اللغة والفرد والمجتمع والوعي الثقافي
تاريخ النشر: 19th, August 2023 GMT
أغسطس 19, 2023آخر تحديث: أغسطس 19, 2023
إبراهيم أبو عواد
كاتب من الأردن
1
تُمثِّل رَمزيةُ اللغةِ تَصَوُّرًا وُجوديًّا عَن كِيَانِ الفردِ وكَينونةِ المُجتمع ، وتُشكِّل مَنهجًا مَعرفيًّا لِتَحليلِ العلاقات الاجتماعية في صَيرورة التاريخ المُتوالِد باستمرار ، وتَفسيرِ مَصادر الوَعْي الثقافي في أشكالِ التفكير الإبداعي ، مِمَّا يُؤَدِّي إلى جَعْلِ الواقعِ المُعَاشِ كائنًا حَيًّا مُتَفَرِّدًا بذاته ، وَفِعْلًا اجتماعيًّا مَنظورًا إلَيه مِن خِلال إرادةِ المَعرفة المُتَحَرِّرَة لا سُلطةِ المصالح الشخصية الضَّيقة .
2
رَمزيةُ اللغةِ تُحلِّل أبعادَ هُوِيَّة الفرد في فَضاءات الفِعْل الاجتماعي ، وتَكشِف أركانَ سُلطة المُجتمع في تأثيرات التَّفكير النَّقْدِي . وهذه المَنظومة المُترابطة ( التَّحليل _ الهُوِيَّة / الكَشْف _ السُّلطة ) تُعيد تَكوينَ زوايا الرُّؤية الفلسفية للأحداثِ اليومية والوقائعِ التاريخية ، بحيث يُصبح الماضي والحاضرُ نَسَقًا فِعْلِيًّا مُتَجَانِسًا، وَمُمَارَسَةً حياتية مُتفاعلة مَعَ الوَعْي الثقافي، وتَجَاوُزًا مُستمِرًّا لإيقاع الحياة الرتيبة . وهذا التَّجَاوُزُ المُستمِر لا يَعْنِي تجريدَ اللغةِ مِن رمزيتها ، أوْ إقامةَ قطيعة مَعرفية بين الماضي والحاضر ، وإنَّما يَعْنِي صَهْرَ المراحلِ الزمنية دُون القَفْز في المَجهول ، أو الغرق في الفَرَاغ ، أو السُّقوط في العَدَم ، بِحَيث يُصبح المَعنى الوُجودي نِظَامًا دِيناميكيًّا قادرًا على تَحويلِ إفرازات العقل الجَمْعِي إلى مصادر معرفية ، وظواهر اجتماعية ، وشروط تاريخية تُؤَدِّي إلى تَوليدِ الأنساق الحضارية _ كَمًّا وكَيْفًا _ في الوَعْي الثقافي ، وتَكريسِ الوَعْي الثقافي في الواقع المُعاش ، بِوَصْفِه انقلابًا على الأحكامِ المُسْبَقَة والمُسَلَّمَاتِ الافتراضية ، ونَفْيًا لها مِن حَيِّز الزمانِ والمكانِ ، ولَيْسَ إثباتًا لها في الشُّعورِ والإدراكِ والمُجتمعِ ، وتُصبح العلاقاتُ الاجتماعية مُنْتَجَاتٍ ثقافية مَرِنَة لا كِيَانات مُتَحَجِّرَة أوْ أيقونات مُقَدَّسَة . وشخصيةُ الفردِ الإنسانيةُ لَيْسَتْ أُسْطُورَةً تُفَسِّر نَفْسَها بِنَفْسِها ، وإنَّما هِيَ طَرِيقٌ إلى اكتشاف الأحلام المَكبوتة ، وطَرِيقَةٌ لتوظيف أشكال التفكير الإبداعي في البناء الاجتماعي . وسُلطةُ المُجتمع الاعتبارية لَيْسَتْ أيقونةً تَستمد شَرْعِيَّتَهَا مِن ذاتها ، وإنَّما هِيَ تَجذيرٌ لِصَيرورة التاريخ بَين الأنماطِ الاستهلاكية والأنساقِ الحضارية ، وإعادةُ اكتشافٍ لِرُوحِ الزمان في جسد المكان .
3
المُجتمعُ لا يتعامل معَ اللغةِ كَبُنية رَمزية فَحَسْب ، بَلْ أيضًا يَتعامل معها كنظامٍ مَعرفي ، وكُتلةٍ اجتماعية ، وتَجسيدٍ للوَعْي الثقافي في كِيَانِ الفرد وكَينونةِ المُجتمع . وكما أنَّ اللغة لا يُمكِن حَصْرُها في رَمزيتها ، كذلك الفرد والمُجتمع لا يُمكِن حَصْرُها في الوَعْي الثقافي، مِمَّا يدلُّ على أنَّ العلاقات الاجتماعية _ فَرديًّا وجَمَاعيًّا_ عِبَارة عن دوائر مَفتوحة على كافَّة الاحتمالات ، ولَيْسَتْ أنساقًا مُنغلِقةً على نَفْسِها ، ومُتَقَوْقِعَةً على ذاتها ، ومُكْتَفِيَةً بِوُجودها. وهذه الأنساقُ غَير المُكتمِلة تَجعل أشكالَ التفكير الإبداعي ذات طبيعة انسيابية ، ومُتماهِية معَ مناهج النَّقْد الاجتماعي التي يُعَاد تأويلُها في إفرازات العقل الجَمْعِي ، ويُعَاد توظيفُها في انعكاساتِ هُوِيَّة الفرد على سُلطة المجتمع ، بحيث يُصبح مِن المُستحيلِ فَصْلُ الهُوِيَّة الفَردية عن السُّلطة الجَمَاعِيَّة ، وهذا التلازمُ الحَتْمِي يَدفَع باتِّجاه رُؤيةِ اللغة مِن مَنظور خَلاصِي ، ورُؤيةِ الفرد مِن مَنظور إنساني ، ورُؤيةِ المُجتمع مِن مَنظور مَعرفي ، ورُؤيةِ الوَعْي الثقافي مِن مَنظور تاريخي .
المصدر: وكالة الصحافة المستقلة
كلمات دلالية: الج م ع ی الم جتمع
إقرأ أيضاً:
المسرح ما بعد الدراما.. موت اللغة أم ولادتها؟
تغيّر وجه المسرح بعد برتولد بريخت، كما تغيّر من قبله الأرسطية، يتميز مسرح ما بعد الدراما بتحولات بنيوية عميقة أعادت ترتيب العلاقة بين النص والعرض، وبين الكلام والصورة، وبين اللغة كجملة لغوية واللغة كفعل، وبين الجمهور وعلامات التلقي. وحسب أندريز فيرت، فإن مسرح ما بعد الدراما هو مضاد للنص الدرامي المكتوب.
كان لكتاب مسرح ما بعد الدراما هانس- تيز ليمان عام 1999، خاصية أساسية تمثلت في إرجاء النص الدرامي «من حيث هو وسيط يوجه الحدث المسرحي؛ ولكن هذا لا يعني إقصاء مطلقا للنصوص الدرامية، بل تفكيكا للتقليد الأرسطي الذي وضع تراتبية في سيرورة صناعة الفرجة المسرحية، وعلى رأسها النص الدرامي...».
مؤخرًا، «بدأت تتحكم في إنتاج وتلقي العروض المسرحية في المهرجانات العربية؛ كالقاهرة التجريبي، وقرطاج، والهيئة العربية للمسرح، والخليجي «دراماتورجيا بصرية، وتركيبات في الصوت، ومسرح الرقص وفن التصوير الفوتوغرافي، ومؤثرات رقمية قلما أمكن إخضاعها للنص الدرامي».
إن مسرح ما بعد الدراما، مسرح صعد عن طريق الممارسات التجريبية، وتقدم الوسائط الرقمية، فشهدنا عروضا تعيد الاعتبار للجسد كخطاب مستقل، والآلة «ميكروفون، لابتوب، الهاتف الجوّال» ما أدى إلى تشكّل السؤال الجوهري: هل يمثّل المسرح ما بعد الدرامي موتًا للغة، أم ولادة جديدة لها؟
ما الذي ينتظره المتفرج من العرض ما بعد الدرامي في العروض الحديثة؟
إن فهم الإطار الفكري والفلسفي لما بعد الحداثة شرّط مركزي لاستيعاب أطروحات مسرح ما بعد الدراما. لقد أصبح واضحا أن أزمة تلقي العروض الحديثة في حقيقتها أزمة في المرجعيات من جهة، والمصطلح من جهة أخرى. وتمخّض هذا الأمر عن انقسام كبير بين المشتغلين بالمسرح، سواء أكانوا مخرجين أم نقادًا أم فنانين. إن الجانب الأقرب لحصر هذا الانقسام كان ينبغي أن يظل في ساحة العلم وإنتاج المعرفة والإبداع، لكنه أخذ ينتقل إلى دائرة رؤساء المهرجانات شيئا فشيئا، وإدارات الإنتاج المسؤولة عن الدعم والتمويل. مع صعود هذا الانقسام لم يُطرح سؤال عما يبحث الجمهور من جماليات يرى من خلالها المسرح مكانًا للمتعة والمعرفة والبحث.
ومسرح ما بعد الدراما، لا يولي مؤلف النص، ولا النص ولا القصة أي أهمية. إنه مسرح «يعرض وضعًا أو حالة كبديل للقصة ومبدأ الفعل» لقد انتهى النص، صحيح أنه لم يَمت، لكن تأثيره وعالمه الأدبي لم يعد له قيمة، وهذا ما دفع كريستل فايلر إلى الاعتقاد أنه «مع نصوص تشيكوف، ستبدأ بالفعل نهاية نوع من الدراما التقليدية». والسؤال الجوهري ما جدوى مسابقات التأليف المسرحي التي تُقام في مختلف الوطن العربي وهناك ما يتعارض مع مسرح ما بعد الدراما الذي أخذ يشكّل منعطفا كبيرا؟
يكتب خالد أمين نقلا عن ليمان إن مسرح ما بعد الدراما «فرجة مسرحية مخطط لها ومفكر فيها بشكل تشاركي/ تفاعلي... كما أنه مسرح غير أدبي، وهذا المنحى لا يلغي شعرية المنجز المسرحي بكل مكوناته على خشبة المسرح، فهو مسرح تجريبي وهذا جزء من أهدافه...».
تبدو إجابة أسئلتنا أعلاه أكثر تعقيدًا؛ مما توحي به ثنائية الموت/ الولادة. فالمسرح ما بعد الدرامي لم يُلغِ اللغة، لكنه حوّر وظائفها، وحرّرها من سلطة المعنى الأحادي، وبهذا المعنى أنه مسرح «لا تُهمه الرسالة، بل تهمه طريقة الأداء».
فإذا لم يكن نص المؤلف أو حوار الشخصيات هما الوسيط الرئيس لخلق الدلالة، فإن هذا التأسيس «أدى إلى الاهتمام بالممثل، والمتفرج، والكتابة الركحية، وشعراء الخشبة».
إن تطور الجماليات الأدائية هو صُلب مسرح ما بعد الدراما. إنها كما يصفها ليمان «تخلق علاقة خاصة بين النص وموقف الأداء المادي وخشبة المسرح التي تختفي منها الحبكة أو بالأحرى تتوارى خلف الحالات والعلامات لكي يخلق تأثيرا لدى المشاهدين من خلال عملية التفاعل مع ما فوق الخشبة من عوالم أكثر من التزامه بالنص». يعتقد محمد سيف بوصفه أحد المساهمين في كتاب مسرح ما بعد الدراما أن كتاب ليمان هو «فصل في علم الجمال»، وجهد توليفي لفهم الظروف والآثار الجمالية والنظرية للعروض المسرحية عوضا عن النصوص».
في عروض مسرح ما بعد الدراما، تتولد لغة جديدة تنخرط فيها شبكة من العلامات البصرية والصوتية والفراغية والحركية، أشير مثلا إلى عرض «نحن من وجهة نظر قط» للمخرج أنس عبدالصمد، الذي انخرط في روح مسرح ما بعد الدراما.
تستدعي هذه اللغة جمهورًا واعيًا، مثقفًا يمتلك قدرة من التحمّل والصبر، ومخزونًا لا ينضب من العلامات والإشارات؛ لأن العرض نفسه أصبح هو النص، والجسد صار مركز الدلالة، والصورة هي التي تنتج معنًى مستقلا.
لكن، ماذا سيحدث إذا لم يستطع الجمهور تقبّل جماليات الأداء الحديثة؟ كيف سيتفق مع فلسفة إعادة توزيع سلطة الجماليات الجديدة؟ هل سيُلغى شكسبير وإبسن مثلا؟ إن مهرجانات المسرح في الوطن العربي تحتفي بالكثير من العروض الحديثة مفككة النصوص، كتابة شذرية متشظية، وجُملا مبتورة، وممثلين لا ينطقون بكلام واضح، بل يصرخون أو يُهمهمون، ليس بينهم علاقات أو روابط تاريخية أو اجتماعية، حيث يكون العرض نصًّا وطاقة جسدية خطرة.
هل تراجع الكلام لصالح الصورة؟
أعود إلى الغرفة المضيئة: تأملات في الفوتوغرافيا لرولان بارت ترجمة هالة نمَّر مراجعة أنور مغيث، حيث يضع بارت تمييزا حادا بين طبيعتين مختلفتين للّغة عن الصورة: يكتب التالي: «بما أن الصورة هي محض صدفة خالصة، ولا يمكن أن تكون غير ذلك (دائما ما تعرضُ شيئا ما) -على عكس النص الذي يستطيع، عن طريق التأثير المباغت للكلمة الواحدة، أن يمرر جملة من الوصف إلى التأمل- تُقدم الصورة على الفور تفاصيلها التي تؤلف المادة الخام نفسها للمعرفة الإثنولوجية».
إن بارت لا ينحاز للصورة على حساب الكلمة؛ بل يضعهما في موقعين مختلفين، لا في صراع. يشرح أن الصورة = انفتاح مباشر على العالم، والكلمة = قدرة على انتقال المعنى وتكثيفه وتأويله. وبهذا المعنى، يقدم بارت مفتاحًا نقديًّا لفهم جوهر مسرح ما بعد الدراما؛ فاللغة التي يتحدث عنها بوصفها حدثًا ينتقل من الوصف إلى التأمل، هي ذاتها اللغة التي تتحول في العرض المعاصر إلى فعل بصري/جسدي يُنتِج المعنى من خارج حدود الجملة، ومن داخل منطق حضور الممثل.
إن سيطرة الجسد والرقص وعروض الحركة في مسرح ما بعد الدراما، ليست بالضرورة انحيازًا تقنيًّا أو جماليًّا بقدر ما هي انقلاب معرفي. التكنولوجيا تفرض تقدمها في العالم ووسائل التواصل الافتراضي تتطور، والذكاء الاصطناعي يُغير أسلوب تلقي المعرفة. إن أي حديث عن عودة النص بمرجعياته لن يشكل تمردا كاملا على الصورة داخل المسرح ما بعد الدرامي، بل حاجة أساسية لا فرار منها.
إن المفهوم الجوهري في المسرح ما بعد الدرامي هو التحوّل من اللغة بوصفها تمثيلًا للواقع إلى اللغة بوصفها حدثًا يقع الآن، في اللحظة. إن مهرجانات المسرح العربي تمثّل مساحة خصبة لمناقشة هذا التحول، لأنه في معظم تاريخه ظل تابعًا للنص.
منذ التسعينيات وبداية الألفية، بدأ المسرح العربي، في التحرر من هيمنة النص، وسعى المخرجون إلى تقديم تجارب انحازت في المطلق إلى لغة الجسد والموسيقى، وظل الصراع بين النص الأدبي والاشتغال الركحي حاضرًا بين اتجاهين، الأول اتجاه يذهب إلى تقديس النص، والثاني اتجاه ينحاز إلى الأداء؛ يرى الخشبة مختبرًا بصريًّا وحركيًّا، يعتمد على الجسد، والارتجال والتوليف بين الوسائط، لخلق معنى بصري لا لغوي.
لم تمت اللغة في مسرح ما بعد الدراما، بل تحوّلت من مركز للمعنى إلى إحدى طاقاته، بعدما انتقلت الدلالة إلى الجسد والصورة والفعل الحي. إن مستقبل المسرح العربي لن يُصنع بصراع بين النص والعرض، بل بوعي جمالي جديد يدرك أن اللغة -منطوقة كانت أم صامتة- تولد من داخل اللحظة المسرحية نفسها. وهكذا لا تموت اللغة، بل تعود بشكل آخر، أكثر حرية واتساعًا.