تحت ظلال الكافور: حكايات من زمن الإصلاح والحرية.. .ونبش قبور الكبار!
تاريخ النشر: 2nd, May 2025 GMT
في ظهيرة صيفية من سبعينيات القرن الماضي، كنا نحن الفتية نجلس تحت ظلال أشجار الكافور والجزروين على ضفاف ترعة الزيني. كان الهواء حارًا، لكنه مشبع برائحة الأرض، وصوت المياه يهمس في خلفية المشهد.هناك، بين الترعة والحقل، كان الفلاحون والنساء والأطفال يشكّلون فرق العونة، يعملون بجدّ في جمع لطع إصابة ورق شجر القطن، كما لو أنهم يقتطفون التعب من وجه الأرض.
وسط هذا الحشد، بدأ رجل طاعن في السن حديثه كمن يفتح نافذة على ماضٍ منسي. تحدّث عن أيام ما قبل ثورة يوليو، عن المعاناة تحت سلطة الخاصة الملكية، عن الناظر الذي كان يستبيح كرامات النساء، ويعامل الفلاحين كعبيد في أرض لا يملكون منها شيئًا سوى العرق. كانت الأراضي تمتد من الترعة الجبّادة إلى المصرف، بطول أقل من كيلومتر، لكنها كانت بعيدة المنال لمن يزرعها.
توسّع الحديث، ودخلت النساء على الخط، يشكين من جبروت تلك المرحلة، من ظلم لا يُنسى، ومن ذكريات تخدش الروح. وفجأة قال أحد الرجال:
ـ "يا أحمد، فاكر كانوا بيقولوا عليك إيه؟"
أجابه مبتسمًا:
ـ "أبو عرّائه!"
وضحك وهو يقول:
ـ "كويس إن العرّاءة كانت موجودة، أنا كنت بأحمد ربنا إني بلاقيها".
تداخلت الحكايات، تشابكت مثل غصون الكافور، وتحوّلت الجلسة إلى أرشيف حي ينبض بالذكريات عن فرحة توزيع الأراضي بعد الثورة، حين شعر الناس لأول مرة بأنهم ملاك لا عبيد.لكن الزمن دار دورته، وها هم الأحفاد اليوم يلعنون قانون الإصلاح الزراعي، ويهينون ذكرى عبد الناصر الذي حرر أجدادهم من القهر.
الطريف ـ وربما المحزن ـ أن حفيد "أبو عرّائه" يقود اليوم حملة على شبكات التواصل الاجتماعي في كل مناسبة، يرتدي زيّ النبلاء، ويتحدث بلغة السادة، مدّعيًا أن عبد الناصر "سلبهم" أرضهم. والحقيقة أن الأرض التي ورثها أصبحت جزءًا من الحيز العمراني، وجعلته من طبقة الأثرياء. وهناك أيضًا من يوهمون أنفسهم أن آباءهم كانوا من الأعيان قبل الثورة، وأن عبد الناصر "استولى" على أملاكهم. لكن التاريخ لا يكذب. قانون الإصلاح الزراعي لعام 1952 حدد الحد الأقصى للملكية بـ200 فدان، ثم 100، ثم 50 فدانًا. فأين هي أراضيكم؟!
الحقيقة أن آباءكم كانوا "خُوَل زراعة"، مزارعين يعملون لدى الخاصة الملكية أو الأوقاف، لا يملكون سوى جهدهم. ويحضرني هنا مثال "هارييت توبمان"، الناشطة الأمريكية التي هربت من العبودية، وقادت عشرات المهمات لتحرير مئات العبيد عبر "السكك الحديدية السرية"، وفي الحرب الأهلية شاركت في عمليات حرّرت أكثر من 700 شخص. لم تكن توبمان مجرد محررة، بل رمزًا لمقاومة النسيان والجحود.
وكذلك كان الإصلاح الزراعي في مصر: لحظة تحرر من استعباد طويل، لكن التاريخ كما نعلم يُكتبه الأقوياء ويمسحه الورثة الجاحدون حين تغريهم المكاسب.
ولأننا في زمن "النكوص"، ظهر من ينبش القبور ويطلق تصفيات حسابية ضد رجل مات منذ أكثر من نصف قرن. عبد الناصر ليس نبيًا ولا قديسًا، بل زعيم خاض تجربة وحلم، نستدعيه كلما عصفت بالأمة أزمة. مات في أيلول الأسود وهو يسعى لحقن الدماء. هل تعرفون ماذا تعني أيلول الأسود؟ هل قرأتم تاريخ مبادرة "روجرز" التي حاول من خلالها تهدئة الجبهة لبناء حائط الصواريخ؟
هل قرأتم أن من خان مشروع حائط الصواريخ كان المقدم "فاروق عبد الحميد الفقي"، من أبناء الطبقة الرجعية الإقطاعية؟
هل تتذكرون "كمشيش"؟ هل قرأتم وثائق اختراق الموساد للقمم العربية وتسجيلات الزعماء.. ؟
تتحدثون عن شريط مسرّب، تم اجتزاؤه لغرض مشبوه، وتسريبٌ خُطط له بعناية في دهاليز غرف مغلقة، لأنهم يعرفون أن جهل البعض سيحوّل المقطع إلى مادة للسخرية والتشويه. فلماذا تم تسريب هذا الشريط الآن؟ ومن المستفيد؟ ولماذا لا تُسرّب أشرطة الصفقات المعاصرة؟ أو أرشيفات التطبيع؟ أو وثائق تهريب الثروات؟
عبد الناصر لم يكن معصومًا، لكنه لم يكن خائنًا. لم يمت غارقًا في أرصدة أو قصور. فماذا قدمتم أنتم؟ وأين مشاريعكم؟ قرار الحرب لم يكن نزهة تكتب على مقاهي فيسبوك، ومَن يعرف السياسة يدرك أن الهزيمة لا تمحو شرعية المشروع، بل تكشف من خان.
ليست من شهامة الرجال نبش القبور. ليست بطولة أن تلعنوا مَن أعاد للناس كرامتهم، تحت أجهزة التكييف.. .ومن خلف شاشات الجهل.
تبقى الحكايات، مثل تلك التي سمعناها يومًا تحت شجرة الكافور، شاهدة على زمن حاول أن يعيد للناس حقّهم، قبل أن يُدفن هو في تراب وطنٍ لا يعرف كيف يصون ذاكرته.
وسوف يظل اسم عبد الناصر أطول من عمره، وسيظل هو الحاضر الغائب، المتدفق من كل نقطة ماء، من قلب السد العالي حتى المصب. سيظل "جمال السد العالي" شاهدًا وشامخًا، في وجه كل من يحاول العبث بالنهر الخالد.، ، !
محمد سعد عبد اللطيف - كاتب وباحث مصري في الشأن الجيوسياسي
المصدر: الأسبوع
كلمات دلالية: نبش قبور عبد الناصر
إقرأ أيضاً:
وداع الكبار.. معلول والسولية يطويان صفحات المجد في الأهلي
في لحظات امتزجت فيها المشاعر بين الشكر والامتنان والحزن، توالت رسائل الوداع من نجوم النادي الأهلي الذين أعلنوا رحيلهم رسميًا خلال فترة الانتقالات الصيفية الحالية، وفي طليعة هؤلاء النجوم، برزت أسماء النجم التونسي علي معلول والدولي المصري عمرو السولية، اللذان اختتما مشوارهما الحافل بالبطولات داخل جدران القلعة الحمراء بكلمات مؤثرة خطّتها القلوب قبل الأقلام.
منذ أن وطأت قدماه ملعب التتش في صيف 2016، لم يكن علي معلول مجرد لاعب أجنبي جاء ليقدّم موسمًا أو اثنين، بل تحول إلى رمز من رموز الأهلي، لاعب عاشق ارتدى القميص الأحمر كما لو كان يرتدي قلبه، تسع سنوات قضاها بين جدران الأهلي، كانت كافية ليصنع منها تاريخًا عظيمًا، حافلاً بالأهداف والصناعة والبطولات، ولكن قبل كل شيء... بالمحبة المتبادلة بينه وبين جماهير الأهلي.
الأثر في قلوب الجماهير: لا يُقدّر بثمنفي رسالته الوداعية المؤثرة، عبّر معلول عن حجم الانتماء الذي يكنّه للنادي، مؤكدًا أن علاقته بالأهلي كانت أبعد بكثير من مجرد عقد احترافي، بل هي "عهد مع أمة اسمها الأهلي".
كما شكر الجماهير التي كانت له "وطنًا حين ابتعدت المسافات"، و"سندًا حين انحنت الأيام"، و"حبًا لا يُشترى"، واختتم معلول رسالته بكلمات تحمل مشاعر دفينة قائلًا: "أنا راحل، لكن الحب باقٍ. أحبكم للأبد."
أرقام لا تُنسىعدد الأهداف: 53 هدفًاعدد التمريرات الحاسمة: 85 تمريرةعدد البطولات: 22 بطولةعمرو السولية.. تسع سنوات ونصف من القتال بقلب الأهليأما عمرو السولية، قائد خط الوسط وصاحب الروح القتالية العالية، فقد أعلن هو الآخر نهاية رحلته مع القلعة الحمراء بعد مسيرة استمرت أكثر من تسع سنوات ونصف، شهدت خلالها الجماهير إخلاصًا لا مثيل له، حيث كتب السولية عبر حسابه الرسمي رسالة وداع مؤثرة، شكر فيها جماهير الأهلي التي وقفت بجانبه في كل لحظة، وتذكر معهم لحظات الفرح والحزن والبطولات.
السولية أكد في كلماته أنه لم يدخر جهدًا يومًا في سبيل خدمة النادي، وعبر عن فخره بما قدمه داخل الملعب، معبرًا عن حبه الخاص لعمال المهمات في النادي الذين كانوا له "عائلة" على مدار سنوات مشواره.
محطات مضيئة في مسيرتهعدد المباريات: 342 مباراةعدد الأهداف: 34 هدفًاعدد التمريرات الحاسمة: 29 تمريرةعدد البطولات: 24 بطولة"أتمنى أن أكون قد أديت رسالتي على أكمل وجه… وسأفتقد هتافكم: عمرو يا سولية بنحبك يا أبو ليلى".
رد النادي الأهلي: رسالة تقدير ووعود بالتكريممن جهته، أصدر النادي الأهلي بيانين منفصلين عبّرا عن تقدير إدارة النادي لما قدمه اللاعبان طوال فترتي وجودهما، مشيدًا بإخلاصهما والتزامهما وتفانيهما في خدمة الكيان، وأكد النادي أن معلول والسولية سيظلان من أبناء النادي، وأبواب الأهلي ستبقى مفتوحة أمامهما في المستقبل للعودة ضمن الجهازين الفني أو الإداري.
وداع العظماء.. وبقاء الحب"نرحل ويبقى الحب"... عبارة تكررت في رسائل الوداع لتعبر حقيقيًا عن علاقة استثنائية بين اللاعبين وجمهورهم.
رحل معلول والسولية من أرض الملعب، لكنهما سيظلان خالدان في كل ركن من أركان التتش، وفي قلوب الملايين من عشاق الأهلي، ومع نهاية مشوارهم، تبدأ رحلة وفاء جديدة... من الجماهير لأبطالها، ومن التاريخ لأسمائه التي لا تُنسى.