اللقاء المسرحي العربي الخامس بهانوفر.. ماغما تعيد للفن العربي ألقه وتقرب ما عجزت عنه السياسة
تاريخ النشر: 24th, April 2025 GMT
ما جدوى الفن والأدب في زمن الحروب والأزمات؟ وهل بإمكان الفن أن يغير الأشياء أو أن يوقف الحروب والقتل البشع للإنسانية؟ وكيف يمكن للفنان أن يبدع في زمن الأوجاع والحروب ويخدم في الوقت نفسه قضاياه الإنسانية؟ وهل بإمكان الإنسان أن يقاوم عبر الفن والأدب؟ وهل للفن دور وتأثير في المجتمع، أم هو فن من أجل الفن فقط، يقتصر على قيم جمالية بحتة؟
هذه الأسئلة القديمة الجديدة حول جدوى الفن والأدب، التي طرحت على مر التاريخ وفي كل المراحل التي عرفت فيها الإنسانية أبشع الأزمات والحروب، تباينت الأجوبة المقدمة لها، سواء من فنانين أو أدباء عرب أو غربيين، بين مؤمن بالفن ودوره وتأثيره الاجتماعي وفعاليته، وبين من يحصر الفن أو الأدب في القيم الجمالية البحتة.
غير أن المشاركين في اللقاء المسرحي العربي الخامس بمدينة هانوفر الألمانية، ومنظمي هذا اللقاء من الألمان والعرب المغتربين هناك، والمنضوين تحت لواء جمعية تشتغل في "المركز الثقافي البافليون" وفرقة "مسرح الورشة"، والمنظم من 9 إلى 13 أبريل/نيسان الجاري تحت شعار "ماغما" (Magma)، كان لهم رأي آخر.
إذ تمكنوا، رغم عراقيل التأشيرات وتوزع الفنانين المشاركين في مختلف بقاع العالم، من فتح نافذة على الفن العربي بمختلف أشكاله التعبيرية من مسرح ورقص وسيرك وأداء وفرجة وتجهيزات، وتقديم "ماغما فنية" لها قدرة عجيبة على تبديد كل الاختلافات والخلافات، وتقريب ما عجزت السياسة عن القيام به، مثلما تذيب الكتلة المنصهرة الحجارة.
إعلانكما عبرت عن ذلك الفنانة "زابينه تروتشل" (Sabine Trotchel) من فريق تنظيم هذه التظاهرة بهانوفر في حفل افتتاحها، مستحضرة قول الكاتبة الأميركية توني موريسون، المشددة على دور الفن والأدب في وقت الحروب والأزمات، والداعية لكل الكتّاب أن يبدعوا، ولكل الفنانين أن يصنعوا المسرح ومختلف الفرجات الفنية، ليسمحوا للأحلام بالتحليق، وأن ينشدوا التغيير نحو الأفضل للإنسانية.
ماغما الفن في الزمن الصعبوهو ما أشار إليه وزير العلوم والثقافة، "فالكو موهريس" (Falko Mohrs)، الذي ثمن هذا اللقاء المسرحي العربي في هانوفر، المدرج ضمن كرسي اليونسكو لحفظ السلام، وأكد على دور المسرح والفنون الأدائية بشكل عام في خلق مساحة للحوار والتعاون بين فناني الشمال والجنوب، وفناني منطقة الشرق الأوسط عموما.
وقال إن للمسرح "قدرة عجيبة على بناء العلاقات الإنسانية بين الأجيال المختلفة، وتعزيز التماسك الاجتماعي، فالمسرح مرآة للمجتمع؛ فهو، كما يضحكنا ويسلينا، يجعلنا نبكي. ويجمعنا لنحتفي بالتنوع، ونتقارب، ونرسخ الديمقراطية والتعاون".
ويعد المسرح مساحة للتدريب على التسامح وثقافة الحوار، وهو يدعونا، كما قال وزير العلوم والثقافة الألماني، إلى محاولة فهم الآخر، والتشكيك في بعض قناعاتنا، خاصة في عالم اليوم الذي يعج بالحروب والنزاعات، وهو ما يقوم به اللقاء المسرحي العربي في هانوفر من خلال "مشروع ماغما" لهذه السنة.
وقد تناول المشروع سؤال الفن في مواجهة الحروب والأزمات، والتحديات التي يواجهها الفنانون والفنانات في المناطق المشتعلة بالحروب، بوصفه محورا رئيسا في الدورة الخامسة، خاصة أولئك المنتمين إلى منطقة بلاد الشام كسوريا وفلسطين ولبنان، الذين قدموا أعمالا فنية تمتزج فيها مختلف أشكال التعبير.
وتتشارك هذه الأعمال في إثارة التحولات والاضطرابات التي يعانيها الإنسان في الوقت الراهن، حيث اختلت الموازين، وتوارت القيم والمبادئ، ولم يعد أمام الإنسان، وخاصة المبدع، سوى فنه للتعبير عن مأساته الشخصية والجمعية، لينقل تجربته الخاصة وتجارب الآخرين، وأحلامه ومخاوفه من العنف المستشري، والحروب الضارية، والأزمات الاقتصادية المستفحلة.
إعلانوخلال 5 أيام، نقلت العروض الفنية المقدمة في اللقاء المسرحي العربي الخامس، بالمركز الثقافي "بافليون" وسط مدينة هانوفر، وعلى بعد أمتار من محطة القطار المركزية، أجزاء مهمة من معاناة الفنانين السوريين والفلسطينيين واللبنانيين والمغاربة، المقيمين في بلدانهم أو في الشتات (يونس عتبان من المغرب، علي شحرور وفيليب عرقتنجي من لبنان، عشتار معلم وعبد الرحمن القلق من فلسطين، حلا عمران ويارا عيد من سوريا)، والذين سعوا إلى تقديم فن ملتزم بالقضايا الإنسانية الكونية بأبعادها الاجتماعية والسياسية، مقاوم لكل أشكال الهيمنة الاستعمارية وما بعدها، فن مسكون بقلق السؤال، ومنتصر للإنسان بالدرجة الأولى، مؤمن بدور الفن وفعاليته في أوقات الأزمات والحروب.
وبهذا الشكل، كان الجمهور الألماني والعربي على موعد في هذه التظاهرة مع فن متجدد، منفتح على مختلف الفنون الأدائية، ومناهض لكل أشكال التنميط، عبر عروض تسائل الذات والإنسان والمجتمعات.
ولم تكن اللغة العربية عائقا للتواصل مع الجمهور الألماني، إذ قدمت بعض العروض باللغة الإنجليزية، في حين اعتمد بعضها الآخر على التعبيرات الجسدية، والأداءات الركحية، والموسيقى، التي كانت كافية لخلق تواصل مع الجمهور الألماني والعربي من طلبة وباحثين وفنانين، الذين تابعوا هذه التظاهرة الفنية العفوية والاستثنائية والفريدة من نوعها، وتفاعلوا معها ومع فنانيها، إذ أعقب كل عرض لقاء مفتوح مع الجمهور استمر إلى أوقات متأخرة من الليل.
وجدت المخرجة اللبنانية لينا أبيض، التي شاركت بعرض مسرحي مونودرامي بعنوان "صار وقت الحكي"، من تأليف وتشخيص الفنان اللبناني الفرنسي فيليب عرقتنجي، الكثير من الصعوبة في الحديث عن دور الفن في زمن الحرب.
فرغم إيمانها بدور الفن بشكل عام، ورغبتها في الاشتغال خلال هذه الفترات العصيبة، فإنها تتساءل هي نفسها عما يمكن للفنان وللمخرج أن يضيفه في هذا الوقت، وهل سيتقبل الجمهور، المتأفف من الحديث عن الحرب ومن صور القتل والإبادة التي تعج بها وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، هذا النوع من العروض؟ جمهور صار يهرب من الأعمال الفنية التي تتناول سؤال الحرب والخراب والهموم، إلى العروض الكوميدية التي يجد فيها متنفسا، وهذا حقه، كما قالت.
إعلانوأضافت المخرجة لينا أبيض للجزيرة نت أن الحرب أثرت على جمالية العرض المسرحي، وأنها أصبحت تحس كغيرها من الفنانين بأنه "لم تعد هناك مساحة للجمال ولا للإبداع الفني في وقت القتل والهمجية"، ورغم كل ذلك فإنها تحاول الصمود والاستمرار في المقاومة عبر الفن.
"الحرب أثرت على جمالية العرض المسرحي، ولم تعد هناك مساحة للجمال ولا للإبداع الفني في وقت القتل والهمجية"
وما زالت تؤمن بالمسرح كأداة فعالة وناجعة للتواصل وتبديد الاختلافات، كما تحرص على استقلاليتها التامة بعيدا عن الأجندات التي يفرضها الدعم الأجنبي على الفنانين العرب. وفي الوقت نفسه، ما زالت تتساءل: كيف يمكن المراهنة على الذات، وعلى ما هو فني وجمالي، وسط الخراب الذي نعيشه؟
ومن جهتها عبرت المنتجة اللبنانية كريستين واكيم من مؤسسة "اتجاهات- ثقافة مستقلة" المؤسسة التي انطلقت في نهاية عام 2011 والمهتمة بدعم الثقافة المستقلة في سوريا والمنطقة العربية، أن الهشاشة والأوضاع الصعبة هي التي دفعت هذه المؤسسة إلى الاهتمام بأوضاع الفنانين، حيث تعمل كوسيط بينهم وبين الداعمين الأجانب.
وتهدف المؤسسة إلى "تمكينهم من وسائل الاستدامة المهنية ضمن المجتمعات التي يعملون بها، بالإضافة إلى الترويج للفنون والفنانات والفنانين عبر خلق منصات إقليمية ودولية، وإتاحة الموارد المعرفية، وفرص وصول الثقافة والفن إلى المجتمعات السورية أينما كانت".
وأشارت كريستين إلى أن الدعم المخصص للفنانين في زمن الحرب أصبح مشكلة حقيقية اليوم، وأضحى خاضعا للأجندات الدولية. فبعد انفجار ميناء بيروت، قدمت عدة منظمات مساعدات للفنانين اللبنانيين، ودخلت معهم في شراكات فنية. لكن اليوم، تغير الوضع؛ فالحرب على غزة وفلسطين أثرت على كل شيء، وبات الفنانون اللبنانيون يشعرون كما لو أنهم "معاقبون بسبب الحرب الدائرة في المنطقة".
إن سؤال الفن في زمن الحرب يعيد طرح سؤال إعادة التفكير في جمالية الفن، وفي نقاط قوته ومخاطره، ويدعونا أيضا إلى التفكير، حسب آراء الفنانين والمبدعين المشاركين في هذه التظاهرة، في أسئلة أساسية مثل:
إعلان هل يكون الفن، أو الإبداع بشكل عام، أكثر إقناعا عندما يتماهى مع الأخلاق والمبادئ الإنسانية ويخدمها؟ أم عندما يميز نفسه عنها؟ وهل هناك حاجة فعلا للفن والإبداع في زمن بات فيه الواقع المرير للحرب "مخرجا" بزمنه الجاري والحي عبر نشرات الأخبار، وزوايا التصوير المتعددة لكاميرات شهود العيان، المنقولة مباشرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت؟ وهل تم إلغاء الفن فعلا في زمن التكنولوجيا الحديثة المتسارعة والذكاء الاصطناعي؟ حوار أكاديمي مغربي ألمانيلم يغب الجانب الأكاديمي عن اللقاء المسرحي، إذ كانت أيامه فضاء للتفاعل واللقاء التثاقفي بين الأكاديمي الألماني البروفيسور "تورستن يوست" (Torsten Jost) من "مجموعة 2020 للمجتمعات الزمنية لممارسة الأدب من منظور عالمي" بجامعة برلين الحرة، والأكاديمي المغربي الدكتور خالد أمين، رئيس "المركز الدولي لدراسات الفرجة" بطنجة، وذلك حول مشروع بحثي امتد لـ10 سنوات.
وقد تم تقديم هذا المشروع للطلبة والباحثين في اللقاء المسرحي تحت عنوان "دليل روتليج للمفاهيم المتعلقة بالأداء في اللغات غير الأوروبية"، الصادر في 633 صفحة عن المركز الدولي للبحوث "تشابك ثقافات الأداء" بجامعة برلين الحرة، والمركز الدولي للبحوث في مجال الأداء، وساهمت في تحريره الباحثة الأكاديمية الألمانية إيريكا فيشر.
وعن هذا العمل الأكاديمي الضخم، الذي ساهم فيه أكثر من 200 باحث متخصص في المسرح من مختلف بقاع العالم، والذي يتعمق في الاختلافات الإبستمولوجية للمفاهيم المسرحية ويناقش 70 كلمة افتتاحية، ذكر الدكتور خالد أمين للجزيرة نت أن عمله في مركز الأبحاث الدولي "تناسج ثقافات الأداء" تبلور بهدف "رسم خرائط نقاط الاتصال، ومناطق الاحتكاك، وللتوتر الدائم بين الاستعمار والانفكاك من الحالة الاستعمارية".
وأشار إلى أنه "لا يمكن لأحد أن ينازع في الحقيقة البديهية، التي أصبحت من المسلمات، بأن تاريخ المسرح والأداء غالبا ما تم تسخيره لخدمة الحالة الاستعمارية، حيث تهيمن المنظورات الغربية إلى حد كبير على المعرفة المسرحية. وكما يذكرنا والتر دي مينولو، فإن (كولونيالية المعرفة) هذه قد قمعت بشكل منهجي ثقافات الأداء غير الغربية، مما أفسح المجال لصمت صاخب أصم، وطبقة متصلبة تمنع الماغما من الوصول إلى السطح".
وأضاف خالد أمين أن هذا الإرث الاستعماري يتجلى في العالم العربي في مفاوضات معقدة اتخذت غالبا مسارين: تأورب مطلق أو اغتراب في الماضي.
"تاريخ المسرح والأداء غالبا ما تم تسخيره لخدمة الحالة الاستعمارية، حيث تهيمن المنظورات الغربية إلى حد كبير على المعرفة المسرحية. وكما يذكرنا والتر دي مينولو، فإن (كولونيالية المعرفة) هذه قد قمعت بشكل منهجي ثقافات الأداء غير الغربية، مما أفسح المجال لصمت صاخب أصم، وطبقة متصلبة تمنع الماغما من الوصول إلى السطح"
وأشار إلى أنه، مع ذلك، برز تيار قوي يسعى للانفكاك من الحالة الاستعمارية، عمل على استعادة وإعادة تقييم تقاليد الأداء العربي، بعيدا عن العدسات المقعرة التي طغت لزمن طويل، مثل رؤية الكاتب والأديب المصري علي الراعي، أحد أهم النقاد العرب، الذي كان له أثر كبير في تطور الحركة الأدبية والمسرحية في العالم العربي، والذي غاص في "العروق البركانية" الغنية بالنشاط الفرجوي في العالم العربي.
إعلانوأكد على "الحاجة الملحة لتجذير المسرح العربي، الذي تم اقتلاعه عن وعي من وجدانه الثقافي الخاص، والسماح للماغما الأصلية بالتدفق".
كما شدد خالد أمين على أننا اليوم أمام تحد يتطلب تجاوز الثنائيات الزائفة بين الشرق والغرب، واحتضان "الفضاء الثالث البيني" الذي يتحدث عنه العالم الهندي البريطاني هومي بهابها، وهي لحظة الهجنة بوصفها مساحة خصبة للإبداع، يمكن أن تنبثق عنها أشكال جديدة.
وهذا ما يستدعي، حسب خالد أمين، الانفتاح على آليات نقدية مغايرة، مثل مفهوم عالم الاجتماع والكاتب المغربي عبد الكبير الخطيبي عن "النقد المزدوج"، والتفكير العابر للحدود لدى الفيلسوف والناقد الأدبي الأرجنتيني والتر مينيولو، كحفريات معرفية للانفكاك من الحالة الاستعمارية.
وبقدر ما يسعى إلى الهجنة، فإن الخوف من تناسج الثقافات داخل الفرجة إلى حد الانصهار يلوح في الأفق، كما أن الخوف من أن هذا التناسج سيبدد أو يدمر الهوية العربية لا يزال يؤرق المتشددين، وهو ما تتم ملاحظته في المهرجانات العربية، كما أوضح خالد أمين، حيث يرى البعض أن "أي تفاعل مع الغرب يمثل تهديدا لما يعتبر ممارسات أصيلة غير ملوثة"، وهذا الخوف العميق، كما يقول، "هو في الواقع خوف من القوة التحويلية للماغما".
استمد الفنان المغربي يونس عتبان، المقيم بين ألمانيا والمغرب، عمله الفني الأدائي "الفنان المقاوم للماء"، الذي افتتحت به فعاليات اللقاء المسرحي الخامس بهانوفر، من إقامة فنية له في بينالي البندقية قبل أزمة كوفيد-19، حيث كانت المدينة غارقة في المياه الملوثة، ومن تجربته في الاشتغال على المتاحف، حيث وقف على مفارقات سوق الفن العالمي والهيمنة الثقافية من جهة، وخطابات ما بعد الاستعمار من جهة أخرى.
ومن خلال اعتماد قصة مستقبلية تخييلية لبينالي البندقية الـ72 في عام 2048، وهو تاريخ مقصود يؤرخ لمئوية النكبة الفلسطينية، اعتمده الكثير من الكتاب عنوانا لأعمالهم، مثل الروائي الجزائري بوعلام صنصال في روايته باللغة الفرنسية "2048: نهاية العالم".
إعلانيستحضر الفنان المتعدد الوسائط والتخصصات يونس عتبان في هذا العمل مدينة البندقية الغارقة في المياه الملوثة، والمعرض الذي يضم أجنحة تقليدية وجناحا جديدا لفنانين وفنانات من الشرق الأوسط والجنوب، حيث يشرع المسؤولون عن المعرض في إنقاذ أهم الأعمال الفنية في الساحة السياسية، بينما يتركون الجناح الجديد ينجرف إلى البحر الأبيض المتوسط، والفنانون في بحث عن مكان لهم أو جزيرة عامة.
يقول الفنان يونس عتبان: "هذا هو سطح الماء، مياه ملوثة، سطح البحر، مياه البحر الأبيض المتوسط الملوثة بالأحلام. أحلام السياح في كوت دازور، أحلام الفنانين في البندقية، أحلام من جثث مأساوية للاجئين على الساحل الليبي. أنا هنا، أتذكر إجازتي على الجزيرة اليونانية. سوف يغسل الطوفان العظيم هذه الأحلام. هذا هو الفنان المقاوم للماء، الذي يواجه مشكلة أثناء الفيضان الكبير".
"هذا هو سطح الماء، مياه ملوثة، سطح البحر، مياه البحر الأبيض المتوسط الملوثة بالأحلام. أحلام السياح في كوت دازور، أحلام الفنانين في البندقية، أحلام من جثث مأساوية للاجئين على الساحل الليبي. أنا هنا، أتذكر إجازتي على الجزيرة اليونانية. سوف يغسل الطوفان العظيم هذه الأحلام. هذا هو الفنان المقاوم للماء، الذي يواجه مشكلة أثناء الفيضان الكبير"
وفي هذا العرض الفني الشاعري الذكي، المليء بالسخرية والتأمل المستقبلي، والذي يمثل بحثا مشتركا بين يونس عتبان، زهير عتبان، وماريون سليطين، المستفيد من دعم مؤسسة "آفاق"، ويجمع بين فن الأداء والرقص والتصوير والرسم والخطاب النقدي؛ ينتقد عتبان آليات الربح في سوق الفن العالمي وسردياته الموحشة، ويقدم مقاربة ساخرة للهيمنة الثقافية وتغولها وابتعادها عن القيم الفنية والإنسانية.
تميز العرض الراقص "حلم" لفرقة "مسرح الورشة"، المستوحى من رواية "عما نحلم به" للكاتبة لين هيرشه، والمصمم من قبل الفنانة السورية الألمانية يارا عيد، بالمزج بين الواقع والحلم في طرح تساؤلات حول الهوية والانتماء والتعايش مع الآخر، واتخاذ الرقص وسيلة للتعبير عن الأشياء غير المنطقية، أو تلك التي تراودنا في اللاوعي أثناء الحلم أو السير أثناء النوم، كجزء عبثي من واقعنا يعكس زمنا من الأزمات والأسئلة السياسية الجدلية.
إعلانوفي هذا العرض الراقص، الذي تعذر على المصممة يارا عيد المشاركة فيه، أدت الراقصتان لاورا غارسيا أغوليرا ونتالي أورورا سبير الأدوار الأساسية، بمرافقة العازف الموسيقي هاينو سيلهورن على آلة الكونترباس، الذي استخدم مقطوعات من تأليفه، بالإضافة إلى مقتطفات من موسيقى فرانز شوبرت ومقطع من "سوناتا ضوء القمر" لبيتهوفن.
ويسعى الراقصون، من خلال هذا العرض، إلى بلوغ حلم الحياة الهانئة عبر البحث الحركي عن مفردات جسدية وتعبيرات أدائية عن مواقف متكررة، مع التركيز على التداعي الحر، والارتجال، والتحرر من كل قيد.
وفي عرض يارا عيد، تعد الموسيقى عنصرا أساسيا، فهي التي تلهمها وتساعدها في تصور الكوريغرافيا الخاصة بهذا العمل، الذي تحاول فيه خلق أجواء غير واقعية، تتقاطع فيها اليوتوبيا مع الواقع المرير، وتتقاطع الوحدة مع الغربة باستمرار. ومن خلال موسيقى العازف هاينو سيلهورن، يصبح "حلم" تجربة حرة ومثيرة لأسئلة كبرى حول الوطن أو الأرض الجديدة التي لا يملكها أحد، والتي لا يمكن الإجابة عنها إلا في الأحلام.
في العرض الأدائي الراقص "نوم الغزلان"، يواصل الفنان الكوريغراف والراقص اللبناني علي شحرور الاشتغال على ثلاثيته عن الحب، التي يصبح فيها الجسد أداة للتعبير عن المحظور، وذلك بعد تقديمه عروضا سابقة عن الموت والفجائع والمصائب.
إذ يعود هذه المرة إلى عهد الخلافة العباسية، ليستحضر قصة عشق محرم من التاريخ العربي، بطلها محمد بن داود، ابن أحد أبرز فقهاء العراق، الذي هام حبا. وبعد وفاة والده، تولى ابن داود زعامة أصحاب الحديث في بغداد، لكنه لم يزل غارقا في عشقه حتى عجز عن إصدار الفتاوى والحكم، إلى أن قتله الحب.
وانطلاقا من هذه الواقعة التاريخية، يسائل الفنان الكوريغراف علي شحرور في هذا العرض الراقص -الذي يشاركه في أدائه الفنان شادي عون، وتقوم فيه بالأداء الغنائي للندابات ليلى شحرور- معضلة الممنوع والمرغوب، والحب المستحيل المقيد بالواجبات الدينية والاجتماعية.
إعلانإذ يفسح المجال للجسد للتعبير عن الحالات النفسية الناتجة عن الشوق والهيام، وعن الحزن عند الفراق والفقد، من خلال لوحات فنية راقصة أبدع فيها شحرور في جعل الجسد يعبر بجمالية ساحرة عما يخالج الفؤاد والروح.
ومن خلال ثنائية الرقص والغناء، ينجح علي شحرور، على مدى 50 دقيقة، في شد انتباه الجمهور إلى اللوحات الفنية التشكيلية التي يقدمها على الخشبة، والتي تعبر عن الحب والعشق المحظور، الذي لا يقف عند سياقات الزمن العباسي، بل ينتقل إلى أزمنة وأمكنة مختلفة.
فالمهم بالنسبة إليه، كما قال، هو إثارة هشاشة العشاق وتوقهم إلى التحليق والتحرر من كل القيود. وقد عبرت عن ذلك ليلى شحرور عبر صوتها الحزين، شاهدة على الهيام بين العاشقين وموتهما بسبب الحب واللوعة، وهي تتغنى بأحد أشهر ترانيم "أسبوع الآلام"، التي تنشد إحياء لآلام المسيح يوم "الجمعة العظيمة"، والتي يروى أن كلماتها جاءت من فم أمه مريم العذراء.
واحبيبي واحبيبي .. أي حال أنت فيه
من رآك فشجاك .. أنت أنت المفتدي
واحبيبي أي ذنب .. حمل العدل بنيه
فأثابوك جراحا .. ليس فيها من شفاء
في هذا العرض المسرحي المونودرامي "صار وقت الحكي" للمخرجة اللبنانية لينا أبيض، يقف المخرج السينمائي اللبناني الفرنسي فيليب عرقتنجي على المسرح لأول مرة في هذا العمل الذي ألفه، ويروي فيه أجزاء من سيرة حياته التي طبعتها ندوب الحرب الأهلية اللبنانية وسنوات البحث عن الذات بين لغتين وثقافتين، بين لبنان وفرنسا.
حيث يستعرض في قالب من السخرية قصته مع اللغة التي فقدها، واللغة التي اخترعها، حيث كانت طفولته معلقة بين لغتين: الفرنسية، لغة والدته، والعربية، لغة المربية صعداء.
وبقدر ما يستحضر عرقتنجي في هذا العمل آلامه وآماله الشخصية، ويسرد رحلته في اكتشاف الذات عبر الفن، من البيانو الذي فشل في تعلمه، إلى أول كاميرا تلقاها هدية من والده، إلى فن التصوير الفوتوغرافي والسعي إلى التقاط الزمن الهارب، ثم إلى الصحافة المصورة التي حملته مسؤولية الشهادة على عنف الموت في زمن الحرب، وابتكار سينماه الخاصة.
إعلانيستحضر أيضا أسئلة الهوية والثقافة في لبنان، والحرب الأهلية وآثارها النفسية الوخيمة عليه وعلى أبناء جيله، وفقدان الأب يوم عرض "بوسطة" أول عمل سينمائي له.
وفي تناغم كبير بين السرد ومقاطع الفيديو والصور والتسجيلات والأغاني والأصوات، استطاع فيليب عرقتنجي بأدائه الرائع، ولينا أبيض برؤيتها الإخراجية المستنبطة من النص القوي والغني بالدلالات، تقديم تجربة مسرحية فردية، ترسم عالما مسرحيا تتناغم فيه مقاطع الفيديو والصور والأغاني والأصوات في سينوغرافيا وظيفية تضم أغراضا حميمية وديكورا وأثاثا منزليا، من أجل تقديم قصة الفنان فيليب عرقتنجي، التي سمح لنفسه بمشاركتها مع الجمهور الواسع، وجعلها قصة كل واحد، ودفعه إلى تحويل الذاكرة والحنين والخسارة والفشل إلى صور تحاكي المشترك الإنساني.
في هذا العمل المسرحي، توظف الفنانة الفلسطينية عشتار معلم فن السيرك، وتستعرض عبر حركات مدروسة بليونة جسدية عالية علاقة الجسد بالمدينة، وتستعيد فيه بأسلوب ساخر ذكرياتها وذكريات جدتها في القدس.
وترحل بنا في "عوالم" إلى القدس المليئة بالتاريخ والجمال والسلام، حيث ولدت ونشأت، قبل أن ترحل في سن الـ18 إلى باريس، ليس لتعلم المسرح والسيرك فقط، بل لتغادر المدينة التي أحست، ولو لبعض الوقت، بأنها مصدر عدم توازنها.
وفي تمازج عجيب بين المسرح وفنون السيرك، والأكروبات، واليوغا، والرقص الحديث والمعاصر، والأداء التفاعلي مع الجمهور، تقدم الفنانة عشتار معلم في "عوالم" عرضا مبتكرا ومتناسقا، يعيد للجسد الاعتبار ويمنحه مكانة رفيعة تعوض عما هو مفتقد، حينما تقول بأن "جسدها هو بلادها"، بل هو أبعد من ذلك بكثير.
كما تنتقد عالم اليوتيوب الذي يعج بالسحر والشعوذة، وبالطب النفسي وقراءة الطالع و"الهالات الروحية"، التي يلجأ إليها الإنسان للخروج من المآزق التي يعيشها، والبحث عن الراحة النفسية.
حلا عمران و"فيلكة"إلى جانب هذه العروض، كان للجمهور موعد في اختتام اللقاء المسرحي العربي الخامس في هانوفر بالعرض الموسيقي الأول "فيلكة" للفنانة السورية حلا عمران وثنائي "التنين" عبد قبيسي وعلي حوت، وهو ثمرة إقامة فنية للفريق في جزيرة "فيلكة" شبه المهجورة قبالة سواحل الكويت، تم فيها استكشاف الإرث الموسيقي الغني لشبه الجزيرة العربية، وإحياء أغاني الصيادين التقليديين في الكويت. ومنحت حلا عمران فيه صوتا للنساء اليمنيات المقاومات في سبعينيات القرن الماضي.
إعلانوفي هذا الحفل، أحيت حلا عمران مجموعة من الأغاني التقليدية مثل أناشيد ثورة ظفار في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وأغنية "ميديا" لبطلة الفيلم التي تقتل أطفالها احتجاجا على الخيانة، وأغنية "النهمة" للصيادين، وغيرها من المقطوعات المستوحاة من قصص الشعوب والشخصيات المهمشة، التي سيتضمنها ألبومها الجديد الذي سيصدر قريبا من إنتاج مؤسسة فكر ومؤسسة آفاق بالتعاون مع مؤسسة الشارقة للفنون.
ومثلما حضرت الأداءات الفنية والفرجوية المختلفة في اللقاء المسرحي العربي بهانوفر، فقد خصصت مساحة مهمة للقراءة الأدبية في اليوم الأخير مع الشاعر والكاتب الفلسطيني السوري عبد الرحمن القلق المقيم في ألمانيا وعضو فريق تنظيم هذه التظاهرة، لتقديم "طقس العبور"، عمله الشعري الصادر باللغة الألمانية عام 2024 عن "دار فالشتاين".
إذ ينطلق فيه الشاعر من سؤال أساسي هو "ماذا يعني أن تكون لاجئا فلسطينيا في العالم بلا مكان؟"، إضافة إلى عمله الشعري الجديد "سبقني اللصوص إلى حيفا" الصادر عن دار "خان الجنوب" ببرلين، وهو عمل يضم نصوصا وقصائد يقدم فيها الكاتب ما يشبه سيرة شعرية متقطعة ومتنقلة.
وفي مجال السينما، تم عرض فيلمين: الأول مغربي هو "أزرق القفطان" للمخرجة المغربية مريم التوزاني الذي يثير مواضيع الحب والمثلية والتقاليد، والثاني فلسطيني بعنوان "غزة مونامور" من تأليف وإخراج الأخوين عرب وطرزان ناصر، وهو فيلم ينتصر للحب والحياة رغم الحصار الإسرائيلي.
وتجدر الإشارة إلى أن الملتقى المسرحي العربي بهانوفر تولدت فكرته في مدينة طنجة المغربية في فترة "الربيع العربي" أثناء نقاش جمع المسرحي فتاح ديوري ورفيقته الفنية زابينه تروتشل، حيث سعيا، رغم بعض العراقيل والمثبطات، إلى فتح حوار بين الأجانب والعرب، وتكسير تلك الصورة النمطية والخاطئة التي تنظر إلى الإنسان العربي على أنه "إرهابي"، وذلك عبر بوابة الفن ومختلف التعبيرات والفنون الأدائية.
إعلانفكانت الدورة الأولى حول "الربيع العربي" عام 2012، والثانية حول "صحوة المرأة العربية" عام 2014، والثالثة حول "اللجوء" عام 2017، والرابعة حول "الإرث" عام 2022، والخامسة حول "مشروع ماغما" عام 2025، وهو ثمرة تعاون بين مسرح الورشة والمركز الثقافي البافليون المنظم بدعم من مدينة هانوفر، ووزارة العلوم والثقافة في ولاية ساكسونيا السفلى، ومؤسسة ساكسونيا السفلى، ومعهد غوته في ميونيخ، بشراكة مع المكتب الثقافي لمدينة هانوفر وإدارة التعاون الدولي والمعهد العربي للمسرح في الشارقة بالإمارات.
ويتكون فريق عمل هذه التظاهرة من عرب وألمان، وهم: زابينه تروتشل، فتاح ديوري، عبد الرحمن القلق، كوثر سليماني، ماتياس ألبير، إلكه سيبولسكي، ومحمد الهادي بالخير.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات اجتماعي هذه التظاهرة فی زمن الحرب فی هذا العرض فی هذا العمل الفن والأدب مسرح الورشة للتعبیر عن مع الجمهور حلا عمران خالد أمین فی العالم دور الفن من خلال الفن فی إلى أن هذا هو
إقرأ أيضاً:
هل تشهد السياسة التركية في ليبيا تحولا استراتيجيا جديدا؟
نشرت صحيفة "فكر تورو" التركية، تقريرًا، تناولت فيه ما وصفته بـ"التحوّل اللافت -وإن كان هادئًا- الذي طرأ على العلاقات التركية الليبية، خلال النصف الأول من عام 2025، في سياق إعادة تشكيل خريطة التحالفات والتوازنات في ليبيا".
وقالت الصحيفة، في التقرير الذي ترجمته "عربي21" إنّ: "الأشهر الأولى من العام الجاري قد شهدت تطورات مهمة بين أنقرة وبنغازي، تؤشر إلى تغيّر جوهري في سياسة تركيا تجاه ليبيا، وإعادة تموضع في خارطة النفوذ داخل البلاد".
وأوضحت أنّ: "هذا التقارب يقوم على ركيزتين أساسيتين: الأولى هي دخول تركيا في مسار تعاون أمني مع الجيش الوطني الليبي بقيادة، خليفة حفتر، وهو الطرف الذي طالما اعتُبر خصمًا لأنقرة في السنوات الماضية. أما التطور الثاني، والذي يُرجّح أن يكون نتيجة مباشرة لهذا الحوار، فيتمثل في تشكيل مجلس النواب الليبي في طبرق لجنةً لمراجعة اتفاقيات ترسيم الحدود البحرية والتعاون الأمني التي أبرمتها حكومة طرابلس مع تركيا عام 2019".
وتشير الصحيفة إلى أنّ: "تركيا غيّرت بوصلتها في السياسة الليبية خلال السنوات القليلة الماضية، متبنية نهجًا يقوم على البراغماتية والمصالح الاقتصادية والدبلوماسية المتعددة الأطراف. وفي هذا الإطار، قامت أنقرة بخطوات منفتحة تجاه الشرق الليبي، رغم أنه كان يمثل سابقًا الجبهة المقابلة لها في الحرب الأهلية، وكان يُوصف في الخطاب الرسمي بـ:الانقلابي".
"هذه التحولات أفضت إلى تطبيع واضح في العلاقات بين تركيا وكل من مجلس النواب في طبرق والجيش الوطني الليبي بقيادة حفتر، ما يفتح الباب أمام مرحلة جديدة قد تعيد رسم ملامح النفوذ التركي في ليبيا ضمن معادلة أكثر توازنًا وواقعية" بحسب التقرير نفسه.
وأشارت الصحيفة إلى أنّ: "الزيارات المتبادلة خلال السنوات الثلاث الماضية شكّلت مؤشرات ملموسة على هذا التقارب، أبرزها زيارة رئيس مجلس النواب في طبرق، عقيلة صالح، إلى أنقرة في ديسمبر/ كانون الاول 2023، ومشاركة صدام حفتر -نجل خليفة حفتر ورئيس أركان القوات البرية- في معرض الصناعات الدفاعية بإسطنبول عام 2024، ولقائه مع وزير الدفاع التركي، يشار غولر".
وأردفت: "كما استقبلت أنقرة بشكل رسمي كلًّا من عقيلة صالح ونجل حفتر الآخر، بلقاسم حفتر، رئيس صندوق التنمية وإعادة الإعمار الليبي" فيما أبرزت الصحيفة أنّ "هذه اللقاءات أثمرت في أبريل 2025 عن اتفاقيات تعاون ملموسة، إذ وقّع صندوق إعادة الإعمار الليبي عقودًا مع شركات تركية لتنفيذ مشاريع بناء كبرى في مدن بنغازي، البيضاء، شحات وطبرق".
واسترسلت: "كما استأنفت الخطوط الجوية التركية رحلاتها إلى بنغازي لأول مرة منذ عشر سنوات، وبدأت مباحثات لافتتاح قنصلية تركية في طبرق، في مؤشر واضح على توجه أنقرة نحو إعادة بناء نفوذها في شرق ليبيا من خلال مشاريع تنموية واستثمارية".
إلى ذلك، تشير الصحيفة إلى: "نقطة تحول جديدة في العلاقات، حيث قرر مجلس النواب الليبي في طبرق مناقشة اتفاقية ترسيم الحدود البحرية والتعاون الأمني الموقعة بين أنقرة وحكومة طرابلس عام 2019، ما يُعد انفتاحًا استراتيجيًا جديدًا لتركيا في الشرق الليبي، قد يُعيد صياغة تموضعها في الملف الليبي برمّته".
وتناولت أيضا، ما وصفتها بـ"الدلالات العميقة للتقارب المتسارع بين أنقرة وبنغازي"، مشيرة في الوقت ذاته إلى أنّ: "سلسلة اللقاءات رفيعة المستوى مع قادة شرق ليبيا تُعبّر عن تحوّل نوعي في العلاقة، لا يقتصر على المصالح الاقتصادية فقط، بل يمتد ليشمل ملفات الأمن والدفاع".
وتلفت إلى أن زيارة صدام حفتر، نجل المشير خليفة حفتر ورئيس أركان القوات البرية في "الجيش الوطني الليبي"، إلى أنقرة في أبريل 2025، شكّلت نقطة تحوّل بارزة، حيث تم استقباله بشكل رسمي من قبل وزير الدفاع التركي، يشار غولر، وبناء على دعوة من قائد القوات البرية التركية الفريق أول سَلجوق بايرقدار أوغلو.
وأورد التقرير: "تبع ذلك سلسلة لقاءات عسكرية أخرى، إذ زارت وفود من ضباط "الجيش الوطني الليبي" أنقرة في يونيو/ حزيران، وأجروا جولات ميدانية في مقرات ومؤسسات تابعة لوزارة الدفاع التركية".
وتُشير الصحيفة إلى أنّ: "هذه الزيارات ليست مجرد بروتوكولية أو رمزية، بل رافقتها مباحثات حول اتفاقيات دفاعية محتملة، قد تشمل التعاون في مجالات الطائرات المسيّرة، والتدريب العسكري، وإزالة الألغام، وتطوير البنية التحتية الدفاعية".
ووفقا للصحيفة، فإنّ بعض المصادر قد تحدثت عن توقيع اتفاق شامل يُنظّم التعاون الدفاعي بين الطرفين، ويتضمن تنظيم مناورات بحرية مشتركة في شرق ليبيا، إضافة إلى برامج تدريب تستهدف نحو 1500 عنصر من قوات الجيش الوطني الليبي خلال عام 2025، في مجالات متعددة.
وترى أنّ: "أنقرة تحاول تطبيق نفس المعادلة التي استخدمتها مع طرابلس -أي "التعاون الأمني مقابل اتفاق بحري"، هذه المرة مع شرق ليبيا، وإذا تم التوصل إلى اتفاق، فقد تصبح تركيا فاعلًا رئيسيًا في إعادة هيكلة القطاع الأمني الليبي في كل من الشرق والغرب، ما يمنحها دورًا استراتيجيًا مزدوجًا".
أما من الناحية السياسية، تتابع الصحيفة: "فإن مصادقة مجلس النواب في طبرق على اتفاقية 2019 لن تكون مجرد خطوة إجرائية، بل ستمنح الاتفاقية شرعية داخلية أوسع، وتساهم في تطبيع العلاقات التركية الليبية، خصوصًا في ملف ظل حتى الآن مثارًا للجدل القانوني والدبلوماسي".
أيضا، تستعرض الصحيفة توقعات كل من تركيا وشرق ليبيا من التقارب الجاري بينهما، موضحة أنّ: "الجانبين ينظران للعلاقة من زوايا اقتصادية وسياسية وأمنية متداخلة؛ وبالنسبة لشرق ليبيا، فيرى في تركيا شريكًا اقتصاديًا مهمًا، خاصة في مجالات إعادة الإعمار والبنية التحتية، حيث تنشط العديد من الشركات التركية في مشاريع كبرى مثل تجديد ملعب بنغازي".
وفي المقابل، تنظر أنقرة إلى هذه المشاريع كفرصة استراتيجية، لكنها ترتبط بشرط استقرار العلاقات السياسية مع قوى الشرق. وسياسيًا، يسعى معسكر حفتر إلى استخدام هذا التقارب مع تركيا كأداة لتحسين موقعه التفاوضي أمام طرابلس والدول الغربية، وبناء استقلالية اقتصادية ودبلوماسية أوسع.
ومن هذا المنظور، فإن طرح اتفاقية 2019 على طاولة النقاش مجددًا لا يهدف فقط إلى توثيق العلاقات مع أنقرة، بل يُستخدم كورقة ضغط تجاه قوى إقليمية ودولية مثل مصر، اليونان، روسيا، والولايات المتحدة.
وتفيد الصحيفة بأنّ: "تركيا من جانبها تنتقل إلى سياسة أكثر براغماتية وتعددية في ليبيا، حيث تسعى إلى الانفتاح على كل الأطراف، دون أن تتخلى عن دعمها التاريخي لحكومة الوحدة الوطنية في طرابلس. لكن أنقرة باتت تفضّل خفض مستوى انخراطها العسكري العلني لصالح شراكات اقتصادية ودبلوماسية أهدأ وأكثر توازنًا".
وفي الوقت الذي يشهد فيه شرق ليبيا استقرارًا نسبيًا، يعاني الغرب الليبي -رغم قربه من أنقرة- من ضعف القيادة الموحدة وتصاعد الصراع بين المليشيات، ما يزيد هشاشة الوضع الأمني ويدفع تركيا نحو نهج أكثر حذرًا وتوزانًا.
"في ظل تآكل الاستقرار في طرابلس وارتفاع كلفة استمرار الوضع القائم، بدأت جميع الأطراف، بما فيها تركيا، البحث عن صيغة استقرار أكثر ديمومة. وشرق ليبيا، بدوره، يسعى لتوسيع علاقاته مع القوى الغربية، ما يشير إلى تصاعد التنافس الإقليمي والدولي على إعادة تشكيل مستقبل ليبيا" استرسل التقرير.
واستدرك: "تحوّل التعامل الإقليمي مع ليبيا من ساحة حرب بالوكالة إلى ميدان تنافس أكثر هدوءًا، فخفضت الإمارات وجودها العسكري، ومصر بدأت حوارًا اقتصاديًا، بينما أخذت أوروبا -بفعل التهديد الروسي- موقفًا أكثر ليونة تجاه الدور التركي في ليبيا، معتبرةً أن أنقرة باتت تؤدي بشكل غير مباشر وظيفة موازنة لنفوذ موسكو".
وترى الصحيفة أنّ: "هذا التغير في السياق الدولي منح تركيا هامش مناورة أوسع في الملف الليبي، فبينما كانت تُرى سابقًا كخصم أو فاعل مزعزع، أصبحت اليوم جزءًا من التوازن الإقليمي في نظر بعض العواصم الأوروبية، خاصة في ظل تنامي التهديد الروسي".
وتعرض الصحيفة البعد التركي–الروسي في الملف الليبي، موضحةً أنّ: "العلاقة بين الطرفين تتسم بـ"إدارة تنافس" أكثر من صراع مباشر؛ فمنذ اتفاق وقف إطلاق النار عام 2020، لم تنخرط أنقرة وموسكو في مواجهة صريحة داخل ليبيا، بل تبني كل منهما نفوذها في مناطق مختلفة؛ إذ أن روسيا تواصل دعمها القوي لحفتر، وتعزز حضورها في شرق ليبيا عبر قوات فاغنر والبنى اللوجستية".
وتابعت: "بينما رسخت تركيا موقعها في غرب البلاد من خلال الأمن البحري، الاستثمار، والدبلوماسية، وبدأت مؤخرًا فتح قنوات مع الشرق أيضًا"، مذكّرة بأنّ: "هذا التوازن الهش يقوم على "التسامح المتبادل" في النفوذ، حيث يتجنب الطرفان التصعيد المباشر، ويفضّلان تنافسًا منضبطًا يخدم مصالحهما الجيوسياسية".
وأضافت: "رغم دعمهما لأطراف متضادة، فإن أنقرة وموسكو تتقاطعان في معارضة نفوذ الغرب المتزايد داخل ليبيا، وخاصة في مجالات الأمن والطاقة. لذا فإن العلاقة بينهما تميل إلى براغماتية هادئة تقوم على "تحمّل" الآخر، لا التحالف معه، بما يضمن لكل طرف الحفاظ على هامش مناورة في بيئة مضطربة".
وتعتقد الصحيفة أنّ: "التحركات التركية الأخيرة في بنغازي، وكذلك التقارب مع مصر، تُقلق روسيا التي ترى في ذلك تهديدًا لنفوذها التقليدي. ويشير تحليل نشره موقع "إنسايدر" إلى أن تركيا بدأت تزيح روسيا عن موقعها كشريك أول للجيش الوطني الليبي؛ حيث إن الحرب في أوكرانيا حدّت من قدرة موسكو على دعم وجودها في ليبيا، ما أدى إلى تقليص أعداد مقاتلي فاغنر وتحويلهم إلى "فيلق إفريقيا" التابع لوزارة الدفاع".
ومع ذلك، ما زالت موسكو تعتبر ليبيا قاعدة لوجستية مهمة في تحركاتها الإفريقية، كما أن تراجع الثقة في روسيا بين حلفائها -بسبب انسحابها من مناطق عدة كسوريا وناغورنو قره باغ- يدفع فاعلين في شرق ليبيا للبحث عن شراكات بديلة. وهنا تبرز تركيا كخيار عملي يوازن بين التعاون الاقتصادي والدعم الأمني، دون فرض تبعية كاملة.
وتكشف الصحيفة ما تسميه "معادلة صعبة" إذ تحاول تركيا من خلالها التوفيق بين علاقاتها في شرق وغرب ليبيا؛ حيث يمنح هذا التوازن أنقرة فرصًا استراتيجية لتوسيع نفوذها، لكنه يفتح أيضًا الباب أمام تحديات دبلوماسية وسياسية معقّدة. ففي الوقت الذي تسعى فيه تركيا إلى تطوير شراكات اقتصادية وعسكرية مع بنغازي، تحرص على عدم خسارة علاقتها الحساسة مع حكومة طرابلس.
وتبين الصحيفة أنّ: "هذه السياسة المتوازنة تُواجه اختبارات داخلية في ليبيا، خاصةً في ظل الانقسامات بين الميليشيات غرب البلاد وهشاشة تحالفات رئيس الوزراء عبد الحميد الدبيبة. كما أن التوسع التركي في الشرق قد يثير شكوك طرابلس، ويؤدي إلى تآكل الثقة".
وهذه التحركات لا تقتصر تداعياتها على الداخل الليبي، بل تمتد إلى شرق المتوسط. إذ تتابع اليونان عن كثب التحركات التركية، وقد ردت بزيارات دبلوماسية مكثفة إلى طرابلس وبنغازي، دون أن تحقق اختراقًا حقيقيًا في ملف مناطق النفوذ البحري. بل إن رفض سلطات شرق ليبيا استقبال وفد أوروبي ضم وزيرًا يونانيًا في يوليو/تموز الماضي، يعكس تعقيد المعادلة.
وتخلص الصحيفة إلى أنّ: "نجاح تركيا في هذه المرحلة يتطلب دقة عالية في إدارة توازنات داخلية ليبية حساسة، إلى جانب هندسة شبكة علاقات إقليمية مرنة تتجنب التصعيد وتُبقي الأبواب مفتوحة أمام فرص النفوذ المستقر".
وفي سياق متصل، تناقش الصحيفة، "المواقف المتوقعة للأطراف المؤثرة إزاء تصاعد النفوذ التركي في شرق ليبيا، فالاتحاد الأوروبي يعاني من انقسامات داخلية وضعف في صنع القرار، ما يصعب عليه إيجاد رد بديل على تحركات أنقرة، رغم أن مستقبل مواقف دول مثل فرنسا قد يؤثر على توازن القوى داخل الاتحاد".
واسترسلت: "تحاول اليونان، بالتعاون مع مصر، الضغط على حلفاء تركيا لمنع تقنين اتفاقات الترخيص البحري التي أبرمتها أنقرة مع ليبيا، في مسعى لإعاقة نفوذ تركيا المتنامي في المنطقة. وقد طالت هذه الضغوط الولايات المتحدة أيضاً، في إطار محاولات للتأثير على المشهد السياسي في ليبيا".
"قد يهدد التصعيد التركي في شرق ليبيا النموذج غير المعلن لتقاسم النفوذ بين تركيا وروسيا، مما يجعل العلاقة بين البلدين في ليبيا على مفترق طرق بين التصعيد والتفاوض. وقد استؤنفت مؤخراً المحادثات الدبلوماسية رفيعة المستوى بين أنقرة وموسكو لهذا الملف" وفقا للتقرير ذاته.
واختتمت الصحيفة تقريرها بأنّ: "الموقف الأمريكي والأوروبي يتجه إلى قبول الحضور التركي كعامل توازن ضد النفوذ الروسي، خصوصاً وأن الولايات المتحدة تفضل عدم التدخل المباشر في ليبيا. بالتالي، تشكل ليبيا ساحة صراعات استراتيجية بين القوى الكبرى، ويظل دور تركيا مرهوناً بقدرتها على إدارة المكاسب على الأرض بحكمة".