الدكتور حسام بدراوي يكتب: فلسطين والفرص الضائعة
تاريخ النشر: 18th, March 2025 GMT
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
وأنا في زيارتي مع وفد المائدة المستديرة الي واشنطن في مبادرة من المجتمع المدني غير الحكومي لتأكيد الموقف الشعبي مع قيادة مصر، فيما يخص قطاع غزة وحل الدولتين، دار في ذهني واسترجعت عددا من الفرص الضائعة على الشعب الفلسطيني عبر الخمسة عقود الماضية.
أولًا: في اتفاقيات كامب ديفيد الموقعة عام 1978 بين مصر وإسرائيل، تم تناول القضية الفلسطينية من خلال وثيقة بعنوان "إطار للسلام في الشرق الأوسط".
أبرز ما جاء في الوثيقة بخصوص الدولة الفلسطينية:
• الحكم الذاتي: تأسيس سلطة حكم ذاتي منتخبة في الضفة الغربية وقطاع غزة، تتولى إدارة الشؤون المحلية للفلسطينيين خلال الفترة الانتقالية.
• الانسحاب الإسرائيلي: انسحاب القوات الإسرائيلية من مناطق محددة لتمكين سلطة الحكم الذاتي من ممارسة مهامها.
• مفاوضات الوضع النهائي: بدء مفاوضات بين إسرائيل ومصر والأردن وممثلي الفلسطينيين في غضون ثلاث سنوات من بدء الحكم الذاتي، بهدف تحديد الوضع النهائي للضفة الغربية وقطاع غزة.
تجدر الإشارة إلى أن هذه الوثيقة لم تنص صراحة على إقامة دولة فلسطينية مستقلة، بل ركزت على ترتيبات الحكم الذاتي والمفاوضات المستقبلية لتحديد الوضع النهائي. وقد أثار هذا النهج انتقادات من بعض الأطراف العربية والفلسطينية، معتبرين أنه لا يلبي التطلعات الفلسطينية في الاستقلال الكامل.
رفضت السلطة الفلسطينية والبلدان العربية هذا الإطار الذي وقعت عليه الولايات المتحدة وإسرائيل ولم يحضر وفد فلسطين مؤتمر فندق مينا هاوس لتفعيل الاتفاقية وقاطعوا مصر وضاعت الفرصة.
ثانيًا: اتفاقية أوسلو، المعروفة رسميًا بـ"إعلان المبادئ حول ترتيبات الحكم الذاتي الانتقالي"، هي اتفاقية سلام تم توقيعها في 13 سبتمبر 1993 بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، بحضور الرئيس الأمريكي آنذاك بيل كلينتون. جاءت هذه الاتفاقية نتيجة لمفاوضات سرية جرت في أوسلو، النرويج، وهدفت إلى وضع إطار لحل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي.
أبرز بنود الاتفاقية:
1. الاعتراف المتبادل:
• تعترف منظمة التحرير الفلسطينية بحق إسرائيل في الوجود بسلام وأمن، وتلتزم بنبذ الإرهاب والعنف.
• في المقابل، تعترف إسرائيل بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني.
. 2 ترتيبات الحكم الذاتي الانتقالي:
• الاتفاق على إقامة سلطة حكم ذاتي فلسطينية مؤقتة، تُعرف بـ"السلطة الوطنية الفلسطينية"، تتولى إدارة الشؤون المدنية في الضفة الغربية وقطاع غزة.
• تُجرى انتخابات لمجلس تشريعي فلسطيني لتمثيل السكان الفلسطينيين في المناطق الخاضعة للسلطة.
3. الفترة الانتقالية والمفاوضات النهائية:
• تحديد فترة انتقالية مدتها خمس سنوات، تبدأ بانسحاب إسرائيل من قطاع غزة ومنطقة أريحا.
• الالتزام ببدء مفاوضات حول "الوضع النهائي" قبل نهاية السنة الثالثة من الفترة الانتقالية، لمناقشة القضايا المحورية مثل القدس، اللاجئين، المستوطنات، الترتيبات الأمنية، والحدود.
4. الأمن والنظام العام:
• تشكيل قوة شرطة فلسطينية للحفاظ على الأمن والنظام في المناطق الخاضعة للسلطة الفلسطينية.
• استمرار مسؤولية إسرائيل عن الدفاع ضد التهديدات الخارجية وضمان أمن الإسرائيليين.
على الرغم من الآمال الكبيرة التي عُلّقت على الاتفاقية، إلا أن تنفيذها واجه العديد من التحديات والعقبات، مما حال دون تحقيق السلام الدائم والشامل بين الجانبين.
ثالثًا: في ديسمبر 2000، قدم الرئيس الأمريكي بيل كلينتون ما يُعرف بـ"معايير كلينتون" كإطار لحل نهائي للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. هدفت هذه المقترحات إلى تحقيق تسوية شاملة تشمل القضايا الرئيسية التالية:
1 . الأراضي والحدود:
• الدولة الفلسطينية: تُقام على 94-96% من الضفة الغربية وكامل قطاع غزة.
• الكتل الاستيطانية: تضم إسرائيل الكتل الاستيطانية الكبرى التي تضم حوالي 80% من المستوطنين، مع تعويض الفلسطينيين بأراضٍ من داخل الخط الأخضر بنسبة 1-3%.
• التواصل الجغرافي: ضمان تواصل جغرافي للدولة الفلسطينية وتقليل المناطق المضمومة وعدد الفلسطينيين المتأثرين بذلك إلى الحد الأدنى.
2 . القدس:
• السيادة: تُقسم المدينة بناءً على التركيبة السكانية؛ الأحياء العربية تحت السيادة الفلسطينية، واليهودية تحت السيادة الإسرائيلية.
• الحرم الشريف (جبل الهيكل): سيادة فلسطينية مع “ملكية رمزية” لإسرائيل على المنطقة، وضمان حق الوصول وممارسة الشعائر للجميع.
3. اللاجئون:
• حق العودة: لا عودة جماعية للاجئين إلى داخل إسرائيل؛ يُسمح بعودة محدودة بناءً على موافقة إسرائيلية.
• التوطين: توطين اللاجئين في الدولة الفلسطينية، أو إعادة توطينهم في دول ثالثة، مع تقديم تعويضات وإعادة تأهيل.
4 . الأمن:
• الانسحاب العسكري: انسحاب إسرائيلي من المناطق الفلسطينية خلال 36 شهرًا، يتبعه وجود دولي لمراقبة التنفيذ.
• غور الأردن: وجود إسرائيلي محدود في مواقع ثابتة لمدة 36 شهرًا إضافية تحت إشراف دولي.
• الدولة الفلسطينية: منزوعة السلاح مع قوة أمنية قوية للحفاظ على النظام الداخلي.
على الرغم من قبول الحكومة الإسرائيلية للمقترحات مع بعض التحفظات، إلا أن القيادة الفلسطينية، برئاسة ياسر عرفات، أبدت تحفظات جوهرية. أعربت عن قلقها بشأن تقسيم القدس، وغياب حق العودة للاجئين، والتواصل الجغرافي للدولة المقترحة. نتيجة لهذه التحفظات، لم يتم التوصل إلى اتفاق نهائي، واعتُبرت هذه الفرصة ضائعة مرة أخري في مسار عملية السلام.
رابعًا: خطة ترامب للسلام:
في يناير 2020، كشف الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، عن اقتراح للسلام في الشرق الأوسط، يُعرف غالبًا باسم "خطة ترامب للسلام". تضمنت هذه الخطة خريطة مفاهيمية تحدد الحدود والترتيبات الإقليمية المقترحة بين إسرائيل ودولة فلسطينية مستقبلية. وأشارت الخريطة إلى أن إسرائيل ستضم حوالي 30% من الضفة الغربية، بما في ذلك جزء من الأردن والمستوطنات الإسرائيلية القائمة، في حين سيتم منح الفلسطينيين دولة منزوعة السلاح تضم الـ70% المتبقية من الضفة الغربية وقطاع غزة، بالإضافة إلى تبادل أراضٍ إضافية في صحراء النقب.
كما اقترحت الخطة ربط الضفة الغربية بقطاع غزة عبر نفق أو طريق سريع مرتفع لضمان التواصل الجغرافي للدولة الفلسطينية.
في كل الأحوال ستبقى القدس العاصمة غير المقسمة لإسرائيل، مع إمكانية إنشاء عاصمة فلسطينية في مناطق على أطراف القدس الشرقية، مثل أبو ديس.
وقد لقيت الخطة ردود فعل متباينة؛ حيث رحبت بها إسرائيل إلى حد كبير، بينما انتقدها القادة الفلسطينيون والعديد من المراقبين الدوليين لكونها منحازة للموقف الإسرائيلي وتقوض فرص إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة وقابلة للحياة.
في أوائل عام 2025، وخلال بداية الولاية الثانية للرئيس ترامب، برز اقتراح جديد يتعلق بقطاع غزة. اقترحت الخطة أن تتولى الولايات المتحدة السيطرة على غزة، وإعادة تطوير المنطقة، وإعادة توطين سكانها الفلسطينيين. وقد واجه هذا الاقتراح انتقادات واسعة من قبل كل من المجتمعات الإسرائيلية والعربية، بسبب المخاوف بشأن جدواه وإمكانية تسببه في مزيد من عدم الاستقرار في المنطقة.
بالإضافة إلى ذلك، ردت مصر ودول عربية أخرى بطرح خطط بديلة تركز على إعادة إعمار غزة دون تهجير سكانها، مؤكدين على أهمية الحفاظ على الوجود الفلسطيني في وطنهم.
تعكس هذه المبادرات التعقيدات المستمرة والاختلافات في وجهات النظر حول معالجة الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، حيث تقترح مختلف الأطراف حلولًا متباينة بناءً على مصالحها الاستراتيجية واعتبارات الاستقرار الإقليمي المرتبطة بتوازن القوي في كل زمن.
أعتقد أن تراجع ترامب عن خطة تهجير أهالي غزة من تهجير قسري الي تهجير طوعي ما هو إلا تغيير شكلي حيث تطور النهج من دولة فلسطينية منزوعة القدرات إلى لا دولة ولا حقوق للفلسطينيين.
الملحوظ أنه بمرور الزمن وضعف الجانب التفاوضي العربي، مع اختلاف القيادات الفلسطينية مع بعضها، فإن المطروح علي طاولة المفاوضات يقلص الحقوق الفلسطينية ويعمق الاحتلال.. ورويدًا رويدًا، اختفت الجولان من الطلبات العربية وأصبح الكلام علي الدولتين بعيد المنال ووصلنا إلى صفاقة طلب التهجير القصري لأكثر من ٢ مليون فلسطيني الي الأردن مصر.
لا أرى فخرًا بما فعلته حماس يوم ٧ أكتوبر وأنا أرى ٢.٣ مليون فلسطيني يهجرون وغزة مدمرة، و٥٠ ألف قتيل، وهناك من يحتفل بنصر وهمي، لدرجة أنني بدأت أظن أن هذا افضل ما حدث للدولة الصهيونية في تاريخها الحديث. بدأت أظن أن جزءًا كبيرًا من مأساة الشعب الفلسطيني من صنع قياداته بنفس قدر إجرام إسرائيل.
***
في زيارتي السياسية الأخيرة ضمن وفد من المجتمع المدني غير الحكومي، وجدت أن المناخ في العاصمة الأمريكية معبأ بالتأييد المطلق لإسرائيل والانحياز الذي لا يحترم نهائيًا حقوقًا للشعب الفلسطيني.
دار في ذهني ما فعله الأوروبيون في سكان أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية وأستراليا، والقضاء علي شعوب عاشت علي هذه الارض بلا رحمة ولا إحساس بالذنب.
دار في ذهني استعباد سكان أفريقيا والاستيلاء على ثروات القارة مئات السنين وكأن چينات الشر في قادة الشعوب الاوروبية قد أخفت الرحمة والعدالة وحقوق الإنسان التي يتنادون بها الآن.
قلت لنفسي، التاريخ يدور علي نفس المنوال ولا يزال ظلم الإنسان لأخيه الإنسان من أجل المصلحة والسلطة والنفوذ والاستيلاء على الثروه هو الغالب والمسيطر، وما فلسطين إلا نموذج ويتكرر للأسف الشديد.
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: الشرق الأوسط الحكم الذاتي القضية الفلسطينية الضفة الغربیة وقطاع غزة الدولة الفلسطینیة الوضع النهائی دولة فلسطینیة الحکم الذاتی
إقرأ أيضاً:
الكاوبوي الإسرائيلي.. الخبرة الأميركية لسرقة الأراضي الفلسطينية
“Thank You, President TRUMP!”
كانت هذه العبارة هي التي حملها عيدان ألكسندر في اللحظات الأولى للإفراج عنه من قبل المقاومة الفلسطينية.
ألكسندر؛ الجندي المزدوج الجنسية الذي عاد من نيوجرسي الأميركية عام 2022، كان قد انخرط في صفوف الجيش الإسرائيلي متطوعًا في مهام عسكرية على الحدود مع قطاع غزة إلى أن اختُطِفَ صباح السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
وهو في هذه الحركة عبر الجغرافيا، يمثل امتدادًا لحركة اليهود الأميركيين الاستيطانية، المنضوية تحت لواء مشروع الحركة الصهيونية منذ أجيال عدّة، فهو ابن لأبوين من أصول أميركية أسّسا أسرتهما في تل أبيب حيث ولد عيدان، قبل أن يغادرا إلى أميركا في بواكير طفولة ابنهما، ثم فاجأهما لدى بلوغه الثامنة عشرة بقراره العودة إلى "إسرائيل" للتطوع في جيشها.
لم تكن تلك الجملة الوحيدة على اللافتة التي حملها الشاب الذي وصفه والده بأنه "كان شابًّا أميركيًّا بامتياز، ورياضيًّا رائعًا"، بل تبعتها بالعبرية، عبارة أخرى انتشرت كالنار في الهشيم منذ السابع من أكتوبر 2023 في الشوارع الواصلة بين مدن الضفة الغربية، التي يعبر منها المستوطنون الإسرائيليون أيضًا، فضلًا عن كتابتها من قبل الجنود الإسرائيليين على جدران البيوت والأماكن العامة في معظم الاقتحامات لمدن وبلدات الضفة الغربية.
تلك الجملة هي: "شعب إسرائيل حيّ".
تشكل هذه الصورة التي نشرتها التلغراف في الحادي والعشرين من مايو/أيار الجاري ترميزًا يمكن من خلاله قراءة علاقة الأميركيين الإسرائيليين بالمشروع الاستيطاني؛ الذي يمتد بشكل شبكي يصعب أن تؤثر فيه عوامل متقلبة مثل الفتور السياسي الحالي الذي تمر به العلاقة بين دونالد ترامب الذي أعاد ألكسندر إلى منزله، وبنيامين نتنياهو الذي كان يتلقى سيل الغضب والاتهامات من أهالي الرهائن الإسرائيليين بأنه تخلَّى عن أبنائهم، بالتزامن مع الإفراج عن ألكسندر، بجهود من إدارة ترامب في التفاوض مع حركة حماس بشكل منفصل عن الحكومة الإسرائيلية.
بكلمات أخرى، فإن إدارة الولايات المتحدة الأميركية تتعامل مع مواطنيها في إسرائيل بمنطق إستراتيجي يجعلها تتخذ خطوةً تتجاوز فيها المؤسسة الرسمية الإسرائيلية ورموزها السياسية.
الفتور السياسي في العلاقة بين ترامب ونتنياهو في الآونة الأخيرة وصل أوجه خلال زيارة ترامب للشرق الأوسط التي شملت عددًا من دول المنطقة دون أن تكون إسرائيل على جدول أعمال الزيارة رغم أنها كانت دومًا الحليف الأول للولايات المتحدة في المنطقة، وهو ما يجب أن يثير رعب نتنياهو خصوصًا بعدما وصف ترامب السعودية بأنها الشريك الأقوى للولايات المتحدة الأميركية في المنطقة، حسب وصف الغارديان البريطانية. بكلمات أخرى فإنه يمكننا الخلوص إلى أن ترامب بهذا النوع من التصريحات يقوم بإعادة رسم خريطة السياسة الأميركية الخارجية، على نحو يمكن وصفه بأنه تحوّل تاريخي لولا أن الذي قام به هو ترامب الرئيس الذي لا يستطيع أحد التنبؤ بتقلبات قراراته السياسية وشكل التحالفات التي يضع لها أولوية على حساب تحالفات أخرى.
لا يَعْدُو هذا الفتور كونه فتورًا سياسيًّا بين الرجلين لا بين النظامين اللذين يقف كلٌّ منهما على رأس الهرم فيه.
بالنسبة للعقلية الأميركية فإن الاستيطان لا يأخذ أهميته من كونه مشروعًا إسرائيليًّا بقدر ما هو امتداد لهذه العقلية التي تربط الاستيطان بالريادة والعظمة لأميركا، وهو ما يتلاقى مع إعادة إحياء ترامب لشعار رونالد ريغان: لِنُعِد أميركا عظيمة مرة أخرى.
إعلانيتتبع هذا المقال ظاهرة استيطان اليهود الأميركيين في أراضي الضفة الغربية، ومساهمة مختلف القطاعات في الولايات المتحدة الأميركية بشكل شبكي في تعميق هذه الجذور. كما يسلّط الضوء على أثر إدارة ترامب الحالية في توسيع دائرة الاستيطان. ويحلل أبعاد هذه الظاهرة الأيديولوجية وانعكاساتها على مستوى الممارسات على الأرض لأولئك المستوطنين المنحدرين من أصول أميركية.
من نيويورك إلى سيناء – النكسة فاتحة للاستيطان:في العقد التالي لحرب عام 1967، بدأ تدفق اليهود الأميركيين للاستيطان في الأراضي المحتلة على إثر حرب الأيام الستة، في فلسطين ومصر.
ففي أرشيف نشرته صحيفة الغارديان، يعود تاريخه لعام 1975 حول تأسيس مستوطنة يامت في صحراء سيناء، يظهر أن أكثر من نصف العائلات التي أسست نواة الاستيطان في تلك المستوطنة هي من مهاجرين يهود أميركيين، يرون في أنفسهم طلائعيين يريدون أخذ موقعهم في التاريخ لا بوصفهم يهودًا فقط بل بوصفهم أميركيين أيضًا، وهو ما يتضح مما تقوله المستوطِنَة القادمة من نيويورك كارول لاورينسي: "عندما كنتُ طفلة، كنتُ أقرأ قصصًا عن الروّاد الأميركيين، وكنت أقول إنني وُلدتُ متأخرةً جدًّا. ثم،
في فترة مراهقتي، قرأت عن تاريخ إسرائيل، وقلت مرة أخرى: هذا تمامًا ما كنتُ أودّ فعله، لكن للأسف فات الأوان. وعندما سمعت عن ياميت، فكّرت في أنها فرصة، صحيح أنها حديثة بعض الشيء، لكنها لا تزال فرصة للريادة والقيام بشيء مميز. لن أتنازل عن أيٍّ من هذه الأراضي. لا أذكر وقتًا في التاريخ استولت فيه دولة على أرض ثم أُجبرت على إعادتها. كل ما أخذناه في الحرب يجب أن يصبح لنا".
بهذه العقلية جاء اليهود الأميركيون للاستيطان في أراضي الضفة الغربية أيضًا، حيث أدّى المستوطنون المهاجرون من الولايات المتحدة الأميركية دورًا في تأسيس كبرى التجمعات الاستيطانية في جنوب الضفة الغربية: غوش عتصيون، وهو تجمع استيطاني يمتد على الحدود الجنوبية لمدينة القدس ويلتهم أراضي الفلسطينيين في بيت لحم والخليل، وبحسب أحدث الإحصائيات فإن تعداد سكان هذا التجمع الاستيطاني قد تخطى حاجز 70 ألف نسمة، الأمر الذي يجعله ذا أهمية إستراتيجية بالنسبة للحكومة الإسرائيلية خصوصًا أنه يأخذ شكل حزامٍ استيطاني يحيط بجنوبي مدينة القدس.
إعلانففي عام 2016 حين كان يوآف غالانت يشغل منصب وزير الإعمار والإسكان في الحكومة الإسرائيلية، صرَّح في زيارة لمستوطنة "إفرات" إحدى أكبر مستوطنات هذا التجمع الاستيطاني، بأن هذا التجمع سيتم تأهيله لاستيعاب نصف مليون إسرائيلي خلال عقدٍ من الزمن حسب ما نشرت صحيفة "Jerusalem Post" آنذاك.
في نيويورك، منذ عشرات السنين كانت تبدو أضواء المدينة، وتسارع نمو ناطحات السحاب فيها، مشاهد مبهرة ونبوءة لمستقبلٍ واعد ومملوء بفرص ضخمة بالنسبة لشاب تخرَّج بمراتب شرف عليا من جامعات نيويورك، لكنها بالنسبة لشلومو ريسكن كانت قبل اثنين وأربعين عامًا محطة عبور، كما كانت كذلك بالنسبة لعيدان إلكسندر قبل ثلاثة أعوام.
في بروكلين- نيوريوك، حيث البؤرة الأكثر يهوديةً في العالم، ولد ريسكن عام 1940، ونشأ في الحيِّ الذي يضم يهودًا من مختلف المشارب، ويتميز بمكانة هامة في تاريخ الممارسة الدينية اليهودية الحديثة إذ يضم أكثر من 120 كنيسًا تتبع لكافة أطياف الدين اليهودي.
في "University"، بدأ ريسكن رحلته الأكاديمية في الجامعة التي تؤسس في طلابها أنها الجامعة اليهودية الريادية التي تُخَرِّج أجيالًا متتابعة من القادة يحملون قيم هذه الجامعة اليهودية ليكونوا صنّاعًا لعالم أفضل لأنفسهم وللأجيال كما تصف الجامعة نفسها.
تعتبر هذه الجامعة من أهم الجامعات اليهودية في نيويورك، وتشكل أحد أهم مراكز صناعة الفكر اليهودي الأرثوذكسي المتصل بالصهيونية الدينية في نيويورك. ومنذ بداية الحرب، تعتمد الجامعة عبر موقعها الرسمي، الشعار ذاته الذي حمله ألكسندر في يوم الإفراج عنه: شعب إسرائيل حيّ. استلهم اسم الجامعة من مصطلح ديني يهودي، يدل على مجالس الأحبار لتدارس التوراة والتلمود.
تعكس دلالة الاسم، ما تجسده الجامعة في منهجية تدريسها لمختلف المعارف على نحو مرتبطٍ بالشرائع اليهودية ويظهر هذا جليًّا في طرق تدريس التخصصات ذات الصلة بالمال والعقود والإدارة، فضلًا عن الطب والعلوم الطبيعية. وهي بذلك تؤهل طلابها لحياةٍ حديثة لكنها في نفس الوقت تستمد جذورها ورؤيتها من منابع توراتية.
بدأت رحلة ريسكن الأكاديمية حتى حصوله على درجة الدكتوراه عام 1982. وتزامنًا مع دراسته الأكاديمية كان يتلقى دروسه في الحاخامية حتى بلغ مرتبة متقدمة فيها ووضعًا مهنيًّا مزدهرًا في مانهاتن، لكنه بحلول عام 1983 قرر أن يحزم أمتعته ليجسد في إسرائيل ما يحمل في عقله من صور للبلد الذي بنى فيه ذاته فكريًّا ودينيًّا والمعتقدات التي تشربها في حياته الاجتماعية والأكاديمية في بروكلين، حيث الحيُّ الذي تعيش فيه نخبة اليهود المهاجرين إلى الولايات المتحدة من أوروبا، مُحَمَّلين بالأيديولوجيا الدينية وتاريخهم في المجتمعات الأوروبية.
إعلانفي أراضي الضفة الغربية المحتلة، كانت الفترة الزمنية التي هاجر خلالها ريسكن تشهد تسارعًا في نمو المستوطنات وتوسعها من خلال مصادرات واسعة النطاق لأراضي الفلسطينيين في الضفة الغربية، ودعمٍ حكومي ومؤسساتي لمشاريع بناء المستوطنات في ذلك الوقت، باعتبارها أحد المشاريع الإستراتيجية للحكومة الإسرائيلية لترسيخ السيطرة على الأرض من خلال الثقل الديموغرافي.
مشحونًا بحمولته الفكرية، ومُلْتَقِطًا لحساسية الفترة الزمنية التي هاجر خلالها ريسكن من الولايات المتحدة الأميركية إلى إسرائيل، وضع أولى أقدامه على أراضٍ تتبع قرى الخضر وإرطاس الواقعتين على بعد 16 كيلومترًا تقريبًا جنوب غرب مدينة القدس.
هناك، أسس ريسكن رفقة مجموعة من طلائع المهاجرين الأميركيين اليهود إلى "إسرائيل" كبرى مستوطنات تجمع غوش عتصيون الاستيطاني؛ مستوطنة إفرات التي تخطى تعداد سكانها اليوم ثلاثة عشر ألفًا وخمسمئة نسمة.
وبمرور أربعين عامًا على تأسيسها، عنونت صحيفة "Jerusalem Post" مقالًا يصف "قصة مستوطنة إفرات" بأنها نموذج للمستوطنة الإسرائيلية الفريدة والناجحة، كما أنها النموذج الليبرالي لحركة الاستيطان في الضفة الغربية بحسب وصف المقال.
لم يكن انخراط اليهود الأميركيين في حركة الاستيطان في إسرائيل نابعًا فقط من التوراة التي تصفه بأنه واجب ديني، بل إنهم مُلْهَمونَ أيضًا بأميركيتهم التي يتجذر فيها الخطاب المتفرد الذي يربطها بالريادة والاستكشاف، ومدفوعون بهالة المثالية الرومانسية والليبرالية الأميركية، وبهذا المزيج من الأفكار سعى هؤلاء اليهود الأميركيون لبناء مجتمعات يوتوبيا في الأراضي المحتلة، لتكون بمثابة "مدينة على تلة" تمثل كلًّا من إسرائيل وأميركا، بحسب ما تصف الباحثة سارة يعيل هيرشهورن في كتابها "مدينة على رأس تلة: اليهود الأمريكيون وحركة المستوطنين الإسرائيليين/ City on a Hilltop: American Jews and the Israeli Settler Movement".
إعلانبالتوازي مع هذا النشاط الاستيطاني جنوب مدينة القدس، نمت أنوية نشاط استيطاني مماثل باتجاه الشمال، حيث يعيش المستوطنون هناك الحلم الأميركي في إسرائيل كما تصفه المستوطنة الأميركية جوديث سيجالوف في حديثها الموسع عن تجربتها في مستوطنة "كارني شمرون" التي أقيمت عام 1977 على أراضي قرى قلقيلة ونابلس بشمال الضفة الغربية، في مقابلة مع مجلة "بزنس إينسايدر" .
تعيش سيجالوف في بيت واسع، محاط بحديقة وفناء خلفي، وسط جيران يتحدثون الإنجليزية، واصفة نفسها بأنها تحتضن أميركيتها، تمامًا كما أنها إسرائيلية إلى الأبد، كما تقول في المقابلة المذكورة التي روت فيها قصة هجرتها من أميركا إلى إسرائيل حيث شكلت هجرة عديد من الأصدقاء والأقارب عاملًا مشجعًا لها على الهجرة والاستيطان في الضفة الغربية، مثل كثير من الأميركيين.
يشكل اليهود الأميركيون المستوطنون في الضفة الغربية اليوم ما نسبته 15% من مجموع سكان المستوطنات الإسرائيلية الذي يبلغ حوالي 700 ألف نسمة في الضفة الغربية.
صناعة التطرف/ الكاوبوي الإسرائيلي:يتبنى معظم هؤلاء المستوطنين هوية دينية إلى جانب هويتهم الأميركية، دون أن تطغى إحداهما على الأخرى. بل إن كلًّا منهما تعزز الأخرى، حسبما يظهر من سلوكهم، إذ ينتمي هؤلاء المستوطنون لأحزاب يمينية، ويتبنون رؤية العودة إلى أرض إسرائيل باعتبارها أمرًا توراتيًّا وبروحٍ أميركية ريادية في نفس الوقت، لتحقق ما عرف لدى الأميركيين في القرن التاسع عشر باسم "القدر المحتوم" (Manifest destiny) وهي عقيدة فكرية تقوم على ادّعاءٍ مفاده أن الولايات المتحدة قدرها المحتوم أن تسيطر على كل العالم، وهو ما تم استغلاله لشرعنة محو المجتمعات الأميركية الأصلية إبان القرن التاسع عشر.
سيجالوف، تصف زوجها، وأصدقاءه من المستوطنين بأنهم شجعان في استيطانهم في الضفة الغربية كما فعل أسلافهم حينما استوطنوا غرب أميركا، بينما كان "الأميركيون الأصليون" يتصدون لهم، حسبما تصف سيجالوف في ذات المقابلة مع مجل "بيزنس إينسايدر".
إعلانيمتلك المجتمع الاستيطاني المنحدر من أصول أميركية في الضفة الغربية هويته الخاصة التي نُسِجَت من عدّة مركّبات منها الإرث الذي رسخه غُلاة المستوطنين المنحدرين من أصول أميركية، خلال ما يقارب نصف قرن من الاستيطان، خصوصًا في جنوب الضفة الغربية. ويتخذ هذا المجتمع خصوصيته أيضًا من أن طبيعة دوافعه للهجرة لم تكن تحت ظروف اضطرارية كالحرب والفقر كهجرة الأوكرانيين مثلًا لا حصرًا، بل هي هجرة مدفوعة بهدف تحقيق ثلاثية الأيديولوجيا والدين والمستوى المعيشي.
فمثلًا باروخ غولدشتاين الذي ارتكب مجزرة المسجد الإبراهيمي فجر الخامس والعشرين من فبراير/شباط 1994، لا يزال يُعَرَّف حتى اليوم بأنه الطبيب اليهودي الأميركي أولًا ثم الإسرائيلي ثانيًا، وينظر إليه على أنه بطل في أوساط هؤلاء المستوطنين أسوةً بمعلمه الحاخام مائير كاهانا الذي أسس إحدى أكثر الحركات الصهيونية دموية وتطرفا: حزب كاخ، وهو الذي ألهم لاحقًا أيديولوجيا حزب العظمة اليهودية الذي يقوده حاليًّا وزير الأمن الداخلي إيتمار بن غفير.
يصف هدار سوسكيند، رئيس منظمة أميركيون من أجل السلام الآن، كلًّا من غولدشتاين وكاهانا بأنه نبيّ حركة الاستيطان، لما له من أهمية رمزية لدى مستوطني الضفة الغربية في تطرفهم الاستيطاني، حتى وإن لم يكن هؤلاء المستوطنون ينحدرون من أصول أميركية.
ارتكب باروخ غولدشتاين، المجزرة التي تعتبر الأكثر دموية من بين هجمات المستوطنين على الفلسطينيين في الضفة الغربية منذ احتلالها عام 1967، وهو ما أسس لما عرف لاحقًا باسم: "المشكلة الأميركية" لتوصيف العنف الذي يمارسه المستوطنون ضد الفلسطينيين كما تقول سارة يعيل هيرشهورن. إذ شكلَّت هذه المجزرة علامة فارقة في ظهور هذه المرحلة من السلوك الاستيطاني الذي دفع حاييم هرتسوغ، الرئيس الإسرائيلي الأسبق (والد الرئيس الإسرائيلي الحالي)، لوصف الولايات المتحدة بأنها "أرض خصبة" للإرهاب اليهودي، وكذلك انتقدت صحيفة معاريف في ذلك الوقت اليهود الأميركيين الذين يرسلون "أبناءهم المجانين إلى إسرائيل" كما تورد هيرشهورن في مقال لها في صحيفة نيويورك تايمز.
إعلانلكن ذلك الخطاب، لم يغيِّر شيئًا على الأرض، فقبر باروخ غولدشتاين أصبح نصبًا تذكاريًّا ومعلمًا مهمًّا لكل يهودي يزور الخليل، فضلًا عن كونه ملهمًا بالنسبة لشرائح واسعة من المستوطنين خصوصًا في مستوطنة كريات أربعة التي تقوم على أراضي الخليل حيث عاش.
وعلى امتداد وجود هؤلاء المستوطنين الجغرافي، جنوبًا في كريات أربعة وغوش عتصيون، وشمالًا في يتسهار وكارني شمرون وغيرهما، فضلًا عن وجودهم كذلك في معاليه أدوميم، كبرى المستوطنات في القدس، إلى جانب بعض من أحياء مدينة القدس، فإنهم ظلوا يستلهمون نشاطهم الاستيطاني العنيف من نماذج مثل غولدشتاين وكاهانا، مع الحفاظ على خطابهم الليبرالي الذي يعتبر من أهم جسورهم لشرعنة السلوك الاستيطاني في الضفة الغربية على المستوى الدولي.
وبحكم امتلاكهم اللغة الإنجليزية، والقدرة على مخاطبة العقل الغربي من خلال القيم والمفردات التي تتبناها المجتمعات الغربية، فقد أدّى هؤلاء المستوطنون القادمون من أميركا دورًا محوريًّا في إقناع الجمهور الغربي بالسردية والمشروع الاستيطانيين ولا يزالون يمارسون هذا الدور، فضلًا عن تأثر عديد من الساسة الإسرائيليين بالمظهر الأميركي للسياسة، وهو ما يترك أثرًا في السياسة الداخلية الإسرائيلية، حيث تكررت ظاهرة أن يحيط الساسة الإسرائيليون أنفسهم بمساعدين من أصول أميركية، فضلًا عن أن رئيس الوزراء الحالي بنيامين نتنياهو يوصف بأنه قد استجلب النمط الأميركي إلى الممارسة السياسية في إسرائيل بحكم أنه يحمل أميركا بداخله؛ فكرًا وسياسةً واقتصادًا، لكن هذا لم يمنع ترامب من تجاهله مؤخرًا.
ويتضح من هذا السلوك أن هؤلاء المستوطنين قد وسعوا من دائرة انتشار أفكارهم العنصرية بين مستوطني الضفة الغربية وعالميًّا انطلاقًا مما يطلق عليه إيتيان باليبار "العنصرية التفاضلية" التي تتسم بها عنصرية القرن الحادي والعشرين التي تتغذى من الثقافة لا من البيولوجيا.
إعلاناستطاع اليهود الأميركيون تجسيد هذا النوع من العنصرية التفاضلية من خلال استثمارهم الحالة السياسية عقب احتلال الضفة الغربية عام 1967، التي تمثلت إحدى صورها في حاجة الحكومة الإسرائيلية آنذاك إلى تعزيز الثقل الديموغرافي لمستوطنيها في الأراضي المحتلة، فبدؤوا بناء أطر اجتماعية تتخذ من الموروث الديني رأسمال رمزي لها، وهكذا، فقد شكَّل هذا التلاقي السياسي الاجتماعي بيئة خصبة تغذي عنف وتطرف هؤلاء المستوطنين القادمين من الولايات المتحدة الأميركية، ومكَّنهم من نقل هذه الأيديولوجيا المتطرفة إلى مستوطنين آخرين من أصول وأعراق أخرى.
كما يتجسد في العلاقة بين إيتمار بن غفير المنحدر من أصول شرقية، وباروخ غولدشتاين الطبيب القادم من نخبة مجتمع اليهود في بروكلين، الذي يرى فيه بن غفير نموذجًا ملهمًا لما يجب أن يكون عليه الإسرائيلي، ويعزز هذه الصورة في أذهان المستوطنين الذين يتبعونه حتى وإن لم تكن أصولهم أميركية، وعرف عنه أن صورة غولدشتاين كانت تحتل صدر منزله كأيقونة لحين اضطراره إلى إزالتها كنوع من المجاملة السياسية عقب حصوله على مقعد في الكنيست.
الأمر ذاته ينطبق على المستوطنين في شمال الضفة الغربية الذين يشنون الهجمات بشكل شبه يومي على القرى الفلسطينية، إذ كان حفيد مائير كاهانا من أبرز قادتهم، وصدَّرت عائلته صورته على أنه مواطن أميركي حينما تم اعتقاله على خلفية تورطه في جريمة إحراق عائلة دوابشة عام 2015 في قرية دوما جنوب نابلس.
في مؤتمر صحفي عقده والدا مردخاي مائير، حفيد كاهانا، قالا بلغة ليبرالية خالصة: "نحن مواطنون أميركيون، وأطفالنا نشؤوا هناك، في بلد ديمقراطي. وقد هاجرنا من الولايات المتحدة إلى دولة ديمقراطية. والآن نجد أنفسنا وقد أصبح ابننا في السجن ولا نعرف شيئًا".
في هذه المستوطنات التي يسكنها اليهود الأميركيون، يحضر دومًا الإرث المتطرف الذي أسس له مؤسسو هذه المستوطنات ويغذيه الآن تلامذتهم من الحاخامات، مما يجعل اليهود الأميركيين رأس الحربة في التطرف ضد الفلسطينيين، وتجنيد كل الوسائل لصالح تجذير وجودهم مقابل تهجير الفلسطينيين.
إعلانورغم أن اليهود الأميركيين هم المجموعة الصغرى بين مجموعات المهاجرين إلى إسرائيل، فإنهم يؤدّون دورًا أساسيًّا في النشاط السياسي خارج البرلمان بحكم أنهم لم ينسجموا تمامًا مع شكل النظام السياسي القائم حاليًّا في إسرائيل، لكنهم بطبيعتهم الأميركية يحاولون التأثير فيه، لذا فهم الأبرز في تأسيس المجموعات الناشطة خارج الأطر الحزبية في الضفة الغربية.
بكلمات أخرى، فإن هؤلاء اليهود لم يتخلوا عن العقلية السياسية التي يمتلكها المواطن الأميركي في ظل النظام السياسي في أميركا، بل حملوها معهم إلى "إسرائيل" وأنشؤوا أدواتهم الخاصة للحفاظ عليها، بعيدًا عن هيمنة الهندسة الشرق أوروبية للنظام السياسي في إسرائيل.
وإذا ما اعتُبرت المنظومة السياسية الأميركية نموذجًا لـ"المجتمع المدني"، فإن الجالية اليهودية الأميركية ربما تُعدّ التجسيد الأكثر وضوحًا لهذا النموذج. فبفضل مستويات التعليم المرتفعة، واهتمامهم الكبير بالقضايا الداخلية والدولية، وربما نتيجة شعور غير معلن بعدم الأمان بشأن وضعهم السياسي والاجتماعي، فإن اليهود الأميركيين يتمتعون بتمثيل مفرط وحضور نشط في الأطر السياسية الرسمية وغير الرسمية في الولايات المتحدة.
حارس البوابة: التقنية الأميركية في خدمة الاستيطان.منذ بدء الحركة الاستيطانية في الضفة الغربية، يتحرك المستوطنون ضمن شبكة طرق تنقسم إلى قسمين: الأول لا يمر منه إلا المستوطنون مثل شارع الشهداء في البلدة القديمة في الخليل، والثاني يمر منه الفلسطينيون والمستوطنون مثل الشارع رقم 60 الذي يصل جنوب الضفة الغربية بشمالها.
منذ بداية الحرب صباح السابع من أكتوبر 2023، بدأت الحكومة الإسرائيلية تنفيذ مخطط فصلٍ للطرق، بحيث لا يمر الفلسطينيون والإسرائيليون من نفس الشارع، فضلًا عن تخطي عدد الحواجز والبوابات 800 حاجز وبوابة لتقييد حركة الفلسطينيين مقابل إطلاق حرية المستوطنين في الحركة وتأمنيها، سواء كان ذلك بالقوات العسكرية، أو بالمنظومات التقنية المدعومة بالأساس من شركات أميركية كبرى مثل مايكروسوفت.
يجند المستوطنون الأميركيون كل أدواتهم في العمل والتنظيم المجتمعي وبناء شبكات العلاقات لصالح مشروعهم الاستيطاني في الضفة الغربية، بما يضمن أن يظل محميًّا من أي تهديدات محتملة. فالمستوطنة التي على قمة التلة، لم تستطع بعد أن تتعامى تمامًا عمَّن هم أسفل التلة، لأنهم بأيديهم العزلاء لا يزالون يواجهون بصمود هجمات المستوطنين بالأسلحة والنيران والحجارة على بيوتهم ومواشيهم وأراضيهم الزراعية. لذا فإن المستوطنة تظل في قلق من احتمال تحول الغضب أسفل التلة إلى فعل يهددها.
إعلانلذلك، أحيطت المستوطنات والطرق التي يمر منها المستوطنون لا بالحواجز فقط، بل بمنظومات مراقبة تقنية عالية الدقة، ممولة من شركات أميركية.
يظهر تحقيق أجرته " NBC" تمويل شركة مايكروسوفت لشركة "Any Vision" التي طوَّرت منظومة رقابة متقدمة تتعرف على الوجوه، وتم نشرها على امتداد الطرق والحواجز في الضفة الغربية للتعرف على وجوه الفلسطينيين ومراقبة تحركاتهم. وبحسب خمسة مصادر مطلعة فإن هذه الشركة طوَّرت بتمويل من مايكروسوفت نظام مراقبة عسكريًّا سريًّا في جميع أنحاء الضفة الغربية ضمن المنظومة الأمنية التي تستخدمها إسرائيل لحماية مستوطنيها، وقد حققت تلك المنظومة نجاحًا أهّلها للفوز بجائزة الدولة للدفاع عام 2018، وبطبيعة الحال فهذا النوع من الاستثمارات ليس هو النموذج الوحيد للعلاقة بين المستوطنات في الضفة الغربية وشركات وادي السيليكون بشكل عام.
وبإضاءة الجوانب الأخرى للعلاقة بين شركات وادي السيليكون في الولايات المتحدة الأميركية والمستوطنات في الضفة الغربية، نجد أن الأمر لم يعد محصورًا في المستوطنات ذات الأغلبية الأميركية فقط، بل امتدّ إلى سواها مدلِّلًا على موقف أيديولوجي لدى هذه الشركات اتجاه الاستيطان بوصفه مشروعًا يمكنها الاستفادة منه في تطوير منتجاتها التقنية، وتجريبها، في جغرافيا لا تخضع للرقابة.
فمنذ اندلاع الحرب، أثارت هذه الشركات جدلًا أخلاقيًّا لكونها توجه تبرعات موظفيها لتمويل المستوطنات في الضفة الغربية، حيث تموِّل مايكروسوفت مؤسسات مخالفة للنظام الدولي في إسرائيل مثل مؤسسة معالي أدوميم التي تعمل في مستوطنة معالي أدوميم التي ينظر إليها عديد من المحللين على أنها تشكل معيقًا رئيسيًّا أمام حل الدولتين لكونها تلتهم باستمرار أراضي تابعة لمدينة القدس.
وتموِّل تبرعات مايكروسوفت أيضًا أكاديمية عين برات للقيادة الواقعة في مستوطنة "كفار أدوميم" المقامة أيضًا على أراضٍ تابعة لمدينة القدس، وتقوم هذه المؤسسة على تدريب وتأهيل الكوادر العسكرية الإسرائيلية بأعلى المعايير قبل انخراطهم في الجيش، باتفاق رسمي مع الجيش الإسرائيلي.
إعلانتتدفق هذه التبرعات من مايكروسوفت، ومن شركات أخرى مثل غوغل عبر منصة "Benevity " التي تعرف أكاديمية عين برات للقيادة بأنها "منظمة تطوعية تساعد وتدعم أي شخص ضل طريقه أو أصيب أو واجه أي مشكلة أخرى في منطقة صحراء يهودا".
ورغم المطالبات التي أطلقها موظفو مايكروسوفت لتوقف الشركة هذا النوع من التمويل فإن الشركة التزمت الصمت إزاء ذلك، على الرغم من أن بيان الموظفين أشار إلى أن هذه الأنشطة التمويلية تتعارض مع اللوائح الأخلاقية للشركة.
إلى جانب ذلك فقد فعلت شركة غوغل الشيء ذاته حين دفعت بأموال تبرعات موظفيها إلى العديد من المؤسسات الداعمة للاستيطان في الضفة الغربية داخل الولايات المتحدة الأميركية وفي إسرائيل، منها مؤسسات "خيرية" تستهدف تقديم الدعم للجنود الإسرائيليين الذين يقاتلون في غزَّة، إلى جانب مؤسسة أخرى في الولايات المتحدة تقدم رؤيتها على أنها تساعد إسرائيل "لاسترداد الضفة الغربية".
وعلاوةً على هذه السياسات لدى شركات التكنولوجيا العملاقة، فقد أطلقت منظمة "IsraelGives" منصتها الخاصة لجمع التبرعات للمشاريع الاستيطانية، وارتبطت أيضًا بالمنصة العالمية "Benevity" لتوسيع دائرة التبرع لتشمل متبرعين عاديين لا مؤسسات وشركات ضخمة فحسب، وتستهدف الولايات المتحدة بشكل أساسي إضافة إلى دول أخرى، حيث تبرع مواطنون أميركيون عاديون بملايين الدولارات لصالح هذه المنظمة عبر موقعها الإلكتروني. وبحسب الغارديان يقول خبراء قانونيون إن بعض هذه الحملات قد تكون غير قانونية بموجب قانون الضرائب الأميركي، لكن نادرا ما يتم تطبيق ذلك على الجهات المانحة للحملات الإسرائيلية. وتضيف الغارديان أن مجموع التبرعات التي تلقتها هذه المنظمة من مواطنين أميركيين قد تجاوز خمسة ملايين دولار في أول شهرين من الحرب.
تنشط العديد من المؤسسات غير الربحية في ولاياتٍ أميركية تعمل على دعم مستوطنات الضفة الغربية، مستندة إلى خطاب ديني يشجع على التوجه نحو أراضي الضفة الغربية. من هذه المؤسسات "HaYoval" التي تنشط في ولاية ميسوري، والتي تقول إنها تدعم "التقليد النبوي" في الاستيطان في الأرض المُسمَّاةِ خطأً "الضفة الغربية" التي تسميها على موقعها الرسمي "يهودا والسامرة" وهذا يُذَكِّر بقرار لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب الأميركي باستخدام اسم "يهودا والسامرة" بدلًا من "الضفة الغربية"، وهو ما يتضح منه ومن غيره عمق العلاقات الإستراتيجية بين المنظومتين، ويؤكّد أن تلك العلاقات لن تؤثر فيها موجة الفتور السياسي الحالي بين ترامب ونتنياهو.
إعلانبالرجوع إلى المؤسسة، فإنها تستخدم لغة توراتية مثل: ازرع شجرة في إسرائيل وحقق نبوءة الكتاب المقدس، وتنشط مثل العديد من المؤسسات بعد الحرب في تمويل تأمين المستوطنات بالأسلحة والكوادر البشرية المتطوعة لتغطية العجز الزراعي الذي حصل في المزارع التي استُدعي مالكوها للجيش في ظل استمرار الحرب.
تشكل هذه الحملات، وشبكة العلاقات مع شركات وادي السيليكون ما يشبه حزام أمان ماليٍّ وتقنيٍّ للمستوطنات في الضفة الغربية، ويضاف إليه بُعْدٌ جديدٌ على المستوى السياسي بعدما استجلب ترامب شركات وادي السيليكون إلى إدارته، بصور رسمية وغير رسمية.
لماذا يحب أغنى رجل في العالم إسرائيل؟من أبرز وجوه هذه العلاقة بين الإدارة الأميركية وشركات وادي السيليكون، إيلون ماسك مالك منصة إكس وشركة تسلا، الذي يظهر بين الحين والآخر بصورة تدلّ على تقارب عالي المستوى بينه وبين ترامب، وهو رجل أعمال يمكنه التأثير في السياسة الخارجية الأميركية؛ مما يجعل العلاقة بينه وبين إسرائيل مهمة للأخيرة إذ وصفه نتنياهو بـ"الصديق العظيم لإسرائيل".
يرى ماسك في إسرائيل قوَّة تكنولوجية يمكن الاستثمار فيها، وترى إسرائيل فيه حليفًا يمكنها الاستفادة منه لما يمتلكه من استثمارات تُحدث أثرًا كبيرًا في الساحة الدولية، إذ يمتلك الرجل موقعًا مركزيًّا لا يمكن تخطّيه في سوق الذكاء الاصطناعي (Grok)، وصناعات الصواريخ (SpaceX)، ونشر الإنترنت (Starlink)، والخدمات العسكرية حول العالم (Starshield)، وصناعة الرأي (منصة X)، والتكنولوجيا (Tesla)، ومعظمها صناعات تَعِد بإيجاد نوع جديد من الهيمنة الاقتصادية والسياسية على المشهد العالمي. وبهذا فإنه يشكل حلقة وصل مهمة بين إسرائيل وإدارة ترامب، على المستوى السياسي وبتأثير قويٍّ.
ضمن سعي إسرائيل لأخذ موقعها في السوق التقني العسكري، أقرّت الحكومة تنفيذ مشروعٍ يحاكي وادي السيليكون في الولايات المتحدة، ويحمل ذات الاسم في حيِّ وادي الجوز الملاصق للبلدة القديمة في القدس، حيث تعمل بلدية الاحتلال على تنفيذ مشروع من أخطر مشاريع الاستيطان في المدينة ليكون منطقة استثمارية تعمل فيها شركات الهايتك الإسرائيلية التي تتمتع بشراكات وصلات واسعة مع مثيلاتها في الولايات المتحدة، ضمن بنًى تحتية تلغي الفصل بين جانبي المدينة، الشرقي والغربي، بما يقوِّض آمال أصحاب حل الدولتين في إقامة عاصمة على أراضي القدس الشرقية.
إعلانوبالأساس فإن هذه الشركات وما بينها من روابط، قائمة على منطق عسكرة التكنولوجيا لصالح المنظومة الأمنية الإسرائيلية لإحكام السيطرة على الفلسطينيين وأراضيهم وتأمين كافة تحركات المستوطنين فضلًا عن تأمين المستوطنات نفسها من جهة، ومن جهة أخرى تشكل صناعة الهايتك أحد أهم القطاعات التي تساهم فيها إسرائيل اقتصاديًّا على المستوى العالمي.
ترامب والمستوطنون، إيقاع متناغملم تغفل إدارة ترامب الجديدة عن أهمية المستوطنين في الضفة الغربية كلاعبين أساسيين في استمرارية مصالح الولايات المتحدة على الأرض، فقامت الإدارة الجديدة مباشرةً بإلغاء العقوبات التي كانت إدارة بايدن قد فرضتها على مستوطني الضفة الغربية الذين يقومون بهجمات دموية ضد الفلسطينيين، فضلًا عن توجيهها دعوة مباشرة إلى قادة الاستيطان في الضفة الغربية لحضور حفل تنصيب ترامب مطلع العام الجاري، حيث ضم الوفد الممثل لهؤلاء المستوطنين أبرز قياداتهم الذين تعود أصول بعضهم إلى كاليفورنيا، حيث وادي السيليكون أيضًا.
يتعامل مستوطنو الضفة الغربية مع ترامب باعتباره الرئيس الصديق للاستيطان، وينظرون بتفاؤل إلى إمكانية تحقيق مخططات ضم الضفة الغربية في فترة ولاية ترامب الحالية، خصوصًا مع تلاقيهم الأيديولوجي مع الرجل في نمطه الجديد في قيادة الولايات المتحدة.
يقف المستوطنون اليمينيون في الضفة الغربية خلف اليميني المتطرف إيتمار بن غفير في ضغطه على نتنياهو ضمن تحالفه المشروط معه قبل الحرب فيما يخص الإصلاحات القضائية التي يرى الليبراليون في إسرائيل أنها خطوة نحو دولة دينية لا ديمقراطية، وتدفع بكافة بنى الدولة لتكون تحت يد اليمين المتطرف. وهو منطق يميني عنصري يظهر ما يشابهه في سلوك ترامب السياسي داخل أميركا في ولايته الحالية، حيث تعيد إدارته إحياء نهج "الحداثة الرجعية" الذي استخدمته الأنظمة الفاشية في القرن العشرين لممارسة الاستبداد من خلال التكنولوجيا، لا توظيفها في التحرر، وهو ما تقوم به إدارة ترامب عبر دمج السياسات القومية المحافظة ذات الطابع الديني العنصري مع التقنيات الرقمية التي توفر إمكانيات غير مسبوقة للمراقبة والسيطرة كما تشير إليه الكاتبة الأميركية مايا فينوكور في مقالتها المعنونة بـ"Donald Trump’s Reactionary Futurism".
وتضيف فينوكور في مقالتها: "بدلًا من الحفاظ على الوضع الراهن، كما يُتوقع من حكومة "محافظة"، تسعى الإدارة الحالية إلى إعادة تشكيل المستقبل ليعكس ماضيًا مثاليًّا متخيلًا. هذا الشكل الغريب من "التقدم" يدمج أحدث تقنيات المراقبة والسيطرة على المعلومات والقتل الجماعي، مع جرعات مكثفة من التفاؤل التكنولوجي، في إطار قومي مسيحي عرقي يتسم بالحنين إلى الماضي. سواء كانت "الترامبية" بالفعل فاشية أم لا، فهذه ليست النقطة الأهم؛ فبالرغم من طابعها المستقبلي، فإنها أقل تطلعًا نحو الأمام حتى من السياسات الليبرالية الراكدة التي ترفضها".
إعلانوضمن هذا التلاقي في الأطر الأيديولوجية إلى حدٍّ ما، يظهر أيضًا أن اختيارات ترامب للأشخاص في إدارته تتناغم مع تطلعات المستوطنين في الضفة الغربية وتشكل بارقة أمل بالنسبة لهم في إتمام مشروع الضم ضمن الولاية الحالية لترامب.
في بيتها المطل على البحر المتوسط غربًا وعلى نهر الأردن شرقًا، على إحدى تلال مستوطنة شيلو، تقول إليانا باسنتين التي غادرت سان فرانسيسكو لتستوطن في الضفة الغربية -خلال مقابلة مع نيوريوك تايمز- إنها تثق بأن الإدارة الأميركية الحالية ستدعم إسرائيل في كل ما تريد.
بيت هيغسث مثلًا، وزير الدفاع الحالي في إدارة ترامب، كان قد صوَّر في مستوطنة شيلو الواقعة على أراضي رام الله حلقةً ضمن
برنامجه "المعركة في الأرض المقدسة" على منصة "Fox Nation". أما مايك هاكابي، الذي اختاره ترامب ليكون السفير الأميركي لدى إسرائيل، فقد زار المنطقة عدة مرات على مر السنين، وسبق أن صرّح بأن الضفة الغربية بكاملها "تعود لإسرائيل.
بالنسبة لإسرائيل غانتس، رئيس مجلس مستوطنات بنيامين الإقليمي، الذي كان ضمن الوفد المدعو إلى حفل تنصيب ترامب، فإنه يرى أن مسؤولي إدارة ترامب الحاليين كانوا على الأرض ويعرفون كيف تجري الأمور، وفي جولة قام بها غانتس برفقة دوغ بورغوم، رجل الأعمال الذي يشغل الآن منصب وزير الداخلية في إدارة ترامب، قال غانتس لنيوريوك تايمز حول طريقة ترامب في تشكيل إدارته: "أنا أرى من هم الأشخاص الذين يختارهم".
في خضم هذه الشبكة من المصالح الداعمة للاستيطان في الضفة الغربية، والخطاب بين المستوطنين وإدارة ترامب، يبدو أن نتنياهو رغم استبطانه لأميركا عميقًا أصبح هامشًا لا يُذكَر وهو يغرق نفسه في الحرب محاولًا النجاة برأسه مما ينتظره بعد توقفها، حيث يركز الجميع على مشاريع طويلة الأمد ولا يقع الفتور السياسي بين نتنياهو وترامب ضمن مجال رؤيتهم، إنهم يركزون على الأرض!
إعلانوبينما يحصل كل هذا، ثمة مستوطِنة إسرائيلية اسمها "Rivka Amar" تبلغ من العمر 19 عامًا، تمثل الصورة القادمة للجيل القادم من قادة المستوطنين في الضفة الغربية، فهي تصحو كل يوم في بؤرة استيطانية تسمى "Alei Ayin" قرب قرية قصرة الفلسطينية جنوب نابلس، وتعتني بطفلها ذي الأشهر الأربعة انطلاقًا مما تجسده بقولها "إذا لم أكن هناك، فعدوي سيكون هناك".
إنها منشغلة بالمهام التي بين يديها، لا بالتحولات السياسية في إسرائيل أو الولايات المتحدة.
وأضافت: "لا أستيقظ صباحًا وأنا أفكر في بايدن أو ترامب، بل في المكان الذي سأرعى فيه الماعز".
من زفافٍ في الكنيست، إلى حلم ضم الضفة الغربيةعام 1991، أقيم حفل زفافٍ للطبيبة الإسرائيلية المنحدرة من أصول بولندية ميريام أوكشورن لرجل الأعمال الأميركي المولع بصداقة اليمين السياسي شيلدون أديلسون، في قاعة شاغال الحكومية التابعة للكنيست الإسرائيلي المقامة على أراضي مدينة القدس، في انعكاس واضح لمدى عمق العلاقة بين إسرائيل وأديلسون.
نيويورك، المدينة التي أرسلت ريسكن وغولدشتاين وكاهانا إلى "إسرائيل"، جمعت أيضًا شيلدون بميريام حين تتخصص في علاج الإدمان في جامعة روكفلر، لتشكل هذه المدينة في تاريخ الحركة الاستيطانية اليهودية الأميركية حجر زاوية لتحقيق أحلامٍ كبرى لليهود الأميركيين في الضفة الغربية وأهمها مشروع الضم.
وقف الزوجان شيلدون وراء قرار ترامب بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، واشتريا ما تملكه السفارة من عقارات في تل أبيب لضمان عدم التراجع عن هذه الخطوة مستقبلًا. وبهذا فقد كان أديلسون الخزان المالي الذي وقف خلف ترامب في أكبر خطوة اتخذها في ولايته الأولى في علاقته بإسرائيل: نقل السفارة إلى القدس عام 2018.
ارتبط الزوجان بعلاقة صداقة شخصية مع كلٍّ من ترامب ونتنياهو، وضخَّا أموالهما للتأثير في قرارات كلا الرجلين وصناعة الرأي العام من حولهما.
إعلانفالطفل الذي ولد لعائلة يهودية فقيرة واشتغل في بيع الصحف في طفولته، أنفق 180 مليون دولار ليؤسس الصحيفة اليمينية الأوسع انتشارًا في إسرائيل التي تُوزَّع مجانًا: "إسرائيل اليوم". وهذه الصحيفة لا تتبنى فكر اليمين المتطرف وتنشره فحسب، بل تعمل أيضًا على تلميع صورة صديق آل أديلسون، بنيامين نتنياهو ليظل على رأس الهرم السياسي في إسرائيل، وهو يحصل على دعم سخيٍّ من أصدقائه لحملاته الانتخابية منذ عام 1996.
في شمال الضفة الغربية، حيث مستوطنة أريئل، ضخَّ شيلدون أديلسون 25 مليون دولار لصالح جامعة أريئل التي تم تأسيسها إلى جانب المستوطنة نفسها بناء على رغبة أحزاب اليمين المتطرف في خضم سعيها لإجهاض احتمال بناء دولة فلسطينية على حدود 1967.
ورغم أن شيلدون نفسه كان يقول إنه ليس إسرائيليًّا، فإنه أشرف على تمويل مؤسسة "تجليت" التي عملت على تعزيز ارتباط اليهود الأميركيين بإسرائيل، بتكلفة تخطت 70 مليون دولار، واستفاد منها ما يزيد على 600 ألف يهودي أميركي سافروا إلى إسرائيل.
عام 2021 توفي شيلدون تاركًا ثورته بين يدي زوجته ميريام التي واصلت طريقها نحو السلطة بنفس الطريقة، بضخ المال لصالح حملة دونالد ترامب فضلًا عن نشاطات الحزب الجمهوري.
ورغم نفي الناطق باسم أديلسون لما نشر حول اشتراطها على ترامب دعمه في حملته الانتخابية مقابل موافقته على ضم الضفة الغربية، فإن صديقًا قديمًا لها يؤكد أنها من أكبر داعمي مشروع الضم، حيث تعتبر من أضخم الممولين للمستوطنين في الضفة الغربية، وتضخ ملايين الدولارات في سبيل توسيع المستوطنات.
وفضلًا عن هذا كله، فإن النظر في تاريخ الشخصيات التي اختارها ترامب في إدارته الجديدة سيوصل إلى إدراك أن غالبيتهم من أولئك الذين حازوا رضى وإشادة ميريام بهم سابقًا بطرق مختلفة.
إعلانبكلماتٍ أخرى، فقد كان معظم هؤلاء دمًى على مسرح عائلة أديلسون، والآن يتحركون ضمن منظومة سياسية تمسك العائلة ذاتها بخيوطها من خلال نفوذها المالي، مما يعني أن مزاج ميريام السياسي سيقوم هؤلاء بإنفاذه إرضاءً لها وحفاظًا على دعمها السخي للتمدد اليميني في الولايات المتحدة الأميركية وفي إسرائيل على حد سواء.
ختامًايتضح من سبر غور هذه العلاقة المتشابكة بين إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية، أن الضربة التي تلقتها إسرائيل في السابع من أكتوبر لم تكن مجرَّد اجتياز أكثر من ألف مقاتل لسياج حدودي يعزل قطعة جغرافية عن امتدادها الطبيعي، بل كانت مشروعًا جريئًا أشهر سيفه رافضًا هيمنة نظامٍ عالميٍّ يبحث عن المزيد من الهيمنة عبر شبكة مشاريعه الاستيطانية، على حساب ملايين المقهورين. وفي نفس الوقت، فإن إدراك مدى عمق هذه العلاقة يضع المنطقة كلَّها أمام سؤال المستقبل الذي تصنعه خيارات حكامها وشعوبها اليوم.