الخرطوم – الشرق/ بعد مرور عامين على اندلاع الصراع بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، تمكن مهدي عبد العزيز، أخيراً من العودة إلى منزله في ضاحية شرق النيل شرقي الخرطوم، عقب انتزاع الجيش السيطرة على المنطقة من قوات الدعم السريع، واستعادة معظم أحياء العاصمة عدا جيوب صغيرة أقصى غرب وجنوب مدينة أم درمان.



وأمضى عبد العزيز، نحو عامين نازحاً في الداخل وتنقل بين عدة مدن في وسط وشرق السودان، واضطر طوال تلك الفترة إلى الفرار من مكان إقامته 3 مرات منذ بداية الحرب في منتصف أبريل 2023.

مع بداية الحرب، فر عبد العزيز مع عائلته إلى مدينة ود مدني عاصمة ولاية الجزيرة بعد تصاعد حدة المعارك في الخرطوم، وعقب اجتياح قوات الدعم السريع الولاية في ديسمبر 2023، اضطر إلى النزوح مرة أخرى إلى سنار، لكن المعارك طاردته إليها بعد أشهر قليلة ما دفعه للتوجه مع أسرته نحو بورتسودان في أقصى شرق البلاد.

وعلى الرغم من الخراب الواضح في منطقته وأعمال السلب والنهب التي تعرضت لها معظم المنازل والمرافق الخدمية إضافة إلى ضعف الخدمات الأساسية كالمياه والكهرباء، إلا أن عبد العزيز يبدو سعيداً بالعودة إلى بيته بعد معاناة طويلة من النزوح المتكرر.

عبد العزيز قال لـ "الشرق"، إن الأوضاع بالمنطقة "ليست بالشكل المطلوب لكن الأمن يسير نحو التحسن بعد وصول الجيش إلى أحياء شرق النيل".

وفتحت بعض الأسواق الشعبية أبوابها وتوفرت السلع الأساسية، لكن المياه والكهرباء ما زالت مقطوعة عن المنطقة.

وناشد عبد العزيز، حكومة ولاية الخرطوم، بذل المزيد من الجهود لاستعادة الخدمات الأساسية وفي مقدمتها الكهرباء والمياه، لافتاً إلى أن الأهالي يحصلون على مياه الشرب عن طريق نقلها في براميل على عربات تجرها الدواب من مناطق بعيدة.

عودة الحياة إلى الخرطوم
ومع توالي انتصارات الجيش في عدة ولايات وعلى رأسها العاصمة الخرطوم، بدأت رحلات عودة النازحين الطوعية مرة أخرى، خاصة من دول الجوار مثل مصر، وإثيوبيا، وجنوب السودان.

وتزايدت هذه الرحلات في الأسابيع الأخيرة، وبدأت تنعكس على مظاهر الحياة في بعض الولايات لا سيما الخرطوم، وسط حراك نسبي في بعض مناطق العاصمة التي بدأت تعود تدريجياً إلى الحياة مرة أخرى.

وعلى الرغم من هذه العودة، إلا أن هناك العديد من التحديات التي ربما تعيق تدفق المزيد من النازحين واللاجئين إلى السودان، وعلى رأسها الوضع الأمني، إذ لا تزال الاشتباكات بين الجيش والدعم السريع مستمرة في مناطق جنوب وغرب أم درمان، إضافة إلى نقص الخدمات، مثل الكهرباء، والمياه، والصحة، وشبكات الاتصالات، والسلع الغذائية، ووسائل النقل الداخلية، وخرجت معظم المستشفيات عن الخدمة، وتوقفت المدارس في مناطق النزاع، وانهارت شبكات الاتصالات والمواصلات الداخلية وسط دمار واضح في البنية التحتية.

وتختلف الأوضاع نسبياً في المناطق التي تخضع لسيطرة الجيش مقارنة بالخرطوم، إذ تعاني ولايات الشمال والجنوب الشرقي والوسط من أزمات مشابهة، ولكن بدرجات متفاوتة، ما يؤخر عودة بعض الراغبين في العودة إلى السودان بشكل مؤقت.

وعقب اندلاع الحرب لجأ الزبير يعقوب، إلى مصر، لكن لا تزال لديه النية للرجوع إلى بلاده مع تزايد رحلات العودة الطوعية من مختلف دول الجوار التي فر إليها ملايين السودانيين.

وقال يعقوب في تصريحات لـ"الشرق": "الناس عائدة بكميات كبيرة بسبب انتهاء الحرب"، مشيراً إلى أن "ما دفعه للرجوع هو برنامج العودة الطوعية للمواطنين الذي يموله رجال أعمال للتسهيل على السودانيين وتوفير تكاليف السفر"، مشيراً إلى أن فرص العمل في القاهرة "ضئيلة جداً"، وأضاف "وإن توفرت فإن عدد ساعات العمل في جميع المجالات طويلة، والرواتب ضعيفة لا تغطي جميع الاحتياجات، لذلك غالبية العائدين هم من فئة الشباب".

ويعول يعقوب الذي يأمل العودة إلى منزله في جنوب الخرطوم، على سلطات العاصمة في توفير الخدمات الأساسية للمواطنين، مشيراً إلى أن العائلات التي عادت بعد عيد الفطر مباشرة عانت كثيراً.

إعادة الإعمار
الطيب سعد الدين، الناطق الرسمي باسم حكومة ولاية الخرطوم، قال إن "السلطات تعمل على إعادة الإعمار، وإزالة الأنقاض وفتح الشوارع ودفن جثامين الضحايا من أجل عودة الحياة إلى طبيعتها في مدن العاصمة".

وأضاف لـ "الشرق"، أن "حكومة الخرطوم قطعت شوطاً كبيراً في تنظيف منطقة وسط الخرطوم، وتأهيل أكبر 3 شوارع بشرق العاصمة وهي الستين، وعبيد ختم، وإفريقيا، فضلاً عن إزالة الأنقاض وهياكل المركبات المدنية والقتالية، والتنسيق مع القوات المسلحة لسحبها من الشوارع الداخلية، بوسط المدينة بما في ذلك محيط القصر الجمهوري، والسوق العربية، ومنطقة المقرن".

ورداً على سؤال بشأن توفير الخدمات الأساسية كالمياه والكهرباء، أعلن سعد الدين وضع خطة بديلة تتمثل في توفير الوقود لمحطة مياه المنارة، وإضافة مولد كهربائي جديد لزيادة الإنتاج، ورفع كفاءة المحطة التي تغطي معظم مدينة أم درمان، وحفر نحو 60 بئراً جوفية لتوفير المياه خاصة مع بدء ارتفاع درجات الحرارة، واقتراب فصل الصيف.

خسائر السودان بالمليارات لكن فرص الاستثمار بعد الحرب هائلة
رغم استمرار القتال حتى بعد استعادة الجيش السوداني السيطرة على الخرطوم، لكن السودانيين احتفلوا بصورة ما بالعيد للمرة الأولى منذ بداية الحرب قبل نحو عامين.

وقال سعد الدين، إن الدفاع المدني دشن حملة شاملة تستمر أسبوعاً من أجل تطهير جميع المرافق الحكومية بالخرطوم وتعقيمها، مشيراً إلى أن العمل يجري الآن بوتيرة متسارعة تزامناً مع زيارة وزير الداخلية للخرطوم.

واعتبر أن زيارة وزير الداخلية للعاصمة "لها دلالة كبيرة في إطار تعزيز الخطة الأمنية بالولاية ودعمها من خلال العمل المشترك الذي تؤديه لجنة أمن الخرطوم"، لافتاً إلى أن قوات الشرطة مستمرة في الانتشار بالمناطق التي سيطرت عليها القوات المسلحة، وأعادت فتح 5 مراكز شرطية بمحلية أمبدة غربي أم درمان.

وأشار سعد الدين، إلى أن حكومة الخرطوم تواجه تحديات وصفها بأنها "كبيرة"، لا سيما بعد الدمار الذي تعرضت له البنى التحتية، وتعطيل محطات الكهرباء وانتزاع الكابلات والنحاس من محولات الكهرباء، لافتاً إلى أن "هناك رغبة في التحول للاعتماد على الطاقة الشمسية لمواجهة انقطاعات الكهرباء المتكررة كونها أقل تكلفة".

أزمات في الولايات
المعاناة من انقطاع الكهرباء والمياه، والغلاء، لا تقتصر على المناطق التي شهدت اشتباكات فقط، لكنها واضحة أيضاً في في الولايات الخاضعة لسيطرة الجيش سواء التي لم تصلها الاشتباكات مثل نهر النيل، والشمالية شمالاً، والقضارف وكسلا والبحر الأحمر شرقاً، أو تلك التي جرى استردادها من قوات الدعم السريع وسط البلاد كالجزيرة، وسنار، وأجزاء من النيل الأبيض، وشمال كردفان.

أنس بشير، الذي عاد إلى مدينة سنجة عاصمة سنار، قال إن الكهرباء والمياه تنقطع لساعات طويلة، على الرغم من نجاح حكومة الولاية في صيانة معظم محولات الكهرباء، التي تعرضت للتدمير جراء الاشتباكات والقصف المتبادل.

وأضاف في حديثه لـ"الشرق"، أن "الحياة بدأت تعود تدريجياً بعد إعادة فتح السوق الكبيرة، لكن الكثير من المواطنين الذين فروا إلى الولايات المجاورة في شرق البلاد عقب هجوم الدعم السريع، العام الماضي، لم يعودوا إلى بيوتهم حتى الآن".

وأعلن وزير التنمية الاجتماعية، أحمد آدم بخيت، عودة أكثر من 100 حافلة من ولاية البحر الأحمر عبر مبادرة "راجعين" التي تنظمها حركة العدل والمساواة، للنازحين الذين اضطروا لمغادرة ديارهم.

وفي تصريحاته لـ"الشرق"، أثناء وجوده في محطة الحافلات لنقل الدفعة الرابعة من العائدين إلى ولاية الجزيرة في وسط البلاد والتي بلغت 27 حافلة، قال بخيت إن "المبادرة مستمرة من كافة الولايات في شرق السودان".

وأضاف بخيت أن وزارته "ظلت ترصد الانتهاكات التي يتعرض لها المواطنون من قبل قوات الدعم السريع، وهي موجودة في مضابط الجهات المعنية، ومنظمات حقوق الإنسان، وكلها سيتم التعامل معها في الأطر المعنية بأجهزة حقوق الإنسان، وبعد عودة المواطنين سنبذل جهودنا، ونتابع العمل عبر ديوان الزكاة والتأمين الصحي وكافة أذرع الوزارة في الاهتمام بالمواطن".

عودة آلاف السودانيين
وأفادت منظمة الهجرة الدولية التابعة للأمم المتحدة، بعودة قرابة 50 ألف سوداني من مصر، خلال أبريل الجاري، ليرتفع عدد العائدين إلى حوالي 165 ألفاً.

وذكرت منظمة الهجرة، الاثنين، إن 49 ألفاً و800 سوداني عادوا من مصر هذا الشهر، مقارنة بـ 20216 في مارس الماضي.

وأشارت إلى أن العائدين، العام الماضي، بلغ عددهم 42 ألفاً و418 مقابل 122 ألفاً و912 في الربع الأول من 2025.

ونزح نحو 1.5 مليون سوداني إلى مصر من بين 4 ملايين تقريباً فروا من البلاد عبر الحدود إلى الدول المجاورة منذ اندلاع النزاع قبل عامين.

وذكرت منظمة الهجرة، أن "العائدين من مصر معظمهم من الخرطوم، بنسبة 71%، تليها ولاية الجزيرة بنسبة 22%، فيما جاء البقية من مناطق متفرقة"، مشيرة إلى أن 82% من إجمالي العائدين من مصر إلى السودان، عبر معبر أشكيت، بينما فضل البقية البالغ عددهم 30022 العودة عبر معبر أرقين.

حافظ النور يحلم بالعودة أيضاً إلى السودان، بعدما لجأ إلى أوغندا قبل أكثر من عام، في أعقاب اجتياح قوات الدعم السريع ولاية الجزيرة في ديسمبر 2023.

وقال النور: "لا يوجد ما يدعوني للبقاء في أوغندا، بعدما سيطر الجيش على ولاية الجزيرة التي أصبحت بعيدة عن دائرة الخطر"، معتبراً أن "تحديات توفير الخدمات مقدور عليها بعد استتباب الأمن".

وعبر عن فرحته خلال حديثه لـ"الشرق"، باقتراب عودته إلى الديار، لكنه ينتظر تدشين برامج العودة الطوعية، كما دعا سفارة بلاده في أوغندا إلى التحرك سريعاً من أجل إعادة اللاجئين، سواء عبر جهود الحكومة أو عبر رجال أعمال، كما فعلت الجمعيات السودانية في مصر؛ لأن تكلفة تذكرة الطائرة مرتفعة جداً، إذ يصل سعرها إلى نحو 500 دولار.

واشتكى النور من ارتفاع تكاليف المعيشة في العاصمة الأوغندية كمبالا، وقال إن "كل مدخراته نفدت مع طول أمد الصراع الذي دخل عامه الثالث منتصف أبريل الجاري".  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: قوات الدعم السریع الخدمات الأساسیة ولایة الجزیرة إلى السودان عبد العزیز العودة إلى سعد الدین أم درمان من مصر إلى أن

إقرأ أيضاً:

البرهان يناور بذكاء ويتوعد الدعم السريع

تخيل بلدا يقف على جرف هارٍ تدفعه حرب ضارية إلى الهاوية، وجيشا يقاتل على جبهات متشعبة، واقتصادا ينهار طبقة بعد أخرى، بينما تتنازع قوى عالمية على أرضه وموانئه وذهبه وموقعه الاستثنائي.

وفي قلب هذا المشهد يقف رئيس مجلس السيادة الانتقالي وقائد الجيش، الفريق أول عبدالفتاح البرهان، محاولا أن يمسك بالعصا من وسطها: يلوح للغرب بإمكانية الشراكة، ويشد في الوقت نفسه خيوط الارتباط بالشرق الصاعد.

ليس ذلك تقلبا سياسيا ولا انتقالا عشوائيا بين المحاور، بل مناورة وجودية فرضتها الجغرافيا القاسية، وحرب أنهكت الدولة والمجتمع، وتوازنات دولية تجعل من السودان ساحة اختبار كبرى في صراع النفوذ على البحر الأحمر والقرن الأفريقي.

وفي هذا السياق تحديدا، برزت آخر رسائل البرهان إلى الغرب عبر مقاله الذي اختار له بعناية صحيفة وول ستريت جورنال الأميركية بتاريخ 25 نوفمبر/تشرين الثاني 2025؛ رسالة لم تكن مقال رأيٍ عابرا، بل مذكرة سياسية مشفرة، صيغت بقدر محسوب من الإيحاء لتصل مباشرة إلى دوائر صناعة القرار.

الانحياز إلى الشرق يعني سلاحا متاحا، لكن يفضي إلى عزلة مالية خانقة والانحياز إلى الغرب يعني دعما اقتصاديا محتملا، لكن يفضي إلى فقدان الإسناد العسكري، وخطر الانفجار الداخلي، ولهذا يصبح الاصطفاف الكامل قاتلا

الرسالة السياسية والصفقة غير المعلنة

في مقاله المثير، حمل البرهان قوات مليشيا السريع مسؤولية الحرب، رافضا توصيف الصراع بأنه "صراع جنرالين"، ومؤكدا أنها حرب تمرد على الدولة.

لكنه لم يكتفِ بهذا التوصيف؛ بل بنى المقال كله على فكرة واحدة: إذا ساعدتموني على تفكيك مليشيا الدعم السريع وإنهاء التمرد، فسأكون جاهزا للمضي في مسار التطبيع، وتقديم صيغة حكم مدني ترضيكم.

لوح البرهان بالانتقال الديمقراطي، وذكر الغرب بأن الصراع يهدد مصالحه في البحر الأحمر، وفتح باب الشراكة الاقتصادية، مشيرا إلى دور للشركات الأميركية في إعادة الإعمار. بدا المقال أقرب إلى عرض تفاوضي مكتمل الأركان: دعم عسكري وسياسي مقابل شرعية واستقرار وتعاون أمني.

هذه الرسالة ليست معزولة؛ فهي تأتي في وقت تتنامى فيه تحركات البرهان على الساحة الدولية: خطابات في الأمم المتحدة، إشارات إيجابية في الملفات الإنسانية، وانفتاح محسوب على المؤسسات الغربية.

إعلان

لكن هذه الإشارات لا تعني انقلابا إستراتيجيا نحو الغرب، بل هي جزء من لعبة أكبر توازن فيها القيادة السودانية بين مكاسب اللحظة، ومخاطر الاصطفاف الحاد.

بين القيمة الجيوسياسية وكلفة الاصطفاف

يحتل السودان موقعا استثنائيا. فهو بوابة البحر الأحمر، وممر التجارة العالمية، وخزان ضخم للمعادن والأراضي الزراعية. ولهذا تتصارع عليه القوى الكبرى اليوم، كما لم تفعل من قبل.

الصين ترى في السودان امتدادا لطريقها التجاري نحو أفريقيا. استثماراتها الضخمة في الموانئ والبنية التحتية والزراعة، تجعلها تبحث عن طريقة لتفادي انهيار كامل قد يبتلع مصالحها. وبكين، رغم هدوئها المألوف، تدرك أن الفوضى في السودان تعني خسارة سنوات من العمل الاقتصادي والإستراتيجي، ولذلك تتحرك بدقة: دعم محدود للجيش، وضغط خلفي لتثبيت الاستقرار دون الاصطدام بالغرب مباشرة.

أما روسيا فقد استعادت أدواتها غير النظامية عبر "أفريكا كوربس"، البديل الجديد لفاغنر، بهدف ترسيخ وجود إستراتيجي دائم على البحر الأحمر. بالنسبة لموسكو، السودان ليس مجرد شريك إستراتيجي، بل هو مفتاح لدخول القرن الأفريقي بعمق، وتحقيق توازن مع الضغوط الغربية في أوكرانيا، وأوروبا.

الغرب من جهته يراقب بقلق تمدد الشرق. لكنّ لديه شرطا واحدا لم يتغير: لا دعم اقتصاديا حقيقيا دون التقدم في ملف التطبيع، وهندسة المسرح السياسي الداخلي، واستبعاد تيار بعينه.

هكذا يجد السودان نفسه أمام معادلة مستحيلة:

الانحياز إلى الشرق يعني سلاحا متاحا، لكن يفضي إلى عزلة مالية خانقة. الانحياز إلى الغرب يعني دعما اقتصاديا محتملا، لكن يفضي إلى فقدان الإسناد العسكري، وخطر الانفجار الداخلي.

ولهذا يصبح الاصطفاف الكامل قاتلا، والمناورة بين الشرق والغرب أشبه بخيط نجاة رفيع، لكن لا بد من السير عليه.

عدم الانحياز الذكي ورهان الداخل

ضمن هذه الحسابات الدولية المعقدة، يبرز مسار ثالث يفرض نفسه بقوة:

عدم الانحياز الفعال، وهو ليس حيادا سلبيا كما في الستينيات، بل إستراتيجية قائمة على مزيج من الانفتاح الانتقائي، والمداورة الدبلوماسية.

هذا المسار يعني:

تعاونا اقتصاديا عميقا مع الصين، دون الارتهان لها. شراكة أمنية مع روسيا، دون التحول إلى بوابة لها على البحر الأحمر. انفتاحا على الغرب، دون الوقوع في فخ الشروط الثقيلة التي قد تشعل الداخل. بناء دور إقليمي يعتمد على الجغرافيا لا على الأيديولوجيا.

بهذه المقاربة، يتحول السودان من ساحة صراع إلى لاعب يجيد توظيف الصراع لصالحه.

بيد أن كل هذا لن ينجح إذا لم يتم حسم المعركة الأهم: معركة الداخل. فالرهان الحقيقي ليس على واشنطن ولا بكين ولا  موسكو، بل على قدرة القيادة السودانية على:

توحيد الجبهة الداخلية، إعادة بناء المؤسسات، وقف النزيف الاقتصادي، وفرض إرادتها على القوى الإقليمية المتدخلة.

فمن دون جبهة داخلية متماسكة، تصبح المناورة الخارجية مجرد لعبة خطرة قد تسقط عند أول هزة. ومن دون قرار وطني صارم، لن تستطيع الخرطوم تحويل ثقلها الجيوسياسي إلى قوة حقيقية.

الخلاصة: المناورة ليست خيارا.. بل قدرا سياسيا

ما يقوم به البرهان اليوم ليس استسلاما للغرب ولا انحيازا للشرق، بل مناورة إجبارية تهدف إلى جمع السلاح من منطقة، والشرعية من أخرى، والمساعدات من ثالثة، دون دفع الأثمان كاملة لأي طرف.

إعلان

هي محاولة لاستثمار موقع السودان الفريد في معركة الهيمنة على البحر الأحمر، وتحويل الأزمة إلى ورقة تفاوض كبرى. غير أن هذه اللعبة الخطرة لن تجدي نفعا إذا لم يُستعَد الداخل أولا.

ففي النهاية، لا تحدد الدول الكبرى مصائر الأمم بقدر ما تحددها إرادة أبنائها.

وقدرة السودان على الخروج من النفق لا تتوقف على لعبة التوازن الدولية فحسب، بل على قوة البيت الداخلي، وتمكن القيادة من فرض رؤيتها على من يحاولون تشكيل مستقبل السودان من الخارج.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطبيان إمكانية الوصولخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • الجيش السوداني يُدمر ارتكازات ومعدات عسكرية للدعم السريع
  • البرهان يناور بذكاء ويتوعد الدعم السريع
  • ماذا تغير في تركيا بعد عام من بدء عودة السوريين إلى بلادهم؟
  • منظمة التحرير الفلسطينية: الأوضاع في غزة كارثية مع تدني الخدمات ونقص الإمدادات
  • منظمة التحرير: الأوضاع في قطاع غزة كارثية مع تدني الخدمات ونقص الإمدادات
  • تحذير أممي: حرب السودان وانعدام الأمن في حوض بحيرة تشاد يهدد وسط أفريقيا
  • «السودان».. أكبر أزمة نزوح فى العالم..!
  • اتجاهات حكومية: ما بين الانتقال ومنع الصيانة
  • جوتيريش: سنلتقي ممثلين عن الجيش السوداني والدعم السريع في جنيف
  • الأردن.. عودة 170 ألف لاجئ سوري لبلدهم