غزة مرآة الأمة.. وفضيحتها
تاريخ النشر: 29th, July 2025 GMT
أحمد الفقيه العجيلي
في غزة، لا تنتهي المأساة عند حدود الدم، بل تبدأ منها.. بل باتت مرآة تكشف وجوهًا عديدة، بعضها كان مستورًا خلف أقنعة الكلمات، وبعضها كان ينتظر لحظة سقوط كهذه ليطفو على السطح.
ما يحدث هناك ليس مجرد عدوان، بل اختبار قيمي شامل. ليس امتحانًا لغزة، بل لنا جميعًا.. إنه الامتحان الأصعب: امتحان القيم والمبادئ والمواقف، امتحان للضمير الإنساني قبل أن يكون امتحانًا للمنظمات والحكومات.
وفي ظل هذا الصمت المريب، برز موقف الأزهر الشريف الذي أصدر بيانًا عميقًا بعنوان "صرخة ضمير": "السكوت عن هذه الجرائم هو اشتراك في الجريمة، ومنع المساعدات الإنسانية عن غزة هو خذلان للمظلوم، وتخلي الدول القادرة عن مسؤولياتها هو سقوط أخلاقي، ووصمة عار في جبين التاريخ".
لكن سرعان ما حُذف البيان، ليصدر لاحقًا نص أكثر تحفظًا، اعتبره كثيرون محاولة للتبرير لا اعتذارًا حقيقيًا.
وإذا أمعنتَ النظر في الآية الكريمة: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ﴾ [الأنفال: 73]، فستدرك أن الفساد الكبير المقصود هنا ليس فقط ظلم العدو، بل تخلي المسلمين عن النصرة، وتمييع المواقف، والركون إلى العجز.
هذا ما حذّر منه الدكتور علي السند في أحد مقاطعه، حين أنزل هذه الآية على واقع غزة، مؤكدًا أن فُرقة المؤمنين وتخاذلهم هو منشأ الفساد الأكبر.
اللافت أن المعادلة باتت واضحة حدّ الوجع: من جهة، كافّة قوى الباطل توحّدت، وتناسقت، ونسّقت، بل وحشدت، وسوّغت، ودعمت، وضمنت ألا يُمسّ العدو بسوء.
أمريكا وحدها قدّمت 7 مليارات دولار دعمًا عسكريًا، ووقفت بالفيتو 5 مرات في مجلس الأمن لإجهاض أي دعوة لوقف إطلاق النار.
أوروبا حشدت مواقفها السياسية والأمنية، وسخّرت إعلامها لتبييض الصورة. حاملات الطائرات تبحر لا لحماية المظلوم، بل لحماية الظالم.
في المقابل، لم يقم العرب والمسلمون بما أمرهم الله به من نصرة إخوانهم... لم يوحّدوا صفًّا، ولا أوقفوا تطبيعًا، ولا استثمروا مالًا، ولا وظّفوا إعلامًا، بل تركوا غزة تواجه مصيرها وحدها.
وقبل أيام، بثت قناة "المسلمون" تحقيقًا صحفيًا للصحفي أشرف إبراهيم بعنوان: "لماذا يتفرج الجميع بينما تقتل إسرائيل وأمريكا أهل غزة وتخططان لتهجيرهم؟"، كشف فيه وثائق خطيرة عن خطط مُحكمة لتهجير سكان غزة بدعم أمريكي مباشر، وتواطؤ مؤسسات كبرى، وبميزانيات مرصودة.
المثير أن خطة التهجير ليست مجرد فكرة، بل هناك سيناريوهات، ميزانيات، ودول مقترحة لاستقبال المهجرين، ونموذج مالي يُقدّر تكلفة ترحيل نصف مليون إنسان بـ5 مليارات دولار فقط!
بل هناك مشاريع مستقبلية لتحويل أراضي غزة إلى منتجعات استيطانية، تُباع على البلوكتشين، بأسماء فاخرة، وأحلام مصطنعة!
في هذه اللحظة الحاسمة، لا نطالب العالم الخارجي بأن يتحول فجأة إلى منقذ، ولا ننتظر من المنظومة الدولية أن تنصفنا، بعد كل هذا التواطؤ المكشوف.
وهنا تبرز المفارقة: بينما تتحالف قوى الباطل بلا تردد، لا يزال أهل الحق مختلفين متخاذلين.
وتاريخنا ليس بعيدًا عن مشاهد الحصار والتآمر. فغزة تُذكّرنا بما وقع للنبي ﷺ حين حوصِر في شِعب أبي طالب، وقّعت قريش وثيقة جائرة تقاطع النبي وأهله، كانت صرخات الجوع تُدوّي في أرجاء مكة.
لم تكن هناك منظمات دولية ولا قوانين إنسانية، لكن كانت هناك ضمائر حية... رجال من كفار قريش، لم يؤمنوا برسالته، لكنهم ثاروا على الظلم، ومزّقوا الصحيفة الجائرة.. لم يكتفوا بإصدار بيانات شجب، بل واجهوا الباطل بالفعل.. لم يتحدثوا عن "قلق بالغ"، بل تحركوا نصرة للمظلوم".
أما اليوم، فالعرب عقدوا (كامب ديفيد، أوسلو، وادي عربة، والتطبيع الأمني والتجاري)، ثم عادوا و"أدانوا" القتل بأضعف الإيمان.
السؤال الأعمق: لماذا لا نجرؤ على وضع إجراءات عملية حقيقية للضغط على الاحتلال؟ أن يُسحب سفير، أو يُغلق مكتب، أو يُقاطع منتج، أو تُستخدم ورقة نفط، أو تُرفع قضية في لاهاي، أو حتى يُسحب توقيع من ورقة تطبيع، أو تُغلق منصة تروّج للمحتل".
اليوم نطالب أصحاب القرار في أمتنا أن يتحلّوا ببعض من شهامة أولئك الذين لم يكونوا مؤمنين، أن يُدخلوا المساعدات لا أن يمنعوها، أن يكسروا الحصار لا أن يبرّروه، أن ينصروا المظلوم لا أن يعاتبوا صموده.
فأين نحن من تلك القيم اليوم؟! ومع ذلك، تقف الأمة متفرجة، "لا يصدر عنهم شيء سوى بيانات..."، ومواقف رمادية، وقمم تنتهي بعبارات محفوظة من قبيل: "ندعو المجتمع الدولي..."، "نعبّر عن بالغ القلق..."، "نطالب بوقف فوري...".
وما هو أشد إيلامًا أن بعض الأصوات تُحاول تبرير خذلان العرب لغزة، بزعم أن المقاومة هي من أشعلت الحرب وتتحمّل ما يترتب عليها! وكأن استهداف المدنيين وتجويع الأطفال أصبحا عقوبة يمكن قبولها!
هذا الموقف لا يُعبّر فقط عن رؤية سياسية مختلّة، بل يكشف عن انهيار أخلاقي عميق، وانفصال تام عن الفطرة السليمة، والقيم الدينية والإنسانية".
لقد توالت نصوص الوحي لتؤكد وجوب النصرة والوقوف مع المظلوم:
من القرآن الكريم:
{وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} (الأنفال: 72).
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: 10).
{وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} (هود: 113).
ومن السنة النبوية:
قال ﷺ: "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يُسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته" (رواه البخاري ومسلم).
وقال ﷺ: "من نصر مسلمًا في موطن يُنتقص فيه من عرضه، ويُستحل فيه من حرمته، نصره الله في موطن يحب فيه نصره" (رواه أبو داود).
كما قال ﷺ: "انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا"، قيل: ننصره مظلومًا، فكيف ننصره ظالمًا؟ قال: "تأخذ فوق يده" (رواه البخاري).
هذه النصوص ليست شعارات، بل تكليف، وعهد إيماني، ومؤشر على صدق الإيمان. فحين يتخاذل المسلم عن نصرة أخيه، ويهادن الظالم، يكون قد خان الرسالة، وفرّط في أعظم واجبات الأخوة.
"غزة تواجه وحدها منظومةَ الشر العالمي، وسط خذلان غير مسبوق، وصمتٍ عربي وإسلامي، ودولي مُخجل... وندعو شعوب العالم الحر للوقوف في وجه الإبادة الجماعية بكل السبل الممكنة، ونؤكد أن دعم أهل غزة فريضة شرعية وضرورة إنسانية".
غزة مرآتنا جميعًا، وفضيحتنا أيضًا. تكشف تخاذل الأنظمة، وتفضح زيف التحالفات، وتضع كلّ فرد أمام ضميره: ماذا قدّمت؟ وأيّ موقف اخترت؟
لم تعد القضية بحاجة لمحللين، بل لرجال. لم تعد غزة بحاجة للبكاء، بل للبذل. لم يعد السكوت خيارًا، بل مشاركة في الجريمة.
هي مرآة صارخة.. فلننظر فيها جيدًا، قبل أن تنكسر.
"والله من وراء القصد".
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
كلمات دلالية: امتحان ا
إقرأ أيضاً:
نحو 100 قتيل في هجوم الإنتقالي على حضرموت.. ومعلومات تكشف حجم الإنتهاكات التي ارتكبتها مليشياته هناك
قال المركز الأمريكي للعدالة ACJ إن نحو 100 قتيل سقطوا في سيئون بمحافظة حضرموت، شرق اليمن، في الهجوم الذي شن الإنتقالي الجنوبي المدعوم من الإمارات، خلال الأيام الماضية.
وكشف المركز إن التقديرات الأولية تشير إلى أن قتلى قوات الانتقالي وصل إلى 34، و حلف حضرموت 17 قتيلاً، والمنطقة العسكرية الأولى 24 قتيلاً، كما تم رصد قتيل مدني واحد. على الرغم من أن المواجهات لم تكن واسعة النطاق، بل كانت محدودة في أماكن معينة فقط في بداية المواجهات.
وأعرب المركز الأمريكي للعدالة (ACJ) عن إدانته وقلقه البالغ إزاء الهجوم لمنظم الذي نفذته قوات تابعة للمجلس الانتقالي الجنوبي، قادمة من محافظات الضالع وأبين وشبوة، وعدن على مدينة سيؤون وعدد من مديريات وادي حضرموت ومحافظة المهرة خلال الأيام الماضية.
وأظهرت المعلومات التي تلقاها المركز إلى أن المواجهات التي أدت الى سقوط عشرات القتلى والجرحى ارتكبت خلالها القوات التابعة للانتقالي ارتكبت انتهاكات جسيمة تمثلت في الاعتقالات ونهب المقرات الحكومية والمحال التجارية ومنازل المواطنين خصوصاً المنتمين إلى المحافظات الشمالية، في اعتداءات اتخذت طابعاً تمييزياً خطيراً يقوم على استهداف المدنيين وفق الهوية الجغرافية.
وبحسب المعلومات فقد طالت هذه الانتهاكات مدنيين وعسكريين، وأسفرت عن سقوط ضحايا واحتجاز العشرات ممن جرى نقلهم إلى معتقلات مستحدثة افرج عن بعضهم خصوصاً ممن ينتمون إلى محافظة حضرموت و أُجبر آخرون ينتمون إلى المحافظات الشمالية على الرحيل ولم يتمكن المركز من معرفة مصير المعتقلين.
وأكد المركز أن استمرار هذا النمط من الاعتداءات يشكل تهديداً مباشراً للسلم الاجتماعي، ويمسّ أسس التعايش بين مكونات المجتمع اليمني، كما يعمّق الانقسامات الداخلية ويفتح الباب أمام احتمالات توسع دائرة العنف في حال عدم اتخاذ إجراءات عاجلة لوقفها.
ووفق المركز برزت انتهاكات قوات الانتقالي أثناء اقتحام حضرموت، حيث بدأت تلك القوات باقتحام مؤسسات الدولة بالقوة، إذ دخلت المقرات الحكومية والعسكرية دون أي غطاء قانوني وفرضت سيطرتها عليها بقوة السلاح. كما أقدمت على اقتحام مقر المكتب التنفيذي لحزب الإصلاح، والعبث بأثاثه وجميع محتوياته، بالتزامن مع الاعتداء على الحراس وترويعهم ونهب مقتنيات شخصية، في استهداف مباشر للحياة السياسية.
وامتدت الاعتداءات إلى مداهمة منازل مسؤولين، بما في ذلك منزل وزير الداخلية ومنزل الوكيل الأول لوزارة الداخلية، كما داهمت تلك القوات منازل الجنود والضباط القريبة من المنطقة العسكرية الأولى، كما تسببت في ترويع الأهالي، إضافة إلى نهب ممتلكات شخصية تخص الجنود وعائلاتهم.
ولم تتوقف الانتهاكات عند ذلك، إذ أجبرت القوات بعض التجار على فتح محلاتهم بالقوة قبل أن تتركها للعصابات لنهب محتوياتها، كما اعتدت على مصادر رزق البسطاء من خلال اقتحام الدكاكين والبسطات في سيئون ونهبها في وضح النهار. كما طالت الانتهاكات الممتلكات الخاصة للسكان، حيث قامت عناصر تابعة للانتقالي بنهب أغنام عدد من الأسر في منطقة الغرف بسيئون، في انتهاك صريح لحقوق المواطنين وممتلكاتهم. وبلغت خطورة الأفعال حد فتح مخازن الأسلحة والذخيرة وتركها للنهب، الأمر الذي يثير مخاوف حقيقية من أن يؤدي نهب الأسلحة إلى مفاقمة حجم الانتهاكات وزيادة احتمالات استخدامها في أعمالعنف جديدة، وخلق حالة من الفوضى.
إلى جانب ذلك، عملت تلك المجموعات على نشر خطاب الكراهية وإثارة الانقسام المجتمعي من خلال استخدام لغة عدائية ومناطقية ضد أبناء حضرموت، ما أدى إلى رفع مستوى الاحتقان والتوتر الاجتماعي الأمر الذي قد يؤدي إلى موجة عنف في محافظة ظلت آمنة وبعيدة عن الصراع طيلة فترة الحرب.
وأشار المركز إلى أن هذه الاعتداءات تمثل انتهاكاً صارخاً للمبادئ والاتفاقيات الدولية، إذ تحظر اتفاقيات جنيف لعام 1949 أي اعتداء على المدنيين، وتمنع الاعتقال التعسفي ونهب الممتلكات أثناء النزاعات المسلحة، فيما يقرّ العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية بحظر الحرمان من الحرية دون أساس قانوني وتجريم التمييز العرقي وسوء المعاملة. كما يؤكد القانون الدولي العرفي على أن استهداف المدنيين على أساس الهوية يشكل جريمة حرب، بينما يصنف ميثاق روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الاعتقال التعسفي واسع النطاق والاضطهاد القائم على الهوية ضمن الجرائم_الإنسانية.
ودعا المركز الأمريكي للعدالة (ACJ) قيادات المجلس الانتقالي الجنوبي إلى #وقف_الاعتداءات فوراً، وتحمل المسؤولية الكاملة عن الجرائم المرتكبة، وعن سلامة المدنيين والعسكريين المختطفين. كما يطالب بالإفراج الفوري وغير المشروط عن جميع المختطفين، ووقف #الاعتداءات_الهوياتية، وفتح تحقيق مستقل وشفاف لضمان محاسبة المنتهكين، وتوفير الحماية للمدنيين بما يمنع تكرار مثل هذه الجرائم التي تهدد السلم المجتمعي في اليمن.
وشدد المركز الأمريكي للعدالة على أن حماية السكان وعدم استهدافهم على أساس مناطقي يُعد التزاماً قانونياً وأخلاقياً، وأن استمرار الإفلات من العقاب يساهم في تكرار الانتهاكات ويعرّض الاستقرار الاجتماعي لمخاطر جادة، الأمر الذي يستدعي تدخلاً عاجلاً من الجهات المحلية والدولية لضمان إنصاف الضحايا وتعزيز سيادة القانون.