صحيفة التغيير السودانية:
2025-06-06@21:13:50 GMT

المجال القاتل

تاريخ النشر: 24th, February 2025 GMT

المجال القاتل

وجدي كامل

تساعد وسائل التواصل الاجتماعي، ومنذ سنوات، في إثبات حقيقة أن المجال العام السوداني، وعلى وجه الدقة، مجال قاتل لا محالة. فهو فسحة مجانية لكل من أراد التنمر أو تشويه سمعة الآخرين لأسباب تخصه أولًا قبل أن تهم الآخرين. وتُعد منصات مثل تويتر وفيسبوك أكثر اشتعالًا من غيرها بهذه الممارسات، حيث تتواتر فيها مظاهر العداء بين المشاركين.

وتلعب ما تُعرف بـ “ديمقراطية النشر” الدور الأهم في جعل هذا الأمر ملحوظًا وظاهرة لا تخطئها العين. فالضحايا في هذا المجال هم أصحاب المبادرات أولًا، أو الأشخاص الذين يتسمون بالجرأة والشجاعة في إبداء آرائهم وإعلان مواقفهم من القضايا المختلفة، ولا سيما القضايا السياسية. هذه الفئة هي محور اهتمام هذا المقال، وليست الشرائح الأخرى التي يدفعها الشغف لحب الظهور أو السعي وراء الاختلاف لأجل الاختلاف. فهؤلاء، الذين لا يستحقون الالتفات إليهم، نجدهم – للأسف – يحظون بكل الاهتمام، بل وربما التشجيع على الاستمرار في ممارساتهم.

أما من يبادر ويجرؤ على إعلان موقف سياسي أو فكري أو وجودي، فإنه سرعان ما يتعرض لحملة هجوم شرسة، تُستخدم فيها جميع الوسائل الممكنة للحط من قيمته والتقليل من شأنه. لا أحد يسعى إلى فتح المجال للحوار أو النقاش المفيد مع هذا الشخص، بل عليه أن يكون مستعدًا لتلقي سيلٍ من الإساءات والتجريح، مستخدمًا أشنع ما يتوفر في قاموس البذاءة، الذي يبدو أنه قد أُعد سلفًا لهذا الغرض.

لماذا يحدث كل ذلك؟. من الصحيح، كما ذكرنا آنفًا، أن من خصائص وسائل التواصل الاجتماعي أنها تمنح الجميع فرصة التعبير عما يختلج في صدورهم ويعتمل في عقولهم. ولكن هذه الحرية تُمارَس أحيانًا دون ضوابط، مما يؤدي إلى إلحاق أضرار جسيمة بالمجال العام. فنحن، في هذا الفضاء، نتعرض للكثير من المضايقات، مثل المحتوى الفاضح، والاستعراض المفرط للصور الشخصية، والأخطاء النحوية والإملائية. ومع ذلك، فإن أكثر أشكال الأذى ضررًا هو العبارات الجارحة والخادشة، سواء كانت مكتوبة أو منطوقة أو مصورة.

نسبة كبيرة من الناس، وخاصة بعد الحرب، بدأت وكأنها اختارت التنمر مهنة لها، فتجدهم وكأنهم يشحذون أقلامهم وسكاكينهم، جالسين في انتظار “المارّة الإسفيريين” لينقضّوا عليهم بعباراتهم السامة. ولا يقتصر الأمر على إطلاق رصاص البذاءة، بل يتعداه إلى التخوين والإهانة والتقليل من شأن الآخرين، حتى يصل إلى مستوى الإسقاط التام لمسيرة الأفراد ومسحهم بالأرض. هذا هو حال معظم التعليقات على المواقف المتعارضة، سواء عبر البث المباشر (Live) أو التسجيلات الصوتية.

إن الردود الفورية في هذه المساحات لا تنم عن رغبة في الحوار المثمر وتحسين الأفكار، بل تهدف بشكل مباشر إلى الهجوم على أصحاب الآراء المختلفة.

التنمر والتنوع الفكري: ساعدت الحرب، بلا شك، في رفع درجة التوتر والتسبب في انفلات الأعصاب لدى الغالبية، نتيجة لما يرافقها من أحداث يومية قاسية. ولكن التنمر، سواء في اللغة أو السلوك، لا يستهدف فقط القضاء على المختلفين فكريًا، بل يسعى إلى إلغاء التنوع في الآراء والانحيازات. بينما يفترض أن يكون **الاختلاف حافزًا للحوار والتفاعل البناء، إلا أن ما يحدث في الواقع هو العكس، حيث يتم إقصاء كل رأي مخالف وشيطنته.

يؤمن أغلب المشاركين في هذا الفضاء بامتلاكهم المطلق للحقيقة، ويرفضون الاعتراف بأن هناك جوانب أخرى لها قد تكون لدى الآخرين. هذا التصور يؤدي إلى تصاعد الكراهية، التي لا تتوقف عند التعبير عنها لفظيًا، بل تتطور إلى أشكال أكثر عدوانية، قد تصل في بعض الأحيان إلى العنف الفعلي. وهنا، تتضح العلاقة الوثيقة بين التطرف الفكري والعنف المادي، حيث تنتهج بعض الجماعات المتطرفة هذه الأساليب ليس فقط للوصول إلى السلطة، بل للحفاظ عليها عبر القضاء على المخالفين، حتى لو تطلب الأمر إشعال الحروب وتدمير المكتسبات الوطنية.

وهذا بالضبط ما جرى – وما يزال يجري – في واقعنا اليوم، نتيجة لهيمنة هذه الثقافات والإيديولوجيات العدوانية.

إن استمرار الحرب كهدف في حد ذاته، وكحالة مرضية مزمنة من قبل أطرافها المؤججة لنيرانها، يجعل إيجاد حلول لقضية أنسنة المجال العام معضلة متنامية. فاقتراحات مثل بناء أدب الحوار، وعقلانية النقاش، ونشر ثقافة التصالح واحترام الرأي الآخر عبر المناهج التعليمية والأساليب التربوية، وتوسيع فرص إقامة الورش، تصبح أهدافًا بعيدة المنال في ظل الظروف الراهنة.

وكان من الممكن الإشارة إلى خلو منصات التواصل من التحذيرات والعقوبات، ولكن رغم توفر ذلك في متن سياساتها المعلنة، فإن حجم الضرر الذي يلحق بالمشتركين جراء التنمر والقذف الإلكتروني يتصاعد يومًا بعد يوم، خاصة مع استمرار الحرب. وإذا كان من المهم تعميق مكافحة الحسابات الوهمية، فسنجد أن نسبة ضخمة من تلك الحسابات تعود إلى المكاتب الإعلامية لمؤسسات الأمن والمخابرات، التي تنشط في جعل الحرب واقعًا معاشًا.

وإذا كان يُنصح بتفعيل القوانين الرادعة للسب والقذف والإساءة الإلكترونية عبر إنشاء وحدات لمتابعة جرائم الإنترنت، فإن تلك الخطوة ستواجه صعوبات كبيرة بسبب تخلف البنية التقنية داخل مؤسسات العدالة السودانية، ناهيك عن اختفائها حاليًا. لقد كان من الممكن المناشدة بدعم وتعزيز التنوير بالحقوق لدى جمهور المستخدمين الإلكترونيين، ولكن واقع الحرب جعل الجميع في مواجهة الجميع، مما فاقم أزمة الحقوق، وانتقل بها من مرحلة “أخذ الحق باليد” إلى “أخذ الحق بالسلاح”، ونشر ثقافة أشد فتكًا، هي ثقافة الانتقام والتأديب باستخدام أدوات السلطة.

عليه، وبناءً على ما سبق، فإن العلاجات والنصائح التي تُطرح لمثل هذه المشكلات، على أنها حلول ناجعة، ستجد نفسها عاجزة عن التطبيق بسبب غلبة ثقافة العنف والإقصاء، وتأثيرها في تعطيل أي إجراءات مضادة لها. وأكبر دليل على ذلك، أن اقتراح إنشاء مواثيق شرف لمنع انتشار الأخبار والمعلومات الكاذبة.

الوسوموجدي كامل

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: ثقافة ا

إقرأ أيضاً:

مجانا حتى 7 يونيو.. العرض المسرحي رصد خان على مسرح قصر ثقافة كوم أمبو

قدمت فرقة كوم أمبو المسرحية أولى ليالي العرض المسرحي "رصد خان" على مسرح قصر ثقافة كوم أمبو، ضمن عروض الموسم الحالي للمسرح الإقليمي التي تنظمها الهيئة العامة لقصور الثقافة برئاسة اللواء خالد اللبان، بإقليم جنوب الصعيد الثقافي، في إطار برامج وزارة الثقافة، ويستمر تقديمه مجانا حتى 7 يونيو الحالي.

يعرض العمل بإشراف الكاتب محمد ناصف نائب رئيس الهيئة، من خلال الإدارة المركزية للشئون الفنية برئاسة الفنان أحمد الشافعي، ومن تأليف محمد علي إبراهيم، ألحان عبد المنعم عباس، أشعار طه الأسواني، ديكور شادي قطامش، مخرج منفذ علي جودة، وإخراج إيهاب زكريا ياسين.

تدور أحداث العرض في أجواء من الفانتازيا حول "ابن غانم"، وهو شخص شغوف بجمع الأنتيكات وكتب السحر ونبش المقابر، يدخل في رحلة بحث عن كنز قارون الذي خُسف به الأرض، وفي سبيل ذلك يدمن السحر ويرتكب الشرور من زنا وقتل وتحالف مع رصد الجبانة، ويبني خانا أثريا يضم تركته، ليجد نفسه في النهاية خاسرا كل شيء بعد أن يستدرجه الشيطان ويكتب وصيته محذرا أحفاده.

وبعد مرور السنوات، تعثر "سجايا" إحدى حفيداته على مذكراته الناقصة، وتسعى وراء الكنز، فتنشر إعلانا لاستدعاء الورثة وتتخلص منهم واحدا تلو الآخر، إذ لا بد من التضحية بالدم لصعود الكنز، ليقتل الورثة بعضهم البعض.

وأوضح المخرج إيهاب زكريا أن العرض يعتمد على الفانتازيا والرمزية والتجريب، مقدما مشاهد درامية بصرية تتسم بالغموض والإثارة، حيث تم تصميم الخان الأثري بديكور يضم أعمدة وحوائط موشومة بالطلاسم، إلى جانب عرائس ومسكات تمثل الخطايا السبع، واستخدمت الموسيقى والألحان بتوزيع شيطاني لتكثيف أجواء التوتر والغموض.

العرض إنتاج الإدارة العامة للمسرح برئاسة سمر الوزير، ويقدم بالتعاون مع إقليم جنوب الصعيد الثقافي بإدارة محمود عبد الوهاب، وفرع ثقافة أسوان برئاسة يوسف محمود، ويعرض كذلك على مسرح قصر ثقافة قنا يوم 10 يونيو الحالي ضمن عروض المسرح الإقليمي.

طباعة شارك فرقة كوم أمبو المسرحية رصد خان مسرح قصر ثقافة كوم أمبو عروض الموسم الحالي اللواء خالد اللبان

مقالات مشابهة

  • انتشار «ثقافة الأكل» في الخارج !
  • فرنسا تطالب الحوثيين بالإفراج الفوري عن موظفي الأمم المتحدة
  • مجانا حتى 7 يونيو.. العرض المسرحي رصد خان على مسرح قصر ثقافة كوم أمبو
  • مجموعة “متحالفون من أجل إنقاذ الأرواح والسلام بالسودان” تدين الهجوم الذي استهدف قافلة إنسانية تابعة للأمم المتحدة
  • القوات البحرية تستلم القاطرة رأس الحكمة من شركة ترسانة الإسكندرية
  • وزير التعليم العالي يبحث مع القائم بالأعمال القبرصي التعاون في المجال العلمي وتبادل الخبرات
  • الوزير الشيباني: الاعتداءات الإسرائيلية على الأراضي السورية انتهاك لسيادة سوريا وتفتح المجال أمام الجماعات التي تهدد أمنها لزعزعة الاستقرار.
  • القبض على المتهم بالتعدى على شخص بسلاح بسبب التنمر.. فيديو
  • مركز تفكير بريطاني: دعم بريطانيا لمخطط الحكم الذاتي يفتح المجال لتعزيز التعاون بين الرباط ولندن
  • "أمهات المختطفين" تدين استمرار اختطاف الحوثيين لموظفين أمميين وتطالب بإطلاق سراحهم