قبل عدة أسابيع تلقيتُ اتصالًا من هاتف أرضي، صوتُ شاب متردد، يسألني ـ بصفتي مشرفًا على صفحة الشعر الشعبي بجريدة عمان ـ إن كان بإمكانه نشر قصيدته في الجريدة، أجبته أن ذلك ممكن بالطبع، حسب صلاحية قصيدته، سألته: «مَن معي؟».. كانت إجابته صاعقة، وغير متوقعة، «أنا نزيل في السجن المركزي»!!، توقفتُ فجأة، وكأنني أحاول أن أستوعب ما يقول، ثم أردف: «دخلتُ السجن وأنا في سن الثامنة عشرة، والآن أنا في الثالثة والعشرين من عمري»!!، لم أتمالك نفسي من الدموع، سألتُ الله أن يفك كربته، قال: «إنهم يقرؤون الصحف، ويمارسون هواياتهم بشكل دائم، وإن إدارة السجن تبنّت طباعة ديوانه الشعري الأول، وأن لديه مشروع طباعة ديوان ثانٍ»، كان حديثه يشع أملا، رغم كل معاناته، وعدني بإرسال قصائده، وما زلتُ بانتظاره.
وفي بدايات شهر رمضان تلقيتُ اتصالا من نفس الهاتف، هذه المرة صوت شاب آخر، صوت يبدو أنه مثقف، ينتقي عباراته بعناية، ويتحدث بصلابة، وثقة، عرّفني بنفسه، اعتقدتُ في البداية أنه أحد موظفي السجن، غير أنه اتضح أن المتصل «نزيل» آخر!!، دار بيننا حوار طويل، أشاد فيه «بإدارة السجون، والتعامل الإنساني الذي يحظون به، وكيف يحافظ السجناء عل معنوياتهم مرتفعة، وعن الأوقات التي يقضونها، ويمارسون فيها هواياتهم المختلفة»، وعبّر عن ندمه على فعلته التي أوصلته السجن، كان يتحدث عن «مكان» شعرتُ بأنه مثالي!!، كانت الصورة الذهنية للسجن بالنسبة لي وللكثيرين أنه عبارة عن أربعة جدران، يُحبس فيها المذنب حتى انقضاء عقوبته، ولا يخرج فيها إلا لأداء «الأشغال الشاقة»، ثم يعود إلى زنزانته.
أرسل لي النزيل من خلال طرف ثالث، رسالة صوتية على «الواتس آب»، هي عبارة عن المقال التالي الذي أنشر الجزء المهم منه كما هو دون تعديل، وعنونه الكاتب بـ «دور إصلاحنا العمانية»، يقول فيه:
« من دور الإصلاح العمانية، وفي شهر رمضان الكريم، تجلّت عظمة ما قاله الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم-: (الدين المعاملة)، حيث تبرز الإنسانية، والرقي في التعامل، من قبل (الإدارة العامة للسجون)، التي عملت على الإصلاح والتأهيل، بجميع الوسائل والطرق، لتفرز للعالم صميم الأخلاق العمانية المتوارثة، طيبا، وحسن خلق، وإخاء، وعطف، تجلّى في إنسانية السجّان، ليكون نموذجا عالميا مشرّفا لدور إصلاحنا، وما وصلت إليه من مستويات راقية، ومن خلال هذه الأسطر سنعكس وقائع حقيقية عن عالم قد يكون محجوبا عن العالم الآخر، فها نحن في جناح رقم (7)، حيث يوجد أقدم النزلاء، وأصحاب الأحكام الكبيرة، تتجلى روح الإنسانية في تعامل الإدارة، مع هذه الفئات، فمن يتوقع أنه في هذا الجناح، تُقام (السُفَر)، والموائد الرمضانية الجماعية، التي تظهر من خلالها روح الأخوة والإنسانية، لتؤثر في كل من يرى هذه الظاهرة الإسلامية العظيمة، في أول أيام شهر رمضان المبارك، وبينما يرى هذا المشهد أحد النزلاء من جنسية آسيوية، وهو من غير المسلمين، فتفيض عيناه بالدموع بما غشى قلبه من الروحانيات، فيطلب من النزلاء المسلمين إخباره كيف يدخل الإسلام، فما هي إلا سويعات، ويشهر إسلامه ناطقا الشهادتين قبل صلاة التراويح، معلنا اعتناقه الإسلام، وهذا إن دل على شيء، فهو يدل على ما قاله الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وآله وسلم-: إن (الدين المعاملة)، وليس هذا الموقف بدْعًا، فكم من أفواج أثّرت فيهم الأخلاق، والمعاملة الحسنة لقدامى النزلاء في هذا الجناح، لتغير من حياتهم ومعتقداتهم، وتقودهم من الظلمات، ظلمات الجهل، إلى نور الحق الوضاح، كما أن هذا الموقف يجب أن يكون نافذة إنسانية، تعكس للمجتمع وقائع التأهيل والإصلاح من دور إصلاحنا العمانية الماجدة، ولعل هذا يسهم في تغيير الفكر النمطي التقليدي المترسخ في العقل الجمعي للمجتمع عن قدامى السجناء، ليمنحهم فرصة أخرى بعد أن أثبتوا (إصلاحهم)، وتغيّرهم الذي استطاعوا من خلاله تغيير أنفسهم، والتأثير على الغير تأثيرا إيجابيا، فهذه رسالة إنسانية تخاطب الإنسانية وكل ذي ضمير حي».
*انتهت رسالة «النزيل»، ويبقى أثرها مشهدا مفتوحا على الخارج، فرغم ألم الحبس، يبقى الأمل شمعة تضيء آخر النفق، فشكرا لكل من ينير هذا الطريق المظلم بإنسانيته، وقيمه، ورقيّه الحضاري، وتعامله النبيل مع أولئك الذين كانوا ضحية لأنفسهم، ولحظات ضعفهم، ليتحولوا من (مذنبين)، إلى (مصلحين)، و (شهود عيان) على فترة مظلمة من حياتهم، نسأل الله أن يفك كربتهم، ويعينهم على ما ابتلاهم به.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
بعثة الحج العمانية تشارك في ندوة الحج الكبرى بجدة
العُمانية: شاركت بعثة الحج العُمانية في الدورة التاسعة والأربعين لندوة الحج الكبرى التي نظمتها وزارة الحج والعمرة بالمملكة العربية السعودية، بالتعاون مع هيئة كبار العلماء ودارة الملك عبد العزيز، تحت عنوان "الاستطاعة في الحج والمستجدات المعاصرة"، وذلك بفندق الريتز كارلتون في مدينة جدة.
وانطلقت نواة الندوة الأولى عام 1977م، كمنصة معرفية رائدة تهدف إلى تعزيز التواصل العلمي والفكري بين علماء ومفكري العالم الإسلامي، مع التركيز على البعد الديني والثقافي والاجتماعي لفريضة الحج، وتسعى إلى إبراز إنجازات المملكة العربية السعودية الشقيقة في خدمة ضيوف الرحمن، وتسليط الضوء على المشاريع الرائدة في الحرمين الشريفين، إلى جانب ترسيخ مبدأ الحوار الفكري لمعالجة قضايا الأمة الإسلامية ومواجهة التحديات المعاصرة.
استهلت الندوة أعمالها باجتماع خاص لرؤساء مكاتب شؤون الحجاج من مختلف الدول الإسلامية، بما في ذلك البعثة العُمانية، لمناقشة التنسيق والتعاون في خدمة الحجاج.
وتضمنت الجلسة الافتتاحية كلمات ترحيبية، فيما جاءت الجلسة الرئيسية الأولى تحت عنوان "تيسير الشعيرة وتمكين القاصدين: رؤية المملكة في خدمة الحجاج"، والتي ركزت على جهود المملكة في تسهيل رحلة الحجاج من القدوم إلى المغادرة، وتوفير الرعاية الصحية المتكاملة، وضمان أمن وسلامة الحجاج من خلال التدابير الأمنية والتصاريح النظامية، إلى جانب استعراض مشروعات تطوير البنية الأساسية في مكة المكرمة والمشاعر المقدسة.
وتناولت الجلسة الثانية "مفهوم الاستطاعة في الإسلام وأثره في تيسير شعيرة الحج"، حيث ناقشت موضوعات مثل مفهوم الاستطاعة البدنية والمالية، وأهمية توعية الحجاج بفقه الاستطاعة.
وعلى هامش أعمال الندوة أقيمت حلقات عمل متخصصة شاركت فيها وفود بعثة الحج العُمانية، مثل ورشة الخدمات الصحية وورشة الإعلام والتوعية، التي هدفت إلى تعزيز جودة الخدمات المقدمة للحجاج وصياغة رواية عالمية للحج، واختتمت الندوة بإصدار البيان الختامي الذي أكد على أهمية تعزيز التعاون بين الدول الإسلامية لخدمة الحجاج ومواجهة التحديات المعاصرة.
وتؤكد ندوة الحج الكبرى، التي تُقام منذ أكثر من أربعة عقود، على دور المملكة العربية السعودية الشقيقة كمنارة دينية وثقافية، وتعكس مشاركة بعثة الحج العُمانية التزام سلطنة عُمان بالإسهام في هذا الملتقى المعرفي، الذي يعزز الحوار الفكري ويوحد الجهود لتحسين تجربة الحجاج.
من جانب آخر وعلى هامش أعمال الندوة التقى معالي توفيق بن فوزان الربيعة وزير الحج والعمرة بالمملكة العربية السعودية بسعادة أحمد بن صالح الراشدي، وكيل وزارة الأوقاف والشؤون الدينية رئيس بعثة الحج العُمانية، إلى جانب رؤساء بعثات الحج في عدد من الدول الشقيقة والصديقة حيث ناقشوا عددًا من الموضوعات المتعلقة بتنظيم شؤون الحجاج.