الأدب لا يرمّم ما تهدمه السياسة بل يمنح الفرد صوته ويحرض على الرؤية

النقد عندي لم يكن نقيضاً للإبداع والخوف من صوت الناقد يُعيق الكاتب

الغرب يقرؤنا كهوامش، بدافع الفضول والاكتشاف

عندما تقرأ للكاتب هيثم حسين لا يمكن إلا أن تصغي لصوت الكلمات وهي تبوح الوجع، وتقرأ بين الأسطر تفاصيل الأماكن والأحداث، ذاكرة متقدة، وسرديات تمتزج بما يعتلج في الأرواح من فجائع، فكيف إن كان الكاتب يكتب عن الحريق الذي نشب فيه وترك ندوبه التي تحكي فصول التحدي والحياة.

عن روايته الأخيرة وعدد من هموم الثقافة وتطلعاته كان الحوار طويلا جدا دون ملل، ونظرا لمساحة النشر المتوفرة اقتطفنا بعض منه.

كتابك الأخير "هكذا عشت الجحيم" سيرة يمتزج فيها العام مع الخاص، وغالباً ما تكون كتب السيرة مشوقة. ما الذي دفعك لتجسيد ما يعتريك من ألم؟ ألم تراودك الخشية من هذه الكتابة بهذه السردية الخاصة، أم تعتبرها سيرة وجدانية؟

حين شرعت في كتابة "هكذا عشت الجحيم"، لم أكن أبحث عن تشويق روائيّ يُبقي القارئ مستنفراً، إنّما كنت أبحث عن خلاص مأمول من احتراق متجدّد في داخلي، ووجدت في الكتابة الفعل الأقدر صدقاً وتعبيراً عن محنتي التي مرّ عليها ربع قرن ولم تزل حيّة في وجداني كأنّها حدثت بالأمس. اقتادتني حادثة الاحتراق التي تعرّضت لها لأكتبها عساني أتخفّف من تأثيراتها، واقتادتني رائحة الجلد المحترق التي ما تزال تحتلّ ذاكرتي كلما استدعيت تلك اللحظة.

لم تكن ثمة خشية من "الكتابة الخاصة"، لأنني لم أرها كتابة حميمة بقدر ما رأيتها كتابة مهدّدة، كتابة قد تفقدني توازني الداخلي نهائياً، وقد تحفر في جسدي الداخلي ندوباً موازية لتلك التي حملتها على جلدي. والخطر كان هناك، في أنني قد أبدأ ولا أقدر على التوقّف، أن أكتب ولا أحتمل ما سيُقال أو ما قد ينعكس عليّ. ومع ذلك، مضيتُ، لأنني أيقنت أن الصمت عن تلك التجربة هو شكل آخر من الاحتراق.

أنا لا أزعم أنني كتبت "سيرة وجدانية"، لأن الوجدان قد يشتبه أحياناً بالرغبة في التجميل أو التلطيف، بينما ما كتبته كان نقيض التجميل تماماً، لم أكتب كي أثير التعاطف، كتبت كي أستنطق ذلك الجحيم، وأمنحه صوته، كتبت لأن النسيان لم يكن شفاءً، ولأن الصمت كان خيانة لذاكرة تنزف منذ خمسة وعشرين عاماً.

في توقيت إصدار "السيرة" حدث تحوّل في سوريا بعد السنوات الأربعة عشر الماضية، كان الجحيم يحفر عميقاً في أرواح السوريين. أي مقاربة يمكن أن نجدها في تلافيف السيرة رغم خصوصيتها؟ هل تقصّدت ذلك أم تركت القارئ يسرح بخاطره حيث يريد؟

في "هكذا عشت الجحيم"، لم أكن معنياً بتسجيل تواريخ خارجية أو سرد وقائع معلنة، بقدر ما كنت مشغولاً بحفر سرديّ في منطقة لا تصلها الأضواء: الجرح الذي لا يُرى، الندبة التي لا يُصغى لصوتها، والذاكرة التي تكاد تتآكل في العتمة. لذلك، جاءت السيرة كما لو أنّها وثيقة باطنة، لا تكتفي بالزمن، إنّما تنبش ما خبّأه الزمن في الجسد، وتعيد ترتيب الأمكنة بوصفها صدىً للندوب لا كمجرّد مسارح للأحداث.

الاحتراق في الرواية ليس مجازاً، لكنه أيضاً لا يقف عند حدود الواقعة المادية. الحريق يمتدّ، يتنقّل، يتضاعف كلما اصطدم بكلمة، أو نظرة، أو صمت. من هنا، تبدو الكتابة وكأنها رحلة في الجمر، رحلة تشعل مسارات أخرى، تتجاوز الفرد إلى الجماعة، وتتقاطع - من دون قصد مُباشر - مع الجحيم السوريّ الكبير الذي لم ينتهِ، لكنّه راح يتناسخ بأشكال أكثر خفاءً وفتكاً.

لم أتعمد إقحام مقاربات سياسية أو رمزية تشرح ما حصل في البلاد، لكن لم يكن ممكناً أن أكتب عن ناري الشخصية دون أن تتقاطع – ولو همساً – مع نيرانٍ أخرى تحرق أرواح السوريين كل يوم. الزمن العام حشر نفسه في زمني الشخصيّ، والسياق الوطنيّ المأساوي تسرّب إلى سيرتي. لذلك، من الطبيعي أن يشعر القارئ أن الألم الذي يُروى هنا لا يخصني وحدي، وأن الجحيم – وإن بدأ من مدفأة ثكنة عسكرية – يمتدّ ليشمل بلاداً بكاملها أُحرقت وهي تنظر إلى نفسها في المرآة وتكتم شهقتها.

لم أفرض على القارئ زاوية واحدة للقراءة. تركت له حرّية التوغل، حرية التخيّل، حرية المقارنة بين الحريق الذي أصابني كجسد فرديّ، وبين الحريق الذي طال البلاد ككائن جماعيّ. تركت له أن يتورّط، أن يهرب، أن يغضب، أن يتأمل، أن يرى في الألم مادة للنجاة أو مرآة للموت.

برأيك، هل جسّدت الرواية السورية "الجحيم السوري" وما تركه من فواجع في بنية المجتمع، الذي تسكن في كل زاوية منه، وفي داخل كل فرد، رواية مسكونة بالفجيعة والألم؟ أم أن الأدب لا يزال مقصراً في هذه الناحية؟

الرواية السورية كتبت الكثير، نعم، لكنها لم تكتب بما يكفي بعد، لا لأن الكتّاب قَصّروا، لكن لأنّ الجحيم السوريّ نفسه يتوالد، يتناسل، يتبدّل قناعه وأدواته، ويظلّ يطلب روايات إضافية، كما لو أن ذاكرته لا تكتمل، أو أنّ الفجيعة تأبى أن تُروى دفعة واحدة.

بعض الروايات السورية حاولت القبض على لحظة الكارثة، بعضها اكتفى بالتوثيق، بعضها استسلم إلى البلاغة. القليل منها اقترب من جوهر ما حدث: الانفجار الداخلي، المحو، التبدّد، الجنون الصامت. الجحيم الذي لا يُدوّى فقط في الشوارع والخرائط، إنّما في أحشاء من ظلّوا أحياءً، في الذين يمشون وقد أُفرغوا من أصواتهم.

في كتابي "الروائي يقرع طبول الحرب" كتبت أن الرواية يجب أن تنوب عن الحرب لا أن تروّج لها، أن تُصغي إلى ما يُهمس في الخنادق لا إلى ما يُذاع في نشرات الانتصار، وأن تكشف الأثر البطيء للتدمير، لا مجرد صوره السريعة. بهذا المعنى، الرواية السورية ما زالت في طور الاستيعاب، لم تُنجز جردتها الكبرى بعد، لم تقل كفايتها، وقد تكون بحاجة إلى عقود كي تُفلح في إعادة تشكيل وعيها، وهضم ما فُرض عليها من موت طويل الأمد.

من جهة أخرى، لا ينبغي أن نُحمّل الرواية فوق طاقتها. ليست وظيفة الأدب أن يرمّم ما هدمته السياسة أو أن يداوي الخراب الجمعي. دوره أن يمنح الفرد صوته، أن يتيح للذاكرة أن تكون أكثر من بوق، أن يحرّض على الرؤية لا على التبعية. وبهذا المعنى، فالرواية ما تزال واحدة من المساحات القليلة التي لم تبتلعها شعارات المرحلة، ولم تُجبر على توقيع بيانات الولاء.

ماذا أثّرت فيك الهجرة والغربة؟ وكيف صقلت إبداعك وتواجدك في المحفل الغربي كأديب عربي له حضوره المتميّز؟

الغربة ليست تجربة عابرة، ولا إقامة مؤقتة في جغرافيا مغايرة. هي اختبار داخلي طويل، يتطلّب من المرء أن يعيد بناء نفسه دون أدواته الأولى، أن يعثر على صوته بلغات غير مألوفة، أن يثبت أنّ المعنى ليس مرتبطاً بالمكان وحده.

الغربة لم تكن نهاية طريق، كانت عبوراً إلى سؤال آخر، سؤال أكثر جذرية: من أنا في هذا العالم المخلخل؟ ما الذي تبقّى منّي بعد كل ما فُقد؟

الهجرة فتحت عيني على هشاشة الانتماء. كنت أظن أن اللغة كافية لتأمين الجذور، فاكتشفت أن الجذر الحقيقي هو ما نحمله من قلقٍ داخلي، من حساسية متراكمة تجاه العالم. في بريطانيا، لم أُعد النظر فقط في اللغة التي أكتب بها، إنما في دوافع الكتابة نفسها، وفيما تعنيه الهوية حين تُقاس بتجارب العبور والاقتلاع وإعادة التعريف.

صقلتني الغربة لا بتأمين شروط الراحة، ولكن بتعميق التحدّي. كانت الكتابة مساحة المواجهة الوحيدة، واللغة، رغم انفصالها أحياناً، صارت حليفاً وميداناً. لم أتخلَّ عن لغتي، لا لأنني متشبّث بها فقط، لكن لأنها ما تبقّى لي من عالم لا يهتزّ. ومن خلال هذه اللغة، وجدت طريقي إلى المحافل الغربية ككاتب يحمل تاريخه، ويعيد صياغته بوعي نقديّ وذاكرة متوقدة.

لم أُقدَّم في الغرب ككاتب «لاجئ» أو كحالة إنسانية. تجنّبت هذا الفخّ باكراً. ما سعيت إليه أن أُقرأ كروائي وكاتب يمتلك مشروعاً فكرياً وجمالياً، أن أُقرأ وفق النصّ، لا وفق البروفايل السياسي أو الانتماء الجغرافي. لذلك، حين تُرجمت بعض أعمالي، كان الهدف أن تنقل تلك النصوص إحساساً بالتمزّق، بالصراع، بالحنين غير المروّض، لا أن تكون توثيقاً مسطّحاً لحالة لجوء.

كثيراً ما ينتهي الكاتب من شخصياته مع انتهاء روايته ليبحث عن أبطال جدد، ولكنك تعلّقت بـ خاتونة في روايتك "رهائن الخطيئة"، عشتَ معها الألم. كم يتعلّق الكاتب بأبطاله ويعيش آلامهم وأفراحهم؟

الشخصيات الروائية ليست كيانات ورقية نُحرّكها كما نشاء ثم نطويها في درج. أحياناً تنفلت، تستقلّ، ترفض أن تُختصر، وتعيش معنا، تُلاحقنا، تُذكّرنا بما لم نكتبه بعد. خاتونة في "رهائن الخطيئة" لم تكن شخصيةً ثانوية أو عابرة، كانت أقرب إلى مرآة داخليّة، تجسيد لندبة لا تزول، لامرأة تحوّلت في اللاوعي إلى رمز للمقاومة الصامتة، للألم النبيل الذي لا يريد أن يُشفَى كي لا ينسى.

لم أكتبها لأتخلّص منها. كتبتها لأفهم ما تبقّى مني بعدما مرّت عليّ مثل زلزال، لأنّ الكاتب لا يملك رفاهية نسيان شخصياته. حين تكون الشخصية نابعة من تجربة داخلية، حين يُزرع فيها شيء من الذات، لا تغادره حتى بعد أن توارى من الصفحات، تعاوده، تُحدّثه، تُصحّح له ما كتبه، أو تسخر من تهرّبه.

أصدرتَ عدّة كتب نقدية، كيف وازنت بين النقد والإبداع الأدبي؟ ألم تخشَ صوت الناقد وأنت تكتب الرواية، أو العكس؟

لم يكن صوت الناقد عبئاً، ولم يكن في الخلفية كمراقب صارم يفرض وصاياه. كان رفيقاً صعباً، نعم، لكنه لم يكن خصماً. حين أكتب الرواية، لا أستدعي أدوات النقد لأُطبّقها، إنّما أحرص على أن أُسكت ذلك الصوت قليلاً، كي أتيح للدهشة أن تتحرّك بحرية، وللشخصيات أن تتنفس من دون تدخل. أعرف أن الناقد داخلي يقظ، يتحفّز لتحليل الخيارات، لبناء فرضيات، لمساءلة اللغة، لكنني أدرّب نفسي على تأجيل محاكمته إلى ما بعد الانتهاء من الكتابة.

النقد عندي لم يكن نقيضاً للإبداع. في كتابي "لماذا يجب أن تكون روائياً؟" حاولت تفكيك هذه العلاقة التي يراها البعض علاقة ارتياب أو تناقض. ما وجدته أن من يُمارس النقد من موقع فهم الحساسية الفنية، لا من موقع الوصاية، يكون أقدر على إدراك تعقيدات الكتابة، وعلى توسيع أفقها لا تضييقها.

حين أكتب الرواية، لا أُراقب نفسي كناقد، لكني لا أُنكر أنني مشغول دائماً بالسؤال الجمالي، بالسؤال الأخلاقي، بالسؤال الفنيّ. ما يهمني هو ألاّ أُخضع النص لمنهجية خارجية، وألاّ أكتب كما يُفترض، لكن كما تقتضي الحاجة الداخلية. الناقد قد يطلب من النص اتّساقاً، أما الروائي فيسمح له بالتصدّع، بالانحراف، بالالتباس. في لحظة الكتابة، أعطي الأولوية للانفعال الحقيقي، لا للبنية المثالية، أما حين أعود إلى النص لاحقاً، بصفتي ناقداً، أُدرّب نفسي على أن أنظر إليه كما لو أنه ليس لي، أحاول أن أفكّكه لا لتهديمه، لكن لفهم مساراته، عثراته، رهاناته.

الخوف من صوت الناقد قد يُعيق الكاتب إذا كان يُكتب لإرضاء سلطة ثقافية أو لإقناع صدىً خارجي. أما حين يكون الكاتب مدركاً لدوافعه، ولصراعه الداخلي، فإن النقد يصبح أداة تعميق، لا أداة قمع. وهذه العلاقة، وإن بدت محفوفة بالمخاطر، هي ما يمنح الكتابة جديّتها، وشراستها الضرورية.

تُرجمت بعض أعمالك إلى اللغات الأجنبية، وهناك أيضاً أعمال عربية تُرجمت. هل ترى أن محدودية الترجمة، أي عدد المطبوع منها، كافية لتصل للقارئ في الغرب كي يتعرّف على الأدب العربي؟ أم أنها مجرّد طبعة؟

الترجمة لا تكتسب معناها من الفعل التقني وحده، ولا من مجرّد انتقال النص من لغة إلى أخرى، لكن من السياق الذي تُنجز فيه، ومن الهدف الذي تتحرّك نحوه. الترجمة الحقيقية تقاس بمدى اندماج النصّ في ثقافة جديدة، بقدرته على أن يُقرأ كما يُقرأ أي عمل من داخل تلك اللغة. وحين تُترجم رواية عربية إلى الإنكليزية أو الفرنسية أو الألمانية، دون خطة توزيع واضحة، ودون حضور في الصحافة أو المنصات النقدية أو الأوساط الجامعية، فإنها تبقى في كثير من الأحيان محصورة داخل طبعة معزولة، لا تحرّك شيئاً في الفضاء الثقافي الجديد. هناك كتب كثيرة تُترجم ولا تُقرأ، تُطبع ولا تصل، لأن الجسر لم يُبنَ فعلاً، إنّما رُسم على الورق فقط.

التعويل على الترجمة بوصفها باباً للانفتاح يجب أن يكون مصحوباً بوعي حقيقي بالتباين الثقافي، وبالحاجة إلى تجاوز الخطابات التي تريد من الأدب العربي أن يُقدَّم في قوالب متوقعة، تحاكي صوراً نمطية جاهزة. في الغرب، هناك قارئ محتمل حقيقي، قارئ يبحث عن أصوات مختلفة، لكن الوصول إليه لا يتمّ تلقائياً. يحتاج الأمر إلى جهد مؤسساتي، إلى علاقات مهنية، إلى وجود أدوات نقدية تتبنى النصّ لا كوثيقة، إنّما كأدب أصيل.

ترجمتُ بعض أعمالي، وكنت حريصاً على ألّا أُنتج نسخة مؤدّبة من النص الأصلي، نسخة تُساير ذائقة الآخر. ما يهمّني أن يصل النص بما فيه من قلق، ومن خصوصية لغوية ومعرفية. أن يُقرأ بوصفه تجربة أدبية لها فرادتها، لا بوصفه تمثيلاً ثقافياً لمظلومية أو لقضية تُختزل في خط عريض.

كونك صاحب دار نشر في لندن، وهل يقرأ الغرب كما نقرأ له نحن العرب؟

الإجابة تحتاج إلى تفكيك. نحن نقرأ "الغرب" بوصفه مركزاً، بوصفه مرجعية، وقد نحمّله أحياناً أكثر ممّا كتب، ونُفرط في التأويل والتبنّي. في المقابل، الغرب يقرؤنا – في الغالب – كهوامش، بدافع الفضول والاكتشاف، كأصوات استثنائية تظهر في أوقات الأزمات. لذلك، المهمة ليست فقط في الترجمة، إنّما في زحزحة هذا التصور، في جعل الأدب العربي يُقرأ لا لأنه ناتج عن مأساة، بل لأنه يطرح ما يستحقّ التفكير والتدبّر.

لا أنتظر من القارئ الغربي أن يُقابلنا بنفس الشغف، ولا أطالب بتماثلٍ في العلاقة. ما أسعى إليه هو أن نُتاح، أن لا نبقى مَقصيين بسبب تقصيرنا نحن، أو بسبب سوء التقديم، أو غياب المهنية. حين يُقدَّم الكتاب العربي ضمن مشروع ثقافي متكامل، متحرّر من التبعية، قادر على الدفاع عن نفسه داخل المعادلة العالمية، فسيجد قرّاءه، لا بالضجيج، إنّما بما يُحدثه من أثر.

عمل رامينا في هذا الاتجاه ما يزال في بداياته، لكن الخطوات تتسارع، والتجربة تترسّخ. نريد للكتاب العربي أن يدخل الجامعات، المكتبات العامة، المنصات الرقمية، لا عبر التنازل، إنّما عبر الإصرار على أن في هذه اللغة ما يُدهش، وما يُسائل، وما يُزعزع يقينيّات الصورة المقولبة.

هل نعيش اليوم عصر الرواية العربية وهيمنتها على حساب بقية الأجناس الأدبية من قصة ومسرح وشعر؟

ما نعيشه اليوم ليس هيمنة بقدر ما هو تعبير عن حاجة. القارئ العربي وجد في الرواية مجالاً لاختبار الواقع، لفهم نفسه، للانعتاق من أنساق جاهزة. لم يعد الشعر وحده كافياً لتمثيل القلق، ولم يعد المسرح قادراً، في ظل غياب البنية المؤسسية، على أن يواكب ما يحدث من انقلابات داخل الوعي الفردي والجمعي. الرواية، إذن، لم تُقصِ جنساً زدبيّاً آخر، لكنها صعدت لأن الظروف جعلتها الأكثر قابلية للتداول، للتأويل، للتمثيل.

لكن هذا لا يعني أن الساحة الأدبية بخير. صعود الرواية أحياناً أفرز نوعاً من الإنتاج السريع، المُفرغ من الرؤية، المدفوع بالرغبة في الظهور أو الترشّح للجوائز. ثمة وفرة كمية، ونقص نوعيّ، وثمة التباس بين الرواية كفنّ، والرواية كمنتَج ثقافي قابل للتسويق. لذا، لا بد من الانتباه إلى أن الكمّ لا يعني ازدهاراً، وأن بريق الرواية لا يُعفيها من النقد والمساءلة.

القصّة القصيرة، الشعر، المسرح... لم يموتوا، لكنهم يحتاجون إلى مناخات مختلفة، إلى دعم مغاير، إلى قرّاء يُدركون أن الإيجاز لا يعني السطحية، وأن التكثيف لا يُلغي العمق. وما أرجوه ألاّ يتحوّل الحديث عن "عصر الرواية" إلى مقصلة تُقصى عبرها الأجناس الأدبيّة الأخرى، إنّما أن يُفهم على أنه لحظة فنية تستدعي منا أن نُراجع، أن نُفكّر، أن نُعيد ترتيب علاقتنا بالأجناس كلّها من منطلق الثراء والتجدّد.

كروائي كنتَ محكّماً في لجان عدّة للجوائز الأدبية، ولديك اطّلاع على الواقع الأدبي العربي. كيف ترى واقع الرواية العُمانية تحديداً؟ ومن هي الأصوات التي قرأتها ووجدت أنها تستحق الانتشار فعلاً؟

الرواية العُمانية تمضي بثبات نحو تشكيل هويتها السردية الخاصة، بعيداً عن ضجيج الصالونات الثقافية، ومن دون استعجال للنجومية أو افتعال لافتعال القضايا الكبرى. ما لاحظته من خلال قراءاتي وتحكيمي لعدد من الجوائز، أنّ هناك أصواتاً عُمانية تُراكم بهدوء، تُنقّب في البنية الاجتماعية، تُعيد النظر في التاريخ المحليّ، وتُقارب الأسئلة الوجودية بلغة لا تتورّط في الخطابة، ولا تقع في فخّ الإبهار السطحي.

ما تحتاجه الرواية العُمانية هو مزيد من الترجمة، من التقديم النقدي العابر للحدود، من الدفع بها إلى واجهات النقاش العربي والعالمي، لأنّها تملك خصوصيها وفرادتها. وأرى أن حضورها سيتعزّز أكثر حين تتكثّف الجهود المؤسسية والمستقلة للتعريف بها، من دون الاعتماد فقط على الجوائز.

الرواية العُمانية اليوم في صدارة المشهد الروائي العربي، لأنها تراكم مشروعاً سرديّاً عميقاً، متنوّعاً، يشتبك مع الواقع والذات، ويفكّك البنى الثقافية والاجتماعية من الداخل، بلغة تنبض بالصدق، وتجريب لا يستعير أدواته من خارجه. ثمّة أسماء عُمانية باتت تشكّل حضوراً عالمياً، لا عربياً فقط، وقد أثبتت قدرتها على نقل التجربة المحلية إلى فضاء كونيّ، من دون أن تفقد نبرتها الخاصة.

من جوخة الحارثي التي فتحت أفقاً للروائية العربية في الغرب، إلى محمد اليحيائي ويونس الأخزمي وبدرية الشحي وبدرية البدري وزهران القاسمي، نقرأ نصوصاً لا تهادن، تذهب إلى القاع، تحاور التقاليد، وتستجوب الحاضر. أسماء مثل محمد العجمي، محمد الفزاري، نبهان سليم، وبسام علي، وسليمان المعمري، وبشرى خلفان، وغيرهم كثيرون من الأصدقاء الذين يواصلون نشر إبداعاتهم ويحققون حضوراً هنا وهناك، يُساهمون في توسيع الخريطة الروائية دون ضجيج، ويدفعون بالسرد العُماني إلى مستويات غير مسبوقة من التماسك والفرادة.

أنا محظوظ بصداقاتي مع الأدباء العُمانيين. هذه العلاقات هي صلات معرفية وإنسانية تشكّلت عبر الحوار والقراءة والتواصل والتلاقي والتبادل الثقافي. كتبي الإنكليزية صدرت عن دار "عرب" التي يديرها الصديق الشاعر والناشر ناصر البدري، وقد صدرت عن الدار أيضاً روايتي الأحدث "كريستال أفريقيّ"، التي تشكّل امتداداً لمشروعي السرديّ عن الهوية والتشظي والمنفى.

ما يلفتني في المشهد الروائي العُماني هو أن الكثير من التجارب تُكتب خارج سطوة المركز العربي التقليدي، وتنمو من دون أن تُخضع نفسها لمتطلّبات الجوائز أو لذوق المحرّرين في المراكز. ثمّة روايات تُكتب هناك، تستند إلى حساسية سردية مغايرة، إلى لغة فريدة ومدهشة، لكنها دائماً تملك شيئاً تقوله، ووسيلة دقيقة لقول ما لا يُقال. وهذا ما يجعلني متابعاً دائماً لما يصدر في عُمان، لا من باب المجاملة، لكن من باب الانحياز لما يستحقّ.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الروایة الع مانیة فی الغرب ع مانیة الذی ت على أن من دون لم یکن

إقرأ أيضاً:

أحمد ياسر يكتب: مصر.. التاريخ والعنوان

في خضمّ التعليقات الصاخبة المحيطة بالحرب المدمرة في غزة، ترسخت رواية ساخرة ومُستمرة.. رواية تسعى إلى تصوير مصر كطرف سلبي، أو حتى متواطئ، في معاناة الشعب الفلسطيني.

هذه الإدعاءات الخبيثة، التي تنتشر بسرعة التضليل الإعلامي، ليست تشويهًا عميقًا للحقيقة فحسب، بل هي إهانة لأمة تحملت، تاريخيًا وحاضرًا، أثقل أعباء القضية الفلسطينية… إن المراجعة الموضوعية للحقائق ليست ضرورية فحسب، بل تُعدّ أيضًا دحضًا قاطعًا لهذه الحملة من التضليل الإعلامي.

(أولا)يتمحور أكثر هذه الادعاءات خبثًا حول معبر رفح الحدودي، الذي يُصوّر بشكل غير نزيه على أنه دليل على "حصار" مصري، هذه الإدعاء مُفلس فكريًا… فمعبر رفح هو حدود دولية بين دولتين ذات سيادة، (مصر وفلسطين) ، تحكمها اتفاقيات دولية واعتبارات أمنية وطنية عميقة، لا سيما في ظلّ معركة مصر الطويلة والمكلفة مع الإرهاب في سيناء.

فهو ليس نقطة تفتيش داخلية متعددة؛  بالنسبة لغزة، فهي البوابة الوحيدة إلى العالم التي لا تسيطر عليها إسرائيل.. إن مساواة إدارة مصر المنظمة لحدودها السيادية بالحصار العسكري والاقتصادي الشامل الذي تفرضه إسرائيل - الذي يسيطر على المجال الجوي والساحل والمعابر التجارية لغزة - هو تحريف متعمد وخبيث للمسؤولية.

والحقيقة هي أنه منذ بداية هذه الأزمة، لم يكن معبر رفح حاجزًا، بل الشريان الرئيسي للمساعدات المنقذة للحياة، وهو شهادة على الالتزام المصري، وليس رمزًا للعرقلة.

(ثانيا) هذا يقود إلى الزيف الثاني: فكرة أن الدعم الإنساني المصري كان غائبًا… يتلاشى هذا الادعاء أمام الأدلة الدامغة، منذ اليوم الأول، نسقت مصر عملية لوجستية واسعة النطاق ومتواصلة، وقد سهلت الدولة المصرية، بالتنسيق مع الهلال الأحمر المصري وجهات وطنية أخرى، دخول الغالبية العظمى من جميع المساعدات الدولية المقدمة إلى غزة.

نحن لا نتحدث عن لفتات رمزية، بل عن آلاف الشاحنات المحملة بالغذاء والماء والوقود والإمدادات الطبية الأساسية.  نتحدث هنا عن مستشفيات ميدانية مصرية أُقيمت على الحدود، وعن آلاف الجرحى الفلسطينيين والأجانب الذين دخلوا لتلقي العلاج في المستشفيات المصرية.

لقد تكبدت الخزينة المصرية ثمنًا باهظًا جراء هذا الجهد الضخم، وأثقل كاهل بنيتنا التحتية اللوجستية والأمنية إلى أقصى حد، وبينما قدّم آخرون كلماتهم، قدّمت مصر شريان حياة، مُقاسًا بالعدد وبالأرواح التي أُنقذت.

وأخيرًا، يكشف نقد الجهود الدبلوماسية المصرية عن سوء فهم جوهري لواقع الوساطة الإقليمية القاسي. . إن اتهام مصر بالتقصير الدبلوماسي يتجاهل حقيقة أن القاهرة من العواصم القليلة جدًا في العالم التي يُؤتمن على التحدث مع جميع الأطراف.

هذا ليس تواطؤًا؛ بل هو العمل الأساسي والمضني لصنع السلام…تعمل  الأجهزة الأمنية المصرية  والقنوات الدبلوماسية بلا كلل للتوسط في وقف إطلاق النار، والتفاوض على إطلاق سراح الرهائن والسجناء، ومنع اندلاع حرب إقليمية أوسع نطاقًا.

علاوة على ذلك، ترتكز الدبلوماسية المصرية على مبادئ راسخة… لقد كان الرئيس عبد الفتاح السيسي واضحًا لا لبس فيه في التعبير عن خطين أحمرين أساسيين لمصر:

١-  الرفض القاطع لأي تهجير قسري أو طوعي للفلسطينيين من أرضهم.

2- المطالبة الثابتة بحل الدولتين على أساس حدود عام 1967…هذه ليست مواقف سلبية؛ بل هي مبادئ أمنية وطنية راسخة وفعّالة وجهت أفعال مصر، ووضعتها أحيانًا في خلاف مع مخططات جهات فاعلة عالمية أقوى.

سيكون التاريخ هو الحكم النهائي، وسيُظهر سجله أنه بينما انغمس الآخرون في الغضب الاستعراضي والتظاهر السياسي، كانت مصر على الأرض، تُدير الحدود، وتُسلم المساعدات، وتُعالج الجرحى، وتُشارك في دبلوماسية حل النزاعات الجائرة والمرهقة…

و تتلاشى الادعاءات الخبيثة عند مواجهة وطأة أفعال مصر. ونقول للجميع أن التزامنا ليس محل نقاش؛ إنه مسألة مُسجلة تاريخيا..

طباعة شارك غزة التضليل الإعلامي القضية الفلسطينية

مقالات مشابهة

  • بعد زيارة ويتكوف.. هل تدير واشنطن أزمة الجوع أم الرواية في غزة؟
  • «الشارقة الثقافية» ترصد سؤال الهوية في الرواية العربية
  • محللون إسرائيليون: فشلنا بمعركة الرواية وتسونامي قد يجرفنا
  • “إلى أين؟”.. عرض ليبي يُجسّد القلق الوجودي ضمن مهرجان المونودراما العربي في جرش 39 اللجنة الإعلامية لمهرجان جرش بحضور ممثل عن السفارة الليبية في عمان، وجمع غفير من عشاق المسرح، وضمن فعاليات الدورة الثالثة من مهرجان المونودراما المسرحي، قدّمت ا
  • تركيا تلتقط أنفاسها بعد الجحيم.. الطقس ينقلب خلال أيام!
  • د. هاني العدوان يكتب ..
  • القائم بأعمال سفارة جمهورية أذربيجان بدمشق لـ سانا: القمة التي جمعت السيدين الرئيسين أحمد الشرع وإلهام علييف في العاصمة باكو في الـ 12 من تموز الجاري خلال الزيارة الرسمية للرئيس الشرع إلى أذربيجان، أثمرت عن هذا الحدث التاريخي الذي سيسهم في تعزيز التعاون ا
  • أحمد ياسر يكتب: مصر.. التاريخ والعنوان
  • فوز تصميم المناظر الطبيعية لمدينة السلطان هيثم بجائزة دولية