قال الدكتور علي جمعة، مفتى الجمهورية السابق، وعضو هيئة كبار العلماء، إن مما ابتُليت به الأمة في عصورها المتأخرة أن تصدر للقول في دين الله من لم يحط بأصول العلم، ولم يرسخ قدمه في مدارج الفهم، فصار يتكلم في المسائل الكبار، ويخوض فيما لا علم له به، خروجًا عن الجماعة العلمية المعتبرة، وتخليًّا عن الضوابط المرعية التي بها يحفظ الدين وتصان الدنيا.

وأشار عبر منشور عبر صفحته على فيس بوك، إلى أن سيدنا رسول الله ﷺ حذَّر من هذا المسلك الخطير، فقال: «فعليكم بالسواد الأعظم»، وقال: «ومن شذ شذ في النار» (رواه ابن ماجه).

وبين أن الجماعة العلمية ليست مجرد اجتماع أشخاص، بل هي مقام الأمة في علمها، وضميرها في فهم نصوصها، وميزانها في ضبط استنباط الأحكام وتنزيلها على الوقائع. والخروج عنها شذوذ، والشذوذ مهلكة في الدين والدنيا معًا.

متى يظهر الشذوذ عن الجماعة

الشذوذ عن الجماعة العلمية يظهر عندما يتكلم من لم تكتمل فيه شروط الإفتاء والاجتهاد:

- فلا يحسن فهم النصوص الشرعية ولا يفرق بين قطعيها وظنيها.

- ولا يدرك الواقع المعيش بكل تعقيداته وتغيراته.

- ولا يراعي المصالح الشرعية، ولا المقاصد الكلية، ولا المآلات المستقبلية للأقوال والأفعال.

- ولا يزن الفتوى بميزان اللغة العربية وأعرافها المرعية.

فإذا اجتمع هذا الجهل المركب، خرج المفتون عن سواء السبيل، وصار تجديدهم تبديدًا، وتقريبهم تبعيدًا، وإصلاحهم إفسادًا.

وهؤلاء إذا رأوا مشكلة، هربوا منها بآراء غريبة، وكلمات تهدم أصول الدين من حيث لا يشعرون، فيتناقض أول كلامهم مع آخره، وتضطرب أقوالهم اضطراب السقيم في خطواته. فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وقد نبه علماء الأصول إلى هذا الصنف من الناس، وسموه "المفتي الماجن"، وهو الذي خرج عن الجماعة العلمية، وخالف القواعد المرعية، ولم يبالِ بإجماع ولا مصالح ولا مقاصد.

قالوا: المفتي الماجن أخطر من الجاهل الصريح؛ لأنه يلبس على الناس أمر دينهم، ويدعو إلى فتنة لا تقتصر على الدين وحده، بل تفسد المجتمع كله، وتهدد الأمن المجتمعي الذي يقوم على سقف الشريعة الإسلامية.

والفرق بين الفقه والإفتاء واضح عند العلماء:

- الفقه هو تحصيل المسائل العلمية من نصوص الكتاب والسنة.

- أما الإفتاء فهو تنزيل الأحكام على وقائع الناس وأحوالهم، بعد فهم النصوص وفهم الواقع معًا، وضبطهما بالضوابط الشرعية الدقيقة.
 

أركان الإفتاء

ولذا، فإن الإفتاء يحتاج إلى ثلاثة أركان:

1. إدراك النص (بأقسامه: نص مقدس، ونص اجتهادي).

2. إدراك الواقع (بأبعاده الأربعة: الأشياء، الأشخاص، الأحداث، الأفكار).

3. الربط بين النص والواقع وفق قواعد الاجتهاد وضوابط الفتوى.

ينقسم النص في الشريعة إلى:

- نص مقدس، كالقرآن الكريم والسنة النبوية الثابتة بالسند الصحيح، وهما المصدران المعصومان.

- ونتاج بشري، هو اجتهادات العلماء والمجتهدين عبر العصور، التي بذلوا فيها الوسع، وجعلوا العلم فوق حياتهم وأهوائهم.

ومع النتاج البشري ينبغي ألا نقف عند مسائلهم الجزئية، بل نغوص في مناهجهم الاستنباطية التي تجاوزت الزمان والمكان، وكان منهاجهم مستوعبًا لطبيعة تغير الأحوال والأزمان.

ولا يصح لمن يتصدر للفتوى أن يتخير من أقوال الفقهاء ما يشتهي دون ضابط، بل عليه أن يتحرى في ضوء:

- قواعد الاجتهاد المقررة.

- ضوابط المصالح والمقاصد والمآلات.

- مراعاة الإجماع واللغة العربية.

وقد أُلِّفَت مجلدات في تحرير هذه الضوابط، مثل ما كتبته دار الإفتاء المصرية في خمسة مجلدات متينة بعنوان "ضوابط الاجتهاد الفقهي".

ليس ما نراه اليوم من فتن الفتاوى الشاذة جديدًا، بل له جذور قديمة:

- في سنة 1930 ظهر محمد أبو زيد الدمنهوري فأنكر المعجزات، وخالف في أحكام الحدود والميراث والخمر والحجاب، ورد عليه العلماء في مجلة الأزهر في ردود مفحمة، وسكنت الفتنة.

- ثم ظهر محمد نجيب، فأنكر السنة، وألف كتابًا سماه "الصلاة"، زعم فيه أن الصلوات عشر، واستدل استدلالات سخيفة، حتى صار مضرب المثل في الجهالة والضلال، حتى ارتد عن الإسلام ومات سنة 1960.

- ثم تتابعت بعده فتن: أباح بعضهم التدخين في رمضان، وآخرون استباحوا القبلات علنًا، وكلما ماتت فتنة بعث الله لها علماء صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فدحضوا الباطل ودافعوا عن الدين.

طريق الشذوذ العلمي طريق مظلم يقود إلى ضياع الدين والدنيا معًا.

ولا نجاة إلا بالرجوع إلى الجماعة العلمية، والتأدب بأدب العلم، ومراعاة أصول الشريعة ومقاصدها.

فإنا لله وإنا إليه راجعون، ونسأله أن يحفظ ديننا وأمتنا من شذوذ المفتين ومجانة المتجرئين، وأن يردنا إلى الحق ردًا جميلا.

والله المستعان وعليه التكلان.

طباعة شارك والفرق بين الفقه والإفتاء أركان الإفتاء الفرق بين الفقه والإفتاء المفتى الماجن

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: أركان الإفتاء عن الجماعة

إقرأ أيضاً:

هل يجوز صيام رابع أيام التشريق إذا صادف أول الأيام البيض؟

قال العلماء إن صيام اليوم الثالث عشر من ذي الحجة، والمعروف بثالث أيام التشريق، غير جائز سواء كان تطوعًا أو فرضًا، باعتبار أن أيام التشريق هي أيام أكل وشرب وذكر لله تعالى، وقد نهى النبي ﷺ عن صيامها بشكل عام.

وأوضح العلماء أن الاستثناء الوحيد لصيام أيام التشريق يخص من لم يجد الهدي من حجاج التمتع، حيث يجوز له أن يصوم هذه الأيام بنية أداء ما فاته من الهدي. 

وهذا ما دل عليه ما ورد في صحيح البخاري عن عائشة وابن عمر رضي الله عنهما أنهما قالا: "لم يُرخص في أيام التشريق أن يُصمن إلا لمن لم يجد الهدي".

من جانبه، أوضح الدكتور علي جمعة، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، أن أيام التشريق هي الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من شهر ذي الحجة، وهي الأيام الثلاثة التي تلي يوم عيد الأضحى.

فضل دعاء واستغفار الحاج لأقاربه قبل دخول بيته.. علي جمعة يوضحلماذا لم تتكوّن مذاهب فقهية باسم الصحابة؟.. علي جمعة يجيبعلي جمعة: المذاهب الفقهية كانت موجودة على عهد النبيهل المذاهب الفقهية مختلفة عن السنة النبوية؟.. علي جمعة يجيب

وأشار إلى أن صيام هذه الأيام الثلاثة غير جائز، مستشهدًا بحديث النبي ﷺ: «أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله»، رواه مسلم.

 كما استشهد بما رواه الإمام أحمد عن حمزة بن عمرو الأسلمي، أنه رأى رجلاً بمنى يقول: "لا تصوموا هذه الأيام فإنها أيام أكل وشرب"، والنبي ﷺ يشاهده ولم يُنكر عليه.

كما روى أحمد وأبو داود عن أبي مرة مولى أم هانئ، أنه دخل مع عبد الله بن عمرو على عمرو بن العاص، فقدم لهما طعامًا، فرفض عبد الله قائلاً: "إني صائم"، فرد عليه عمرو قائلاً: "كل، فهذه الأيام التي كان رسول الله ﷺ يأمرنا بفطرها وينهانا عن صيامها". وعلّق الإمام مالك بأن المقصود بها هي أيام التشريق.

طباعة شارك أيام التشريق الأيام البيض الثالث عشر من ذي الحجة الدكتور علي جمعة

مقالات مشابهة

  • "فُجعنا".. سماحة المفتي يعلق على العدوان الإسرائيلي على إيران
  • السيستاني يدعو المجتمع الدولي لوقف الاعتداءات الاسرائيلية
  • العراق يدعو مجلس الأمن إلى الانعقاد الفوري لـ«ردع إسرائيل»
  • الخرباوي: الإخوان سعوا لتحويل هيئة كبار العلماء إلى لجنة دينية بدلا من القضاة
  • لذّة الصلاة تبدأ من خارجها.. علي جمعة يوضح سر الخشوع ويُحذّر من تحوّل العبادة إلى عادة
  • هل يجوز للعائد من الحج ترك صلاة الجماعة عدة أيام للراحة
  • نصرة الحق والعدل.. علي جمعة يكشف عن أهداف الحرب في الإسلام وشروطها
  • هل يجوز صيام رابع أيام التشريق إذا صادف أول الأيام البيض؟
  • سلطان بن أحمد: فخورون بتطور بحوث الجامعة العلمية التطبيقية لخدمة المجتمع وتنميته
  • فضل دعاء واستغفار الحاج لأقاربه قبل دخول بيته.. علي جمعة يوضح