في ليلة الجمعة، 25 تموز/ يوليو 2025، هزّت مجموعة شبابية تُطلق على نفسها اسم "الحديد 17" المشهدَ السياسي المصري بإعلانها عن اقتحام غير مسبوق لقسم شرطة المعصرة في حيّ حلوان، حيث تمكّنت من احتجاز عدد من أفراد الأمن، مطالبة بفتح معبر رفح في وجه الجرحى والنازفين من غزة. لم تطلق الرصاص، لم تحمل سوى صرخة: "افتحوا المعبر!" فاختفوا.



لا يُعرف مصير الشبان حتى اليوم؛ لا محاكمة، لا بيان رسميا، لا ظهور، فقط اختفاءٌ قسريّ يُضاف إلى أرشيف طويل من العقاب العربي لمن ناصر فلسطين. في هذا الشرق المقموع، لا تحتاج إلى سلاح كي تُجرَّم، يكفي أن تذكر غزة.

وهنا تحديدا، يجب أن يُطرَح السؤال: من الأوفى لفلسطين؟ الذي يُهتف لها في ساحة محميّة؟ أم الذي يُقتاد إلى العدم لأنه أراد أن تُفتح لها بوابة نجاة؟

من الأوفى لفلسطين؟ الذي يُهتف لها في ساحة محميّة؟ أم الذي يُقتاد إلى العدم لأنه أراد أن تُفتح لها بوابة نجاة؟
هذا المقال ليس رثاء، بل تفنيد لأسطورة زائفة: أن الغرب أكثر فلسطينية منّا.

مصر: حين يصبح حبّ فلسطين تهمة

في حزيران/ يونيو 2024، وثّقت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية اعتقال 150 مواطنا مصريا بسبب تعبيرهم عن التضامن مع غزة، بينهم أطفال ومراهقون.

الاتهامات؟ "الانضمام إلى جماعة إرهابية"، "نشر أخبار كاذبة"، "التحريض على التجمهر". جميعها صيغ قانونية تُستخدم لإخراس أبسط أشكال التعبير.

هذه ليست حالة استثنائية، بل امتداد لخطّ طويل في التعامل مع فلسطين كملف حساس لا يجوز للمواطن العادي الاقتراب منه. وكل من يتجاوز تلك "الحدود" -حتى لو بكلمة أو وسم- يوضع في مرمى القمع.

ولا يمكن تجاهل السياق الأوسع: ففي عام 2012، حين انتُخب محمد مرسي رئيسا، كان أبرز وعوده العلنية: "غزة لن تكون وحدها". ذلك الوعد -قبل أي سياسة داخلية- شكّل تحديا للمعادلات الإقليمية، وربما كان من أوائل الأسباب التي عجّلت بإنهاء حكمه.

تونس: حين صرخ الشعب باسم فلسطين قبل أن يرتّب نفسه

في لحظة انهيار النظام التونسي يوم 14 كانون الثاني/ يناير 2011، وقبل أن تلتقط القوى السياسية أنفاسها، خرج الشارع العفوي يهتف: "الشعب يريد تحرير فلسطين".

كان ذلك الهتاف صادما لكثيرين، ففلسطين لم تكن على جدول أعمال النخب، ولا في قوائم المطالب، لكنه كان صادقا، نابعا من ذاكرة شعبية رسّختها الانتفاضات، والمدارس، والإذاعة، وتاريخ احتضان منظمة التحرير في تونس بعد خروجها من بيروت.

وحين عاد التضييق في السنوات الأخيرة، صار رفع العلم الفلسطيني في مظاهرة طلابية أو منشور على فيسبوك مدعاة للاستدعاء أو التحقيق. فالاستبداد يعرف أن فلسطين لا توحّد فقط، بل توقظ، وتربك، وتربّي على ما هو أعظم من الدولة البوليسية.

لبنان: البلد الذي لم يهتف فقط.. بل نزف

في عام 1982، حين اجتاحت إسرائيل بيروت، لم تكن مقاومة الاحتلال خطابا سياسيا، بل واقعا يوميا. وفي عام 2006، حين قُصف الجنوب والضاحية، لم تكن فلسطين مجرد لافتة، بل كانت البوصلة.

لبنان لم "يتضامن" مع فلسطين من بعيد، بل قاوم معها، ومن داخل نسيجه. فلسطين في لبنان لم تكن هوية طارئة، بل مكونا من المخيمات، من الذاكرة، من الرصاص، ومن أوجاع الناس.

وهناك، لم يكن القمع هو ما يمنع الموقف، بل الموت نفسه. ومع ذلك، اختار الناس أن يقاوموا، لا أن يصمتوا.

المغرب: حين يصبح التضامن محاصرا باتفاق التطبيع

وفي المغرب، لم يكن المشهد مختلفا. فخلال العدوان على غزة، خرجت تظاهرات ضخمة في الرباط والدار البيضاء، واجهتها قوات الأمن بقمع ممنهج. مُنعت التجمعات، فُضّت الوقفات، وتم استدعاء ناشطين للاستجواب بسبب منشورات.

ورغم أن المغرب دولة وقّعت اتفاق تطبيع مع إسرائيل، إلا أن الشارع ما زال يحمل لافتة واحدة: "فلسطين ليست للبيع". ولماذا لا تُقمع المظاهرات في الغرب أيضا؟

صحيح أن المتضامنين مع غزة في أوروبا وأمريكا يملكون هامشا واسعا للتعبير، لكن هذا الهامش ليس مطلقا. فقد تم فصل عشرات الطلاب والأساتذة في جامعات أمريكية وبريطانية بسبب مشاركتهم في حملات تدعو لمقاطعة إسرائيل أو تنتقد جرائمها. حركات مثل "طلاب من أجل العدالة في فلسطين" تعرضت للتهديد بالإغلاق، وبعض الصحفيين فقدوا وظائفهم بسبب كلمة واحدة في تغريدة.

لا يعني هذا تبرير القمع العربي، بل فضح النفاق العالمي. فالمنظومة السياسية الغربية التي تسمح بالمظاهرات، هي ذاتها التي تموّل آلة القتل في غزة، وتمنع أي مساءلة حقيقية في المحافل الدولية.

لذا، فإن المقارنة بين "الشارع الغربي" و"الشارع العربي" لا تصمد أخلاقيا أو سياسيا. الأول يتظاهر بإذن القانون، والثاني يتظاهر رغم القانون.. الأول يعود إلى بيته بعد الهتاف، والثاني لا يعود أبدا.

ليس تنافسا في الوفاء.. بل سؤال في منطق القمع

لا يهدف هذا المقال إلى نزع القيمة عن مظاهرات الغرب، ولا إلى التقليل من شجاعة الأصوات المتضامنة مع فلسطين، بل هو تذكير بأن المعيار الحقيقي للوفاء لا يُقاس بعدد اللافتات، بل بحرية رفعها.

المشكلة ليست في تضامن الآخرين، بل في أن تضامننا -كعرب- صار جريمة.

الشعوب المغيَّبة لا الغائبة

إنّ مقارنة العرب بالغرب في ميزان "الدعم لفلسطين" تغفل بُعدا جوهريا: السياق السياسي للقمع. الغربي يهتف وهو محمي بدستور، بينما العربي يُخضع لأيّ تهمة جاهزة.

خطاب "الغرب أكثر وفاء لفلسطين" ليس فقط مضللا، بل يُعيد إنتاج صورة العربي المتخاذل، المنكفئ، غير الجدير بقضاياه. إنه امتداد ناعم للاستشراق، لكنه بنسخة رقمية
من القاهرة إلى عمّان، ومن الرباط إلى الخرطوم، لا يحتاج القمع سوى ذريعة: منشور، وسم، وقفة صامتة، أو حتى تبرع مالي. ومع ذلك، تخرج الأصوات، رغم التضييق، وتبقى فلسطين حيّة في الشوارع العربية، كلما سنحت الفرصة.

هذه السردية ليست بريئة

خطاب "الغرب أكثر وفاء لفلسطين" ليس فقط مضللا، بل يُعيد إنتاج صورة العربي المتخاذل، المنكفئ، غير الجدير بقضاياه. إنه امتداد ناعم للاستشراق، لكنه بنسخة رقمية.

فالغربي عقلاني شجاع، والعربي خائف صامت.. الغربي يواجه الشرطة، والعربي يُكمَم من قبلها. لكن الواقع غير ذلك.

من الذي يصادر الإعلام؟ من يمنع المظاهرات؟ من يعتبر فلسطين ملفا أمنيا لا وجدانيا؟ ليست الشعوب من اختارت الصمت، بل فُرض عليها. ولم تسكت.. بل مُنعت.

خاتمة: حين يُمنع عنك الحلم، يصبح الحلم مقاومة

في هذا العالم المعكوس، يُكافأ من يرفع علم فلسطين في ساحة مرخّصة، ويُخفى قسرا من يهتف باسمها في عاصمة عربية، يُصفَّق للمتضامن حين يكون الهتاف بلا ثمن، ويُقطع الصوت حين يصبح الهتاف مشروعا للتحرر.

هذا المقال لا يسعى لانتزاع شهادة وفاء، بل فقط لتذكير العالم: أن العربي حين يحبّ يدفع كل شيء، حتى حقّ الظهور، حتى صوته، حتى اسمه.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء العربي فلسطين الغرب التضامن القمع فلسطين الغرب تضامن قمع عرب قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء مقالات مقالات مقالات سياسة مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الذی ی لم تکن

إقرأ أيضاً:

كاتب بريطاني: الغرب شريكٌ في جريمة تجويع غزة

#سواليف

اتهم الكاتب البريطاني #أوين_جونز، في مقال نشرته صحيفة “الغارديان”، #الحكومات_الغربية بالتواطؤ في #جريمة_التجويع_الجماعي التي يرتكبها #الاحتلال بحق #الفلسطينيين في قطاع #غزة، مؤكداً أن هذه الجريمة ما كانت لتتم لولا الغطاء الذي وفره الحلفاء الغربيون.

وأوضح جونز أن التصرفات الغربية، التي اتخذت شكل “القلق” الإنساني، لم تكن سوى مظاهر جوفاء، في وقت كان فيه الجميع على علم تام بما يجري على الأرض. وتساءل: “بينما كانت جهات تابعة للأمم المتحدة تحذر من أسوأ سيناريو لمجاعة في غزة، كان من المفترض أن يسأل زعماء الغرب أنفسهم: ماذا فعلنا؟”.

وأشار الكاتب إلى أن تجويع الفلسطينيين في غزة لم يكن فقط فعلاً متعمداً من قِبل الاحتلال، بل جاء أيضاً بإعلانات رسمية واضحة، حيث صرّح قادة الاحتلال منذ بداية العدوان بمنع إدخال الطعام والماء والكهرباء. واستشهد بتصريحات وزير الحرب السابق يوآف غالانت، ومنسق الاحتلال غسان عليان، ورئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، التي وصفوا فيها الفلسطينيين بـ”الحيوانات البشرية” و”البهائم”، ضمن خطاب تبريري لحصار شامل هدفه حرمان القطاع من مقومات الحياة الأساسية.

مقالات ذات صلة الخميس .. أجواء صيفية اعتيادية 2025/07/31

وبيّن جونز أن هذه التصريحات لم تلقَ تغطية جادة في الإعلام الغربي، وإن وردت، فبشكل عابر، دون إبراز ما تحمله من دلالات قانونية وإنسانية خطيرة. وأكد أنه لو تم التعاطي معها كما يجب، لما كان بالإمكان تصوير العدوان الإسرائيلي على غزة كـ”حرب دفاعية”، بل كجريمة موصوفة بكل المعايير.

وانتقل الكاتب لتعداد الأدلة على معرفة الغرب بالتفاصيل الكاملة لما يجري، من بينها رسالة أرسلها وزير الخارجية البريطاني السابق ديفيد كاميرون في آذار/مارس 2024، أقر فيها باستخدام الاحتلال أساليب لمنع دخول المساعدات إلى غزة، إلى جانب تقارير أمريكية رسمية أكدت أن الاحتلال كان يعرقل تدفق المساعدات، وهو ما كان يستدعي قانونياً وقف واشنطن تصدير الأسلحة له، إلا أن البيت الأبيض تجاهل ذلك.

ولفت جونز إلى أن الاحتلال ارتكب المجزرة الأكبر في التاريخ الحديث بحق عمال الإغاثة، حيث قتل أكثر من 400 منهم حتى ربيع العام الجاري. وأوضح أن جيش الاحتلال لم يكتفِ بذلك، بل استهدف ضباط الشرطة المرافقين للقوافل الإنسانية، ودمّر الأراضي الزراعية، وقتل المواشي، وضرب البنية التحتية للصيد، في محاولة لشلّ جميع مصادر الغذاء داخل القطاع.

وأضاف أن جريمة الاحتلال لم تقتصر على منع الغذاء، بل شملت قتل من حاولوا الوصول إليه، كما حدث في شباط/فبراير 2024 حين قتل جيش الاحتلال أكثر من مئة فلسطيني أثناء انتظارهم الحصول على الدقيق، وهو ما أثبته لاحقاً تحقيق أجرته شبكة “سي إن إن” أكدت فيه أن من أطلق النار هو جيش الاحتلال.

وفي آذار/مارس، فرض الاحتلال حصاراً مطبقاً على قطاع غزة، أوقف خلاله برامج الأمم المتحدة الإنسانية، واستبدلها بـ”مؤسسة غزة الإنسانية”، التي تحوّلت، بحسب وصف جونز، إلى “حقول قتل”، إذ صمّمت تلك المراكز لدفع الفلسطينيين نحو الجنوب، حيث يُحتجزون في ما وصفه رئيس وزراء الاحتلال السابق إيهود أولمرت بـ”معسكر اعتقال”، في سياق خطة ترحيل ممنهجة.

كما انتقد جونز بشدة الروايات التي تبنتها وسائل الإعلام الغربية، وزعمت أن حركة “حماس” تسرق المساعدات، رغم أن برنامج الغذاء العالمي، وتحقيقات داخلية أمريكية وإسرائيلية، نفت صحة هذه الادعاءات. وأكد أن العصابات التي تسرق المساعدات هي مجموعات إجرامية مدعومة من الاحتلال، وترتبط ببعض الجهات ذات الصلة بـ”داعش”، وفق تقارير متعددة.

وصف الكاتب مذكرات التوقيف التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية بحق قادة الاحتلال بسبب جريمة التجويع بأنها “خطوة منطقية”، مشيراً إلى أن الأدلة الدامغة لا تترك مجالاً للشك. وقال إن دخول المساعدات بكميات كبيرة اليوم لن ينقذ كثيراً من الفلسطينيين الذين أنهكهم الجوع، بعدما نخرت أجسادهم، مضيفاً أن هذه المأساة لم تعد على جدول أولويات العالم.

وخصّ جونز بالانتقاد رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، بسبب دعمه المتكرر للحصار الإسرائيلي على غزة، وترويج حكومته لمبدأ الإنزالات الجوية، التي وصفها بأنها “لا تكفي، وقتلت مدنيين حين سقطت عليهم”، معتبراً أن هذه الإجراءات محاولة لصرف الانتباه عن الجريمة الأصلية: التجويع الجماعي المتعمّد.

واختتم مقاله بالتساؤل: “ماذا فعلنا؟”، ليجيب بأن النخب الغربية، لو كانت تملك ذرة من خجل، لكان هذا السؤال يؤرقها، لكن الحقيقة أن الغرب وفّر غطاءً لجريمة تجويع شعب بأكمله، رغم الأدلة الدامغة، لأن الجاني هو “الصديق”، وقد تفاخر علناً بجريمته. وأضاف: “للأسف، لن يحاسب أحد نفسه، سيُترك ذلك للتاريخ والمحاكم”.

مقالات مشابهة

  • كاتب بريطاني: الغرب شريكٌ في جريمة تجويع غزة
  • مشروبات منعشة توازن سكر الدم بشكل طبيعي
  • لم نَعُدْ .. كما كُنّا
  • ساكاليان لـ سانا: زيارة فريق اللجنة الذي ضم مختصين من مجالات متعددة لمحافظة السويداء شكلت فرصة لفهم الوضع بشكل أفضل وتوسيع نطاق الاستجابة لتلبية الاحتياجات الأكثر إلحاحاً، وذلك بالتعاون الوثيق مع الهلال الأحمر العربي السوري
  • جيفارا الشرق.. المناضل اللبناني “جورج عبدالله” .. صلابة الموقف واستمرار النضال
  • العربي الناصري: السفارات ليست ساحة للصراعات.. ومصر تدفع ثمن التزامها تجاه فلسطين
  • تعليق مثير من نجم الزمالك السابق على انتقال زيزو لـ الأهلي
  • حمادة عبد اللطيف: انتقال زيزو للأهلي أنقذ أوضة لبس الزمالك من المشاكل
  • الرئيس السيسي: أوجه نداء خاص للرئيس ترامب لأنه هو القادر على إيقاف الحرب وإدخال المساعدات