مؤيد الزعبي

 

بما أن كل شيء في مخيلتنا وارد حدوثه في عالم الذكاء الاصطناعي، فلك أن تتخيل عزيزي القارئ كيف ستكون حياتنا لو أعاد الذكاء الاصطناعي إحياء الأموات، أشخاصًا أعزاء علينا، وقد تناولت جزءًا من هذا الطرح في مقال سابق، لكن ما أنوي أن أحدثك به اليوم هو عن كيف ستتم هذه العملية، وكيف سنتعامل معها، وماذا لو أعاد الذكاء الاصطناعي إحياء أموات من العباقرة والفلاسفة أو القادة والرموز الوطنية والدينية والاجتماعية والتاريخية؟ كيف سنجد هذه النسخ الإلكترونية؟ وهل سنكسبهم تقديسًا أو تفضيلًا من نوع ما لمجرد أنهم نسخ لأموات كان لهم تأثيرهم في تاريخنا الإنساني؟

في الحقيقة نحن أمام معضلة كبرى؛ فهناك كثيرون ممن يُقدسون شخصيات تاريخية رغم أنَّها ماتت منذ مئات السنين وما وصلهم عنها فقط أفكار، فكيف لو وجدوهم اليوم أمامهم بواسطة تقنية أو تقنيات متداخلة؟ في هذا الطرح سوف أتناول معك هذا الجانب ونناقشه من عدة زوايا.

يُوجد في تاريخنا الإنساني أشخاص كثر تركوا بصماتهم على المجتمعات والشعوب والدول وحتى الأديان والثقافات. فمنهم أبطال قادوا شعوبهم للقمة، ومنهم مقاتلون شجعان كان النصر حليفهم، ومنهم رموز وطنية لها أثرها الواضح في نفوس شعوبهم وأوطانهم، فماذا لو أعدنا إحياءهم بواسطة الذكاء الاصطناعي وصنعنا منهم "أفاتار"، أو تطورت تقنيات التصنيع الروبوتي لصناعة أشكالهم وأصواتهم، وبواسطة برمجيات مُعينة يتم محاكاة عقولهم، وشاهدناهم أحياء يتجولون فيما بيننا؟

في الحقيقة قد تبدو القصة بعيدة، إلا أنها أقرب مما نتخيل؛ فها نحن نعيد إحياء الموتى بواسطة فيديوهات وصور من إنتاج الذكاء الاصطناعي، ولم يبقَ إلا أن نجسدهم بإحدى وسائل التقنية، سواء "هولوجرام" مثلاً أو روبوت مصنوع على شكلهم، ولكن ما هو أصعب ليس تجسيدهم إنما كيف سنتعامل نحن الأحياء معهم.

 

ماذا لو عاد خالد بن الوليد؟ سأضرب لك مثالًا عزيزي القارئ من تاريخنا العربي والإسلامي: ماذا لو قلت لك إنه تم إعادة إحياء شخصية فذة من قادتنا المُسلمين مثل خالد بن الوليد أو صلاح الدين الأيوبي؟ ولا أقصد هنا إعادة إحيائهم شكلًا فقط بل فكرًا أيضًا، فقائد فذ مثل خالد بن الوليد، بأفكاره العسكرية المُغايرة، لو كان بالإمكان محاكاة طريقة تفكيره لإنتاج أفكار عسكرية جديدة، سنكون أمام تجربة فريدة تستحق أن نخوضها ونكتشف عمق هذه الشخصية وغيرها من الشخصيات، وحديثي هنا مجرد مثال يمكن إسقاطه على عباقرة في العلوم والفيزياء وحتى فنانين من رسامين ونحاتين وموسيقيين.

 

صحيح أننا قمنا ببعض من ذلك، حيث أكمل الذكاء الاصطناعي المقطوعة العاشرة لبيتهوفن، إلا أن انتشار هذا النوع من التجسيد سيأخذ في التوسع يومًا بعد يوم، وقد نرى رموزًا وطنية وتاريخية لها اعتبارات خاصة.

 

في حقيقة الأمر، هناك الكثير من السيناريوهات القادمة، ولا أستبعد أن تقوم جهات معينة بإعادة استكمال سير ومسيرة الكثير من شخصياتها الأيقونية بهدف استثارة تعاطف أتباعها أو التأثير في اتجاهات مُعينة من مناحي الحياة.

ولا أستبعد أن نعيد إحياء عقول وأنماط تفكير علماء لم يستكملوا أفكارهم وأبحاثهم، وبات اليوم من الممكن محاكاة هذه الأنماط وإعادة إحيائها بشكل أو بآخر، وإسقاط أنماط تفكيرهم على مشكلات تواجهنا اليوم، أو اكتشاف نظريات جديدة كأن يستكمل نيوتن قانونه الرابع أو الخامس أو حتى العاشر.

 

سيناريوهات كثيرة قادمة ومخاوفنا مشروعة، وربما نجد في مثل هذه الممارسات نظرة إيجابية نوعًا ما؛ فمن المهم أن نستفيد من أنماط تفكير العباقرة والمبدعين، ولكن ماذا عن دلالة مثل هذا العمل على الأخلاقيات والقيم الإنسانية؟ وكيف سنجد في هؤلاء المستنسخين أو العائدين من الموت "فكريًا" دورًا خاصة إذا تجرأ البشر على إعادة إحياء رموز دينية ذات وزن تاريخي مقدس؟ فهل سنجد في هؤلاء النسخ صفة مقدسة؟ وهل سيأتي اليوم الذي يتناسى فيه البشر أنهم هم من صنعهم ويبدؤون في اتباعهم وتمكينهم حتى تعلو سلطتهم ويعلو معها تقديسنا لهم؟

هنا تكمن الخطورة الكبرى: أن نعيد إحياء أموات بواسطة تقنية نحن صنعناها، ثم ننسى التقنية ونتعامل مع هذه الكيانات كما لو كانت فعلًا أحياء، وبما أن الذكاء الاصطناعي قد يصبح ذكيًا لدرجة الوعي، فسيجد له مخرجًا ليواصل تطوير نفسه وبسط نفوذه، أو قد يكون خلف كل هذا أشخاص يديرون المشهد لخدمة مصالحهم.

 

ربما يبدو هذا الطرح بعيدًا في حدوده، إلا أنه قريب من واقعيته - على الأقل بالنسبة لي، فنحن يومًا بعد يوم نعيد دون أن نشعر أحياء كانوا أمواتًا، وصحيح أن تجاربنا ما زالت اليوم مقتصرة على نجوم الفن والغناء والرسامين، إلا أن فضولنا البشري سيقودنا يومًا ما لإعادة إحياء رموز تاريخنا، كلٌّ حسب جرأته وقدرته على المحاكاة، ومع تطور التقنيات، سيُفتح الباب أمام تجارب كثيرة قد تغير حياتنا للأبد، ونكون "نحن البشر" كمن صنع تمثالًا ثم اعتقد أنَّه يتحرك، فآمن بقدراته الخارقة وبدأ يقدسه، ولهذا أجد من الضروري أن نحسن التصرف مع مثل هذه المحاولات حتى لا نقع ضحية فضولنا، وفي النهاية "فهل سنبقى نحن البشر سادة التقنية، أم سنصبح أسرى لها ذات يوم؟" وفي هذا سوف أتناقش معك في مقالي القادم.

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

حوارٌ مثيرٌ مع الذكاء الاصطناعي

كثر الحديث مؤخرًا عن لجوء بعض الكتّاب إلى «الذكاء الاصطناعي»؛ ليكتب عنهم المقالات الصحفيَّة في ثوان قليلة، ما اختصر لهم الوقت، وأراحهم من عناء الجهد والبحث. والنتيجةُ أنّ تلك المقالات افتقدت الروح، وغاب عنها الكاتب، فصارت كلُّ المقالات متشابهة في الشكل والمضمون، لدرجة أن أصبح القارئ يستطيع أن يميّز بين مقال الكاتب والمقال المنقول حرفيًّا من الذكاء.

إزاء تنامي الجدل حول الموضوع؛ هل هو انتحال وسرقة أم أنه بحكم التطور وضع طبيعي؟ قررتُ أن أخوض حوارًا مباشرًا مع أحد هذه الأنظمة؛ بحثًا عن فهم أعمق لهذا الكائن الرقمي. كانت المفاجأة أني كنتُ في حوار أقرب ما يكون مع إنسان وليس مع آلة، وبدا لي أنّ الذكاء الاصطناعي أداة ذات قدرات هائلة تفيد الكاتب في جوانب كثيرة في البحث عن المعلومة والترجمة وفي تقييم المقال نفسه، لكنه مهما كان من أمر فإنه لا يمكن أن يعوّض عن حضور الكاتب. سألتُ الذكاء عن هذا الأمر، فأقرّ بأنّ البعض يستخدمه لأداء المهمة كاملة دون تحرير أو إضافة ذاتية ما يجعل النص أقرب للانتحال، حتى لو لم يكن هناك مؤلف بشري يُنسب له المحتوى. سألتُ: هل يمكن أن يُقدّم الذكاء المقال نفسه لشخص آخر؟ فردّ بأنّ ذلك ممكن، خاصةً إذا كانت الأسئلة متشابهة أو عامة، ما يُظهر أهمية التفرّد في الطرح، والحرص على أن تكون الكتابةُ نابعةً من هوية الكاتب نفسه. هنا سألته: ماذا يمكن أن يفيد الذكاء الكتّاب والصحفيين؟ كان الرد: «دعم الكتابة والتحرير عن طريق صياغة الأفكار، وتوليد المحتوى، واقتراح زوايا مختلفة للموضوع أو حتى تقديم مسودة أولية. ويمكن الذكاء الاصطناعي تحليل كميات ضخمة من المعلومات في وقت قصير، واستخلاص النقاط المهمة». وأهم نقطة ذكرها أنّه بترجمته الفورية السريعة يسهل التواصل مع مصادر من ثقافات مختلفة، ويمكنه استخراج الخلاصة من مقابلات طويلة، أو من وثائق كثيرة.

تشعّب الحديث بيننا - وكأني أمام صديق مثقف - سألتُه: كيف نضمن أن يبقى الذكاء الاصطناعي خادمًا للإنسان لا سيدًا عليه؟ فردّ قائلًا: «إنّ الحفاظ على هذا التوازن يتطلب ترسيخ القيم الإنسانية في تصميم الأنظمة، وسن تشريعات ذكية، وتوعية الناس بعدم الاستسلام المطلق للأداة».

انتقلنا في الحديث عن الكتابة إلى الطب، فسألتُه سؤالًا سبق أن أثار جدلًا واسعًا: هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يُلغي وظيفة الطبيب العام مثل الكثير من الوظائف التي ستُلغى؟ أجاب أنّ دوره سيتغيّر، لكنه لن يُلغى، فبينما يستطيع الذكاء دعم التشخيص، وتحليل البيانات يظل الطبيب البشري يتمتع بقدرة لا يمكن للآلة أن تمتلكها، وهي التعاطف، والحدس، والتعامل مع تعقيدات النفس البشرية.

طرحتُ عليه سؤالًا يحمل بُعدًا أمنيًا وأخلاقيًا، وقد تردّد كثيرًا عبر المنصات: هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يُعلّم الناس صناعة القنابل أو الأسلحة؟ فكان جوابه حازمًا: «الشركات المطوّرة تضع فلاتر صارمة لمنع هذه الاستخدامات، لكن يبقى الخطر قائمًا إذا تم التحايل أو إساءة الاستخدام. وهنا تزداد الحاجة إلى يقظة قانونية ومجتمعية تتجاوز التطوّر التقني نفسه».

أخذني الحماس فسألتُه عن أغرب طلب وُجِّه إليه فقال: «هناك من طلب مني أن أكتب خطابًا يعتذر فيه عن حادثة كسر كوب زجاجي أمام مجلس تنفيذي لشركة كبرى، ويجب أن يتضمن استعارات عن تحطم الأحلام والزجاج المعشق». وواصل: «هناك من يسألني عن أسرار الكون، ومن يطلب صياغة قصيدة غزلية، ومن يبحث عن دعم نفسي في لحظة صعبة، وحتى من يطلب نصيحة قبل أن يُقدِم على مغامرة جديدة. وهناك من يريد أن أفسّر له الأحلام. أشعرُ وكأنّي كتابٌ حيّ مفتوح دومًا مليء بالمفاجآت». ولم ينس أن يسألني: هل لديك سؤالٌ غريب يا زاهر؟!

حقيقة أنّ الذكاء الاصطناعي الآن قوي، ومع الأسف صار الكثيرون يعتمدون عليه في الكتابة الحرفية فقط، وتركوا الإمكانيات الهائلة التي يمكن أن يقدّمها. وفي تصوري أنّ ما ينتظره العالم منه في المستقبل يفوق التصوّر، وهو ما أكده لي عندما سألتُه عمَّا هو متوقع منه في المستقبل؟ فأجاب: «سيصبح الذكاء الاصطناعي مثل «سكرتير رقمي» يعرف جدولك، وشخصيتك، ومزاجك، حتى نواياك، يتوقع احتياجاتك قبل أن تطلبها، ويُقدِّم خيارات حياتية مصممة لك بالذكاء. أما في المجال الطبي فسيتمكن من تحليل الحمض النووي لكلِّ فرد وإعطاء علاج خاص به، وقد يُساعد في اكتشاف الأمراض قبل ظهور أعراضها بسنوات». أما عن مجال التعليم فقد قال: «تخيّل فصلًا دراسيًّا لكلّ طالب على حدة، يُدرّسه الذكاء الاصطناعي حسب سرعة فهمه واهتمامه. سيساعد الذكاء في ردم الفجوة التعليمية بين المناطق المختلفة».

ولكن المثير أنه قال: «ستجري روبوتات عمليات جراحية، وترعى كبار السن، وتُناقشك في الفلسفة، تمزج بين الحس العاطفي والذكاء التحليلي. سيشارك الذكاء الاصطناعي في تأليف الموسيقى، كتابة الروايات، رسم اللوحات، وحتى ابتكار نكات».

لكن هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن «يفهم» المشاعر؟ كان الرد: «إنّ الأبحاث تتجه نحو أنظمة تُدرك نبرة الصوت، وتعابير الوجه حتى المزاج!».

الذكاء الاصطناعي يشكّل قفزة كبيرة تُشبه القفزات النوعية في التاريخ، مثل اختراع الطباعة أو الإنترنت. وكلُّ هذا مجرد بداية رغم أنّ الناس باتوا يرونه من الآن مستشارًا، وشريكًا معرفيًّا، ومُحفِّزًا للإبداع، وأحيانًا صديقًا للدردشة.

كشفَتْ لي تجربةُ الحوار المطول، قدرات الذكاء الاصطناعي، وصرتُ على يقين بأنّ محرِّكات البحث مثل «جوجل» قد تصبح من الماضي؛ لأنّ البديل قوي، ويتيح ميزات لا توجد في تلك المحرِّكات، كالنقاش، وعمق البحث عن المعلومة، والترجمة الفورية من أيِّ لغة كانت. وما خرجتُ به من هذا الحوار - رغم انبهاري الشديد - هو أنّ الأداة لا تُغني عن الإلهام، وأنّ الكلمة لا تُولَد من الآلة فقط، بل من الأفكار، ومن التجارب الإنسانية، ومن المواقف، ولكن لا بأس أن تكون التقنية مساعِدة، وليست بديلة، فهي مهما كانت مغوية بالاختصار وتوفير الجهد والوقت؛ فستبقى تُنتج محتوىً بلا روح ولا ذاكرة ولا انفعالات، وهذه كلها من أساسيات نجاح أيِّ كتاب أو مقال أو حتى الخطب. وربما أقرب صورة لتوضيح ذلك خطبة الجمعة - على سبيل المثال -؛ فعندما يكون الخطيب ارتجاليًّا يخطب في الناس بما يؤمن به فسيصل إلى قلوب مستمعيه أكثر من خطبة بليغة مكتوبة يقرأها الخطيب نيابةً عن كاتبها.

وبعد نقاشي المطول معه، واكتشافي لإمكانياته أخشى أن يُضعف هذا (الذكاء) قدرات الإنسان التحليلية والإبداعية في آن واحد؛ بسبب الاعتماد المفرط عليه، خاصة أني سألتُه: هل يمكن لك أن تجهِّز لي كتابًا؟ كان الرد سريعًا: نعم.

في كلِّ الأحوال لا غنى عن الذكاء الاصطناعي الآن، لكلِّ من يبحث عن المعلومة، ويريد أن يقويَّ بها كتبه ومقالاته وأبحاثه. لكن النقطة المهمة هنا هي أنه يجب أن يبقى خادمًا للإنسان لا سيدًا عليه، كأن يتجاوز أدواره - مثلًا -، ويحل محله في أمور تتطلب الحكمة، أو الوجدان، أو الأخلاق. ويجب أن يبقى معاونًا وشريكًا، ولكن ليس بديلًا كاملًا عن الإنسان كما يريده البعض.

مقالات مشابهة

  • وضع الدراسة في ChatGPT.. بديلا للمدرسين بالذكاء الاصطناعي بين يدي الطلاب
  • السباق الاستخباراتي على الذكاء الاصطناعي
  • معضلة الذكاء الاصطناعي والمؤلف العلمي
  • خالد الجندي: الذكاء الاصطناعي لا يُفتي.. والفتوى تحتاج لعقل راجح
  • ربنا يستر.. خالد الجندي: الذكاء الاصطناعي بيجاوب بفهلوة في المسائل الدينية
  • «سبيس 42» و«مايكروسوفت» و «إزري» توقع اتفاقية لدعم مبادرة «خريطة أفريقيا» الرقمية المدعومة بالذكاء الاصطناعي
  • فعالية للاطلاع على أحدث أجهزة "أسوس" الداعمة بالذكاء الاصطناعي
  • مايكروسوفت تختبر وضعاً جديداً لتجربة تصفح مدعومة بالذكاء الاصطناعي
  • تعرف على أحدث الروبوتات المساعدة المعززة بالذكاء الاصطناعي
  • حوارٌ مثيرٌ مع الذكاء الاصطناعي