الموحدة، ومن هنا أسس حكم الإسلامويين بقصد ، أو لا وعي ـ للتفكك الحتمي للدولة السودانية قبل أن يكتمل بناؤها الذي تعطل منذ الاستقلال".
ورث السودانيون دولتهم المصنوعة من البريطانيين، فعلى مستوى نظم الحكم، لا نزال ندور في حلقةٍ جهنمية، ودائرةٍ شريرة، ويقتنص الجيش من سنوات الحكم حوالى (٥٧) سنةً من عمر الدولة، وأصبح حزباً مسلحاً، أو جناحاً عسكرياً لفئة سياسية، فشغل نفسه بالتجارة والتسابق نحو كراسي الحكم فبلغت عدد الانقلابات العسكرية أكثر من عشرين محاولةً؛ كأكبر عددٍ انقلابات تشهدها أفريقيا، ويحل السودان عالميا في المرتبة الثانيةً بعد بوليفيا، فيما تعاني القوى السياسي من حالة كساح أعجزتها من الممارسة الديموقراطية الحقة، وأغرقت نفسها في " الديموقراطية الإجرائية".
واستمرت ذات السياسات الاستعمارية اقتصادياً، إذ لا نزال نزرع الأقطان ونصدرها إلى الصين، ونستورد في ذات الوقت الجلاليب والثياب، ونصدر الماشية الحية ونستورد منتجاتها أحذيةً وحقائبَ جلدية، ونصدر السمسم والفول، ونستورد زيوتاً وأعلافاً وطحنيةً.
وعلى المستوى الإداري لا نزال نحتكم في الأطراف والهوامش إلى إرادة الإدارات الأهلية والزعامات القبلية بذات طريقة إدارة المستعمرين الذين فضلوا منح الامتيازات لتك القيادات وتوكيلها للحكم بالإنابة.
تواصلت الحروب في السودان؛ إلا أن الحرب الأخيرة كانت قشةً قصمت ظهير بعير دولة مصنوعة، فاقدة للأوتاد مع كثرة الزوابع التي تواجهها، ويكفي الإشارة إلى ترك أكثر من ربع السكان منازلهم وقراهم ومدنهم، مولين هاربين إلى جبالٍ تأويهم من طوفان جرائم المتقاتلين لا سيما قوات الدعم السريع، و أصبحت الخرطوم خاوية على عروشها تسكنها الأشباح، لدرجة عجز قادة الطرفين المتقاتلين في العيش تحت ركامها، وانهار مع ذلك القطاع الصحي العليل، والتعليمي الكسيح، وقطاع الخدمات الهش.
وفضحت كذلك ضعف مخيال النخب التي توارثت حكم هذه البلاد بلا خطط تنموية في الأصقاع النائية وحتى القريبة من مركز القرار والخدمات وحذب الناس، فلا مدارس في الأقاليم تكون بديلةً لطلاب المناطق المتأثرة بالحرب، ولا بنى تحتية تستضيف طلاب الجامعات، ولا ملاعب رياضية حتى صارت أنديتنا الرياضية ومنتخباتنا الوطنية معلقةً بين أجواء جوبا ونواكشوط وطرابلس ودار السلام.، وكشفت وجهاً قبيحاً للإنسان السوداني تمثل في محاولات الاستغلال الفاحشة للنازحين والباحثين عن مساكن تأويهم من خطر التسول وكارثة النزوح، حيث ضرب كثيرون ما كنا نحبه من قيم التكافل والمحبة والترابط الاجتماعي بيننا كسودانيين.
لقد بيَّنت حرب أبريل عمق أزمة الدولة الوطنية وضعف الرابط القومي، وانتزعت ورقة التوت عن بعض من الاستحياش المتخبئ وراء سماحة زائفة مثل شهادات تسنينا، واستسهال القتل والنهب وانتشار خطاب الكراهية، ونتج هذا بسبب فقدان مشروعٍ وطني يكون معبراً عن الجميع ثقافياً وروحيا، ومادياً، بل أنَّ الحرب اللعينة أوضحت وهن الكيان الجغرافي الجامع، بهياكله المتحللة، وأكدت أنَّ السُّودان لا يزال كياناً أُلبس لباس الدولة الحديثة قسراً.
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الدولة الحدیثة
إقرأ أيضاً:
العقوبات الاقتصادية الأميركية على السودان: شلّ الاقتصاد أم كبح آلة الحرب؟
العقوبات الاقتصادية الأميركية على السودان: شلّ الاقتصاد أم كبح آلة الحرب؟
عمر سيد أحمد
العقوبات من واشنطن إلى الخرطوم… ما بين الحساب والعقابفي 24 أبريل 2025، أعلنت وزارة الخارجية الأميركية عزمها فرض عقوبات صارمة على السودان بموجب “قانون مراقبة الأسلحة الكيميائية والبيولوجية لعام 1991”، وذلك بعد تأكيد استخدام الحكومة السودانية لأسلحة كيميائية في عام 2024، في خرق صريح لاتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية التي تُعد السودان طرفًا فيها.
القرار، الذي سُلِّم إلى الكونغرس الأميركي مرفقًا بتقرير يؤكد “عدم امتثال السودان”، يُمهّد لتطبيق حزمة من التدابير العقابية، تشمل حظر الوصول إلى خطوط الائتمان الأميركية، وتقييد الصادرات، وتجميد الأصول. ومن المتوقع أن تدخل هذه العقوبات حيّز التنفيذ في أو حوالي 6 يونيو 2025، عقب نشرها في السجل الفيدرالي الأميركي.
ورغم أن هذه العقوبات تأتي ردًا على خروقات خطيرة للقانون الدولي، فإن توقيتها في ظل حرب أهلية طاحنة، وانهيار اقتصادي شامل، وتوسع المجاعة والنزوح، يطرح تساؤلات أخلاقية واستراتيجية حول فاعليتها وجدواها، ومدى تأثيرها الفعلي على النخبة الحاكمة مقارنة بما تلحقه من أضرار مباشرة بحياة المواطنين واقتصاد الدولة.
تجربة السودان السابقة مع العقوبات (1997–2020)بين عامي 1997 و2020، خضع السودان لعقوبات أميركية شاملة فرضت عليه عزلة اقتصادية ومصرفية خانقة، بتهم دعم الإرهاب واحتضان تنظيمات متطرفة. طالت العقوبات المؤسسات الحكومية والمالية، وحرمت السودان من:
استخدام النظام المصرفي العالمي المرتبط بالدولار. استقبال الاستثمار الأجنبي المباشر أو التمويلات الإنمائية. التحديث التكنولوجي والاتصال بأسواق المال.أدت هذه العقوبات إلى تدهور البنية الاقتصادية، وزيادة الاعتماد على التهريب والاقتصاد الموازي، وهروب الكفاءات ورؤوس الأموال. ورغم الرفع التدريجي للعقوبات في 2017، إلا أن استمرار وضع السودان على قائمة الإرهاب حتى أواخر 2020 أعاق أي تعافٍ جاد، خصوصًا مع تعاقب الأزمات السياسية والانقلابات والحرب الأخيرة.
العقوبات الجديدة – البنود والتوقيتالعقوبات الأميركية الجديدة، التي ستدخل حيز التنفيذ في يونيو 2025، جاءت كرد مباشر على ما وصفته واشنطن بـ”استخدام موثّق للأسلحة الكيميائية من قبل حكومة السودان”. وتشمل:
حظر التعاملات بالدولار الأميركي. تجميد أصول الحكومة والشخصيات المتورطة. منع الشركات الأميركية من تصدير تقنيات أو منتجات للسودان. حرمان السودان من الوصول إلى التمويل الأميركي أو الدولي المدعوم أميركيًا، خصوصًا عبر خطوط الائتمان أو التسهيلات المالية.ما يضاعف من أثر هذه العقوبات هو هشاشة الوضع الداخلي، حيث يخوض السودان واحدة من أسوأ حروبه الأهلية، وسط انهيار شبه كامل لمؤسسات الدولة المدنية.
ثالثًا: التأثيرات الاقتصادية المباشرة خروج فعلي من النظام المالي العالميالسودان اليوم شبه معزول عن النظام المالي العالمي، ومع تنفيذ هذه العقوبات، ستفقد البنوك السودانية القدرة على:
فتح الاعتمادات المستندية لشراء السلع. تنفيذ التحويلات البنكية الرسمية. التعامل مع المؤسسات الوسيطة في التجارة الخارجية.هذا يعني عمليًا إغلاق باب التجارة القانونية، وتوجيه كل النشاطات نحو السوق السوداء أو التهريب.
تهديد الأمن الغذائي والدوائيمع صعوبة الاستيراد الرسمي، تتراجع واردات القمح، الدواء، الوقود، والأدوية المنقذة للحياة. ويؤدي ذلك إلى:
نقص حاد في الإمدادات الأساسية. تضاعف الأسعار نتيجة ارتفاع تكلفة التأمين والنقل. توسّع الفجوة في الخدمات الصحية. ضياع موارد الدولة من الذهبفي ظل غياب الرقابة وازدهار اقتصاد الظل، يُقدّر حجم الذهب السوداني المُهرّب بأنه يفوق 50 إلى 80% من الإنتاج السنوي. وقدرت الخسائر من التهريب خلال العقد الماضي بما بين 23 و36 مليار دولار. العقوبات الحالية تدفع بهذا المورد نحو مزيد من التهريب، وتُفقد الدولة فرصة استثمار أكبر كنز نقدي تملكه.
تعميق أزمة سعر الصرفكل هذه التطورات تؤدي إلى:
تسارع تدهور الجنيه السوداني أمام الدولار. تزايد التضخم المفرط. انهيار القدرة الشرائية للمواطنين. رابعًا: من يدفع الثمن؟رغم أن العقوبات تستهدف النظام السياسي والعسكري، إلا أن من يدفع الثمن فعليًا هو المواطن العادي:
العامل الذي فقد وظيفته بسبب توقف المصنع عن الاستيراد. المزارع الذي لا يجد سمادًا ولا وقودًا. المريض الذي لا يحصل على دواء. التاجر الذي يُجبر على التعامل عبر السوق السوداء. خامسًا: العقوبات كأداة سياسية – فعالة أم عقوبة جماعية؟تاريخيًا، نادرًا ما أسقطت العقوبات الأنظمة القمعية. بل كثيرًا ما زادت من تماسكها عبر:
خطاب “الحصار الخارجي”. عسكرة الاقتصاد. قمع المعارضة بحجة الطوارئ.وفي السودان، حيث الاقتصاد منهار أصلًا، ستدفع العقوبات الناس نحو مزيد من الفقر واليأس، دون ضمان أن تؤدي إلى تغيير حقيقي في سلوك النظام.
سادسًا: أهمية وقف الحرب فورًاالعقوبات في حد ذاتها خطيرة، لكن الحرب تجعلها كارثية. فكل يوم يستمر فيه القتال:
يُفقد السودان مزيدًا من موارده. ينهار الأمن الغذائي. يتوسع النزوح والدمار.وقف الحرب هو الخطوة الأولى والأكثر إلحاحًا للخروج من هذه الدوامة. فبدون وقف إطلاق النار، لا يمكن التفاوض، ولا يمكن الإصلاح، ولا يمكن للعالم أن يستجيب لدعوات تخفيف العقوبات.
الآثار المتوقعة على إعادة الإعمار بعد الحربمن أبرز التداعيات الخطيرة للعقوبات الأميركية المرتقبة أنها ستُقوّض بشدة فرص إعادة الإعمار بعد الحرب، حتى إذا تم التوصل إلى وقف إطلاق النار أو تسوية سياسية. إذ أن إعادة بناء البنية التحتية المدمرة – من طرق ومرافق وخدمات عامة – تتطلب تمويلات ضخمة، لا يمكن تغطيتها من الموارد المحلية وحدها، خصوصًا في ظل الانهيار الكامل للإيرادات العامة وغياب مؤسسات الدولة الفاعلة. وبما أن العقوبات تشمل حظر الوصول إلى التمويل الأميركي وخطوط الائتمان، فإنها تحرم السودان من أي فرص واقعية للحصول على قروض ميسّرة، أو دعم من المؤسسات المالية الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد، أو حتى من شركات مقاولات عالمية. كما أن استمرار العقوبات يُعزّز مناخ عدم الثقة في السودان كبيئة استثمارية، ما يدفع المستثمرين للابتعاد عنه، ويطيل أمد العزلة الاقتصادية، وبالتالي يُجمّد أي مسار حقيقي نحو التعافي والتنمية بعد الحرب.
خاتمة: بين المحاسبة والإنقاذالعقوبات الأميركية على السودان تُعبّر عن موقف دولي حازم ضد استخدام الأسلحة الكيميائية، لكنها في سياق حرب داخلية وانهيار اقتصادي، تتحول إلى عقوبة جماعية تهدد بقاء الدولة ذاتها. المطلوب اليوم ليس فقط التعامل مع العقوبات، بل تغيير المسار السياسي والاقتصادي كاملاً.
وذلك يتطلب:
وقف الحرب فورًا. تشكيل حكومة مدنية ذات مصداقية. إصلاح شامل للقطاع المالي والمؤسسي. الشروع في مفاوضات مع المجتمع الدولي لرفع العقوبات تدريجيًا مقابل التزامات واضحة بالسلام والشفافية.فالعالم لن يستثمر في بلد يحكمه الرصاص والتهريب، ولن يخفف عقوبات ما لم يرَ إرادة حقيقية للتغيير. والسودان، برغم الجراح، لا يزال يملك فرصة – لكنها تضيق كل يوم.
* خبير مصرفي ومالي وتمويل
مايو 2025
الوسومالإنقاذ الحرب الخرطوم السودان العقوبات الأمريكية على السودان القطاع المالي والمؤسسي النظام المالي العالمي سعر الصرف عمر سيد أحمد واشنطن