خطة ترامب في مرآة التعليقات الإسرائيلية
تاريخ النشر: 9th, February 2025 GMT
حيّرت تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب بشأن ترحيل أهالي غزة والاستحواذ عليها العالم بأسره، بقدر ما أبهجت قلوب أغلبية الإسرائيليين الذين رأوا فيها تجسيدا لألطف أحلامهم. فمَن لا يتذكر مثلا تصريح رئيس الحكومة الإسرائيلي الأسبق -صانع اتفاق أوسلو- إسحق رابين "أتمنى أن أصحو ذات يوم من النوم فأرى غزة وقد ابتلعها البحر"، وها هو رئيس الحكومة الحالي بنيامين نتنياهو يعلن أن هذه أفضل فكرة يسمعها في حياته.
كما أن أرييه درعي زعيم حزب شاس اعتبر ترامب -بتصريحاته هذه- مبعوثا إلهيا لنجدة إسرائيل، وهلل زعماء اليمين المتطرف أنصار بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير لانتصار ترامب لفكر "الترانسفير" والتهجير، معربين عن أملهم بتجسيدها أيضا في الضفة الغربية. وارتفعت مكانة نتنياهو والليكود في استطلاعات الرأي التي نشرت في الإعلام الإسرائيلي، خصوصا بعد أن طلب وزير الحرب يسرائيل كاتس من قيادة الجيش وضع خطط عملية لتسهيل رحيل الفلسطينيين برا وبحرا وجوا، وكان لافتا ترحيب أغلب المعارضين للحكومة وصمت آخرين، وهمهمة بعض اليساريين عن "لا أخلاقية" قيام إسرائيل بذلك.
لكن، ورغم النشوة غير المسبوقة في إسرائيل بمواقف ترامب وتصريحاته، فإن هناك من رأى أن الأمر لا يتعدى كونه مسرحية. وقال آخرون إنه يصعب اعتبار تصريحات ترامب "عبقرية"، وقد تقترب من الجنون لجهة انعدام واقعيتها وجدواها، في حين شدد آخرون على أنها تعرقل تنفيذ اتفاق وقف النار، بل إنها تعيد الأردن ومصر إلى دائرة الصراع والمواجهة العسكرية.
إعلان السماء هي الحدودوهكذا شككت آنا برسكي المراسلة السياسية لصحيفة معاريف في "مسرحية الصدمة" التي عرضها ترامب أمام نتنياهو، وكتبت أنها "عمليا تنقسم إلى قسمين: حتى لو وضعنا جانبا انعدام الجانب العملي في تنفيذ نقل مليوني غزّي لدول توافق على استيعابهم مقابل حوافز اقتصادية، فإن الأهمية هي في الرسالة التي يرغب الرئيس في إطلاقها. هذا ليس شرق أوسط جديد هذا هو البيت الأبيض الجديد. المزاج في واشنطن تغير وهو الآن مع شعب إسرائيل".
وأشارت برسكي إلى أن ترجمة تصريحات ترامب تتمثل في الصورة التي ترسمها، وهي صورة الجيش الإسرائيلي يغادر أراضي القطاع (ربما باستثناء المنطقة العازلة)، والأسرى يعودون، وفي هذه الأثناء تبقى الرقابة على المعبر في أياد أميركية، ويحتمل توسيع الوجود في محور نتساريم ومراقبته، وترى أن "هذا السيناريو إلى هذا الحد أو ذاك واقعي"، وأن ما يفهم من تصريحات ترامب هو أنها إقرار رسمي منه بأن تطالب إسرائيل بإبعاد حماس عن القطاع والعودة إلى الحرب، إذا لم تقبل هذا الشرط في المحادثات.
ولكن افتتاحية صحيفة هآرتس كانت أشد وضوحا في اعتبار فكرة ترامب غير جدية، وأن اقتراحه السيطرة على غزة واقتلاع الفلسطينيين منها ونقلهم إلى مصر والأردن ودول أخرى وبناء ريفييرا، كان جديرا بالتجاهل المطلق لو لم يكن رئيس الولايات المتحدة. وأضافت أن هذا الاقتراح يدل على أن ترامب لا يفهم النزاع الإسرائيلي الفلسطيني وجذوره وتطوراته على مدى السنين، ولو فهمه لفهم أنه لا توجد حلول سحرية لهذا النزاع، و"الادعاء بامتشاق حل يتجلى بالترحيل والتطهير العرقي وباقي جرائم الحرب، هو إهانة للفلسطينيين وللإسرائيليين على حد سواء".
ورأت الصحيفة أن رئيس القائمة العربية الموحدة في الكنيست منصور عباس أجاد التعبير عن التخوف الجدي من اقتراح طائش كهذا، عندما قال "لا يمكن تنفيذ ترحيل دون تنفيذ جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وإبادة جماعية"، وأضاف "أقترح على أسوياء العقل ألا ينجرّوا إلى مغامرة تعمّق العداء والكراهية".
إعلانوفي مقالته في يديعوت أحرونوت، كتب كبير معلقي الصحيفة ناحوم بارنيع أن "نتنياهو لم يحقق نصره المطلق في غزة، لكنه حققه في واشنطن، فقد تلقى من ترامب هذه المرة ما لم يتلقه من أي رئيس قبله، ولا حتى من ترامب نفسه، إذ لم يسبق لأي رئيس وزراء إسرائيلي أن حظي بمثل هذا التفضيل.. كل رئيس وزراء دفع ثمنا على الاستقبال في البيت الأبيض، أما نتنياهو فقد تلقى -ظاهرا- الهدية مجانا".
ولاحظ بارنيع أن مما لا يقل أهمية عن ذلك الأقوال التي أطلقها ترامب ومنحت نصرا ذا مغزى لرؤية اليمين الإسرائيلي "المسيحاني"، وهي مفهوم عنصري يتبناه ترامب لغزة، يقول ببساطة: هم يخرجون، نحن ندخل، وبدلا من مليوني عربي كادح، ريفييرا. ويتساءل الكاتب عندئذ "لماذا التوقف في غزة؟ ففي الضفة أيضا أحياء فقرٍ مكتظة تحرث الشر، وهناك أيضا ما يخرب المشهد".
وخلص إلى أن "احتفال النصر في اليمين مفهوم ومبرر، لكنّ للنصر ثمنا: فهو يخلق توقعات، ويغشي العيون، ويضلل. للإحساس بالنصر تداعيات فورية على سلسلة من المواضيع الأخرى كصفقة الأسرى. والإسناد المطلق الذي أعطاه ترامب لنتنياهو يغريه بأن يطرح شروطا جديدة لاستمرار الصفقة: الشروط ستسهل عودة بن غفير إلى الحكومة واستئناف القتال في غزة، كما أن وتيرة تقدم الإصلاح القضائي ستتأثر بالاستقبال في البيت الأبيض. بفضل ترامب، السماء هي الحدود".
أما الوزير السابق عن حزب العمل يوسي بيلين، وهو من مفاوضي أوسلو، فكتب في "إسرائيل اليوم" أن فكرة ترامب بنقل مليوني فلسطيني من غزة إلى أي مكان يقبل استقبالهم، وتحويل القطاع إلى موقع سياحي جذاب، "لن تتحقق"، مؤكدا أن الذين "في محيط ترامب يعرفون هذا جيدا. لن تنقل أي شاحنة سكانا فلسطينيين من هذا القطاع المكتظ والمدمر إلى دول الخليج، وبالتأكيد ليس إلى دول مثل مصر والأردن الفقيرتين".
إعلان
ملاك أم شيطان؟
وبعد أن عدد بيلين موانع تحقيق ذلك، أشار إلى أنه "إذا كان ترامب يريد مساعدتنا جديا في معالجة النزاع الطويل، فنقترح عليه أن يبذل جهوده في إبعاد حكم حماس عن غزة، وإقناع نتنياهو باقتراح أفق سياسي والعودة إلى إقامة دولة فلسطينية. وخيرا يفعل أيضا إذا ما أقنع يائير لبيد بتوفير شبكة أمان طالما كانت المفاوضات جدية مع الفلسطينيين، وبالتالي السماح أيضا بحل المشكلة الديمغرافية في إسرائيل وضمّ السعودية إلى اتفاقات أبراهام"، وينبه إلى أن "بيننا من يعتقد أن الخلاص جاء لنا، وأن ترامب يوشك على تحقيق أحلام اليمين المتطرف بتوزيع الفلسطينيين على 22 دولة عربية. هؤلاء لا يفهمون أن هذه الرؤية ليس لها أي احتمال أن تتحقق".
وتساءل عاموس هارئيل المعلق العسكري لصحيفة هآرتس إن كان ترامب ملاكا أو شيطانا؟ ليجيب بأن متابعة ردود اليمين الإسرائيلي على خطوات الرئيس الأميركي يمكن أن تصيبك بالدوار، فقبل الانتخابات الرئاسية في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي كانوا يرونه مسيحيا. لكن بعد ذلك، عندما فرض على نتنياهو التوقيع على صفقة المخطوفين، وصفوه بالخائن والخطير، ومنذ يوم الثلاثاء عاد ترامب مرة أخرى ليُتوّج ملاكا مخلصا وصديقا أكبر لليهود على مرّ التاريخ!
ولاحظ هارئيل أنه يصعب جدا توقّع خطوات ترامب، وأحيانا يصعب تفسيرها بعد أن يقوم بها، لكنْ هناك أفكار رئيسية مكررة، منها: الرئيس يحب أن يفاجئ، وأحيانا بعد أن ينثر متعمدا الضباب، فهو يستمتع بطرح نفسه كمن يبلور حلولا أصيلة من خارج الصندوق لم يفكر فيها أي أحد قبله، ومن المهم جدا له أن يحصل على المديح، وربما على الجوائز أيضا، على أفكاره وخطواته المتميزة. ونتنياهو يدرك كل ذلك جيدا، لذلك اهتم بتملقه بشدة في أعقاب اللقاء بينهما.
وخلص هارئيل إلى أنه في الحلبة السياسية الإسرائيلية، لا شك بأن خطوة ترامب تقوّي نتنياهو. فجميع أعضاء الليكود في اليمين المتطرف يرحبون بذلك، وبن غفير يستعد كما يبدو للعودة إلى الحكومة، ووسائل الإعلام الإسرائيلية متأثرة -مرة أخرى- بنتنياهو "الساحر" الذي كان قبل لحظة أمام معضلة: إما استمرار صفقة التبادل بضغط من ترامب وإما حل الحكومة، لكن ائتلافه الآن يستقر ويبقى مرة أخرى، وتهديد الانتخابات يزول ليبقى سؤال: هل تعهد نتنياهو لترامب بتطبيق المرحلة الثانية واستكمال الصفقة؟
إعلانطبعا لم يكن كل المعلقين على هذا النحو المتشكك في ترامب وفكرته، فمثلا يرى آفي أشكنازي المعلق العسكري لصحيفة معاريف، أن ترامب -الذي يعتبره رئيسا من طراز خاص جدا- "ليست لديه مجاملات رسمية بأقل تقدير، وهو ينجز خطوات بشكل بسيط، لكن أكثر تصميما". ويرى أن "أقوال ترامب بسيطة جدا، وهو يقترح على الغزيين الحل الأكثر راحة من ناحيته. فهم في هذه اللحظة مثل سكان حي يمر بتجديد مدني، باستثناء أن وضع غزة أكثر تعقيدا بكثير. ومثل حي التجديد المدني، على السكان أن يخرجوا إلى سكن بديل بضع سنوات".
ويبرر أشكنازي لترامب فكرته، فيقول إن "من يبحث هنا عن أخلاق وقدسية الأرض، عليه ألا ينسى أن أولئك الغزيين المساكين هم الذين جلبوا على أنفسهم كارثتهم. إلى جانب هذا، نحن أيضا لا ننسى أن الغزيين تسببوا بتهجير مئات آلاف الإسرائيليين من بيوتهم في الجنوب (وبشكل غير مباشر في الشمال) على مدى أكثر من سنة".
لكن الجنرال غيورا آيلاند، صاحب "خطة الجنرالات" لتهجير سكان غزة وشمالها، رحّب في صحيفة يديعوت بفكرة ترامب، واعتبرها "خطة أكثر من منطقية"، ورأى أن حل الدولتين لم يعد منطقيا نظرا لأنه يحشر 15 مليونا من اليهود والعرب في بقعة صغيرة تحيط بها من الشرق والجنوب صحارى واسعة غير مأهولة تقريبا.
وفي نظر آيلاند، فإن كل المحاولات للوصول إلى إنهاء النزاع على أساس حل الدولتين فشلت، وحان الوقت لإجراء إعادة تقويم لا يقبل المسلمات، ولذلك فإن خطة ترامب منطقية، لأن مساحة سيناء تبلغ 167 ضعف مساحة غزة، في حين لا يعيش فيها أكثر من ثلث سكان غزة، والواقع أن ثلاثة أرباع سكان القطاع لاجئون أصلا وبالتالي فإن غزة ليست وطنهم!
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات إلى أن بعد أن
إقرأ أيضاً:
غزة مرآة الأمة.. وفضيحتها
أحمد الفقيه العجيلي
في غزة، لا تنتهي المأساة عند حدود الدم، بل تبدأ منها.. بل باتت مرآة تكشف وجوهًا عديدة، بعضها كان مستورًا خلف أقنعة الكلمات، وبعضها كان ينتظر لحظة سقوط كهذه ليطفو على السطح.
ما يحدث هناك ليس مجرد عدوان، بل اختبار قيمي شامل. ليس امتحانًا لغزة، بل لنا جميعًا.. إنه الامتحان الأصعب: امتحان القيم والمبادئ والمواقف، امتحان للضمير الإنساني قبل أن يكون امتحانًا للمنظمات والحكومات.
وفي ظل هذا الصمت المريب، برز موقف الأزهر الشريف الذي أصدر بيانًا عميقًا بعنوان "صرخة ضمير": "السكوت عن هذه الجرائم هو اشتراك في الجريمة، ومنع المساعدات الإنسانية عن غزة هو خذلان للمظلوم، وتخلي الدول القادرة عن مسؤولياتها هو سقوط أخلاقي، ووصمة عار في جبين التاريخ".
لكن سرعان ما حُذف البيان، ليصدر لاحقًا نص أكثر تحفظًا، اعتبره كثيرون محاولة للتبرير لا اعتذارًا حقيقيًا.
وإذا أمعنتَ النظر في الآية الكريمة: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ﴾ [الأنفال: 73]، فستدرك أن الفساد الكبير المقصود هنا ليس فقط ظلم العدو، بل تخلي المسلمين عن النصرة، وتمييع المواقف، والركون إلى العجز.
هذا ما حذّر منه الدكتور علي السند في أحد مقاطعه، حين أنزل هذه الآية على واقع غزة، مؤكدًا أن فُرقة المؤمنين وتخاذلهم هو منشأ الفساد الأكبر.
اللافت أن المعادلة باتت واضحة حدّ الوجع: من جهة، كافّة قوى الباطل توحّدت، وتناسقت، ونسّقت، بل وحشدت، وسوّغت، ودعمت، وضمنت ألا يُمسّ العدو بسوء.
أمريكا وحدها قدّمت 7 مليارات دولار دعمًا عسكريًا، ووقفت بالفيتو 5 مرات في مجلس الأمن لإجهاض أي دعوة لوقف إطلاق النار.
أوروبا حشدت مواقفها السياسية والأمنية، وسخّرت إعلامها لتبييض الصورة. حاملات الطائرات تبحر لا لحماية المظلوم، بل لحماية الظالم.
في المقابل، لم يقم العرب والمسلمون بما أمرهم الله به من نصرة إخوانهم... لم يوحّدوا صفًّا، ولا أوقفوا تطبيعًا، ولا استثمروا مالًا، ولا وظّفوا إعلامًا، بل تركوا غزة تواجه مصيرها وحدها.
وقبل أيام، بثت قناة "المسلمون" تحقيقًا صحفيًا للصحفي أشرف إبراهيم بعنوان: "لماذا يتفرج الجميع بينما تقتل إسرائيل وأمريكا أهل غزة وتخططان لتهجيرهم؟"، كشف فيه وثائق خطيرة عن خطط مُحكمة لتهجير سكان غزة بدعم أمريكي مباشر، وتواطؤ مؤسسات كبرى، وبميزانيات مرصودة.
المثير أن خطة التهجير ليست مجرد فكرة، بل هناك سيناريوهات، ميزانيات، ودول مقترحة لاستقبال المهجرين، ونموذج مالي يُقدّر تكلفة ترحيل نصف مليون إنسان بـ5 مليارات دولار فقط!
بل هناك مشاريع مستقبلية لتحويل أراضي غزة إلى منتجعات استيطانية، تُباع على البلوكتشين، بأسماء فاخرة، وأحلام مصطنعة!
في هذه اللحظة الحاسمة، لا نطالب العالم الخارجي بأن يتحول فجأة إلى منقذ، ولا ننتظر من المنظومة الدولية أن تنصفنا، بعد كل هذا التواطؤ المكشوف.
وهنا تبرز المفارقة: بينما تتحالف قوى الباطل بلا تردد، لا يزال أهل الحق مختلفين متخاذلين.
وتاريخنا ليس بعيدًا عن مشاهد الحصار والتآمر. فغزة تُذكّرنا بما وقع للنبي ﷺ حين حوصِر في شِعب أبي طالب، وقّعت قريش وثيقة جائرة تقاطع النبي وأهله، كانت صرخات الجوع تُدوّي في أرجاء مكة.
لم تكن هناك منظمات دولية ولا قوانين إنسانية، لكن كانت هناك ضمائر حية... رجال من كفار قريش، لم يؤمنوا برسالته، لكنهم ثاروا على الظلم، ومزّقوا الصحيفة الجائرة.. لم يكتفوا بإصدار بيانات شجب، بل واجهوا الباطل بالفعل.. لم يتحدثوا عن "قلق بالغ"، بل تحركوا نصرة للمظلوم".
أما اليوم، فالعرب عقدوا (كامب ديفيد، أوسلو، وادي عربة، والتطبيع الأمني والتجاري)، ثم عادوا و"أدانوا" القتل بأضعف الإيمان.
السؤال الأعمق: لماذا لا نجرؤ على وضع إجراءات عملية حقيقية للضغط على الاحتلال؟ أن يُسحب سفير، أو يُغلق مكتب، أو يُقاطع منتج، أو تُستخدم ورقة نفط، أو تُرفع قضية في لاهاي، أو حتى يُسحب توقيع من ورقة تطبيع، أو تُغلق منصة تروّج للمحتل".
اليوم نطالب أصحاب القرار في أمتنا أن يتحلّوا ببعض من شهامة أولئك الذين لم يكونوا مؤمنين، أن يُدخلوا المساعدات لا أن يمنعوها، أن يكسروا الحصار لا أن يبرّروه، أن ينصروا المظلوم لا أن يعاتبوا صموده.
فأين نحن من تلك القيم اليوم؟! ومع ذلك، تقف الأمة متفرجة، "لا يصدر عنهم شيء سوى بيانات..."، ومواقف رمادية، وقمم تنتهي بعبارات محفوظة من قبيل: "ندعو المجتمع الدولي..."، "نعبّر عن بالغ القلق..."، "نطالب بوقف فوري...".
وما هو أشد إيلامًا أن بعض الأصوات تُحاول تبرير خذلان العرب لغزة، بزعم أن المقاومة هي من أشعلت الحرب وتتحمّل ما يترتب عليها! وكأن استهداف المدنيين وتجويع الأطفال أصبحا عقوبة يمكن قبولها!
هذا الموقف لا يُعبّر فقط عن رؤية سياسية مختلّة، بل يكشف عن انهيار أخلاقي عميق، وانفصال تام عن الفطرة السليمة، والقيم الدينية والإنسانية".
لقد توالت نصوص الوحي لتؤكد وجوب النصرة والوقوف مع المظلوم:
من القرآن الكريم:
{وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} (الأنفال: 72).
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: 10).
{وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} (هود: 113).
ومن السنة النبوية:
قال ﷺ: "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يُسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته" (رواه البخاري ومسلم).
وقال ﷺ: "من نصر مسلمًا في موطن يُنتقص فيه من عرضه، ويُستحل فيه من حرمته، نصره الله في موطن يحب فيه نصره" (رواه أبو داود).
كما قال ﷺ: "انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا"، قيل: ننصره مظلومًا، فكيف ننصره ظالمًا؟ قال: "تأخذ فوق يده" (رواه البخاري).
هذه النصوص ليست شعارات، بل تكليف، وعهد إيماني، ومؤشر على صدق الإيمان. فحين يتخاذل المسلم عن نصرة أخيه، ويهادن الظالم، يكون قد خان الرسالة، وفرّط في أعظم واجبات الأخوة.
"غزة تواجه وحدها منظومةَ الشر العالمي، وسط خذلان غير مسبوق، وصمتٍ عربي وإسلامي، ودولي مُخجل... وندعو شعوب العالم الحر للوقوف في وجه الإبادة الجماعية بكل السبل الممكنة، ونؤكد أن دعم أهل غزة فريضة شرعية وضرورة إنسانية".
غزة مرآتنا جميعًا، وفضيحتنا أيضًا. تكشف تخاذل الأنظمة، وتفضح زيف التحالفات، وتضع كلّ فرد أمام ضميره: ماذا قدّمت؟ وأيّ موقف اخترت؟
لم تعد القضية بحاجة لمحللين، بل لرجال. لم تعد غزة بحاجة للبكاء، بل للبذل. لم يعد السكوت خيارًا، بل مشاركة في الجريمة.
هي مرآة صارخة.. فلننظر فيها جيدًا، قبل أن تنكسر.
"والله من وراء القصد".