لجريدة عمان:
2025-08-02@15:32:11 GMT

أصل الأنواع.. إنسان أحمد عبد اللطيف!

تاريخ النشر: 1st, August 2025 GMT

أصل الأنواع.. إنسان أحمد عبد اللطيف!

برغم إدراكنا من السطر الأول لرواية الكاتب المصري أحمد عبد اللطيف الأخيرة "أصل الأنواع" أننا إزاء أجواء فانتازية، إلا أننا نعرف موضع أقدامنا جيداً، فالقاهرة هي مسرح روايته الكبير، وهي كذلك منبع الحكاية.

كل شيء يبدأ من اللحظة التي يتقرر فيها هدم الجبَّانات، وإقلاق أرواح الأموات، فيهيمون على وجوههم في الشوارع، يضايقون الأحياء، أو يبحثون عن ملاذ، ولا يكون أمامهم سوى "رام" أحد أبطال الرواية الثلاثة، فهو المهندس المشرف على مشروع تطوير القاهرة القديمة، أو هدم الجبَّانات، رغم أنه حاول التملُّص والهروب من تلك المهمة الثقيلة.

وقد كانوا يأتون إلى بيته فرادى، إلا أن التعجيل بهدم الجبَّانات جعلهم يأتون إليه أفواجاً! لم يكن رام مجرد مهندس عادي، فوجئ ذات يوم بسقوط شعر رأسه، ثم شعر صدره، ثم كل شعرة أخرى في جسده، وإنما المختار ليوم معلوم، يختلط فيه السكان الأحياء بالأسلاف، لا تستطيع تمييزهم إلا من خلال الملابس والأكفان. إنه أيضاً ليس مجرد مشرف على تطوير القاهرة القديمة، وإنما هو كذلك كان زوجاً عاشقاً لامرأة رائعة اسمها نيفين، ماتت فجأة وتركته لهواجسه، وللأموات الذين يقلقون راحته بالليل، فيضطر لترك أنوار البيت مضاءة. ظل رام فترة مطمئناً إلى أن مشروع التطوير لن يمسَّ قبرها، إلا أن زيارة أخيرة إلى الجبَّانات كشفت له الحقيقة المُرَّة، وهي أن الجرافات هدمته، وبددت عظام حبيبته، بدون أن يكترث المسؤولون له وبدون حتى أن ينبهوه، ليأتي وينقل رفاتها إلى أي مكان آخر. صارت نيفين عذابه الأبدي، وصورة المرأة المثال والمرجع، وإن كان ارتبط بعدها بأخريات فلا لشيء إلا ليؤنسوا وحدته وقد صار بيته مرتعاً للأشباح، ولو دققت ستجد في كل امرأة تفصيلة من نيفين، حتى أن مريم تبدو نسخة كاملة منها، إن لم تكن هي بشحهمها ولحمها! بالتوازي مع حكاية رام، نقرأ حكاية يحيى الحافي، كابتن المنتخب الوطني لكرة القدم، الذي زاره مارادونا في الحلم وأورثه موهبته العظيمة، ومن الاسم يمكن تخمين أين جاءته الضربة. نعم في قدميه، فقد اختفت أصابعهما، ولم يعد بالإمكان أن يجري بسرعته القصوى. وكما يفكر رام في جسده بعد أن تحول لجسد صبي أمرد، يحاول الحافي أن يتذكَّر آخر مرة رأى فيها أصابع قدميه فيعجز، أما سيد بتشان الرجل الشعبي البسيط والوسيم فإنه يفقد أصابع يديه، وتحاصره الأسئلة الغريبة، فكيف يمسك بالفاكهة، وكيف يكتب التقارير إلى سيده، وكيف يهش الذباب عن وجهه، وكيف يتناول طعامه، وكيف يسلم على الناس، لكن يحيى الحافي على وجه التحديد ينفرد بين الثلاثة بردِّ فعلٍ إيجابي، فهو لا يقضي بقية حياته يبحث عن الجزء الناقص من جسده، أو يهرول خلف أمل كاذب وأطباء مزيفين ووصفات شعبية مثل سيد بتشان منتظراً أن تنبت أصابعه مرة أخرى، وإنما يفتتح محل أحذية، للناس أصحاب القدم الممسوحة، وينجح المشروع، ويدرك الحافي من الزحام على محله أنه ليس المصاب الوحيد في المدينة، وأن هناك ما يشبه الوباء قد أصاب الناس فيها.

تلك هي الحكايات الإطارية الثلاث التي يدور حولها العمل، وإذا كانت القاهرة هي المسرح الكبير له، فإن حي المنيل هو مسرحه الصغير، حيث يقطن أو يعمل الثلاثة، وحيث تنمو قصص حبهم، وتتشابك، وتجمعهم تقاطعات ضخمة خاصة ما يتعلق بنسائهن، إذ إن فاتن على سبيل المثال (حاوية أسرار رام وشبيهته) هي أخت سيد بتتشان، وناريمان زوجة سيد بتشان حبيبة عابرة لرام.

لا تهتم الرواية بقص الحكاية كاملة، وتكتفي بإطلاعنا على أجزاء من التحولات، لنكتشف أن ما يجري أكبر من ثلاثة أشخاص، والمدينة كلها باتت تعيش حالة من الفوضى الكاملة، سببها أن الناس يعرجون، ويتكدسون في إشارات المرور ويعبرون الشوارع ببطء شديد، وإذا كانت اللعنة أصابت الجميع إلا أنها لم تصب الأسياد، وقد تفنن الكاتب في إظهار قدراتهم الجسدية المهولة، وأصابعهم الطويلة، وعدم تصديقهم لما يحاول أن ينقله إليهم سيد بتشان، وهو أن شيئاً كبيراً يجري في المدينة. قبلوا استقالته ببساطة لأنه بدأ يخرف، أو يهذي، ولم يكلفوا أنفسهم مجرد نظرة إلى يده الصماء، أو إلى صدر ناريمان الممسوح، بعد أن فقدت هي ونساء المدينة كذلك أثداءهن، ليتأكدوا إن كان صادقاً أم يحاول خداعهم.

والسؤال: لماذا أحاق الوباء بالناس العاديين ولم يحق بالمسؤولين، هل اختارهم القدر بسبب خنوعهم؟ هل لأنه اعتبرهم أمواتاً يعيشون حياة رتيبة وبائسة، وأنه لا فارق بينهم وبين أموات المدينة التاريخية؟ صنع الكاتب مشهداً أسطورياً للأموات في أكفانهم، والأحياء في سرحانهم وغفلتهم وذهولهم، يسيرون جنباً إلى جنب في شوارع المدينة، إذا رأيتهم تشعر بأنهم مجرد نماذج للإنسان البدائي في رحلة تطور الأنواع، وقد وصل إلى العصر الحديث، وارتدى ملابس لا تناسب خفة عقله وعدم اكتراثه واستسلامه وضعفه وهوانه، سواء أمام القدر، أو في مواجهة الأسياد. إنهم يسيطرون على حياته، ويحولونه إلى روبوت، في حشود لا معنى لها.

تستعد المدينة لحدث أكبر، هو صلب رام، وندرك جميعاً أنه تحرَّر. تحرَّر من الأموات والهواجس والخوف، كما تحرر سيد بتشان من سيده بالاستقالة، وكذلك تحرر يحيى الحافي من ماضيه، بشراء محل أحذية كان أبوه عاملاً بسيطاً فيه، لكن بماذا يفيد التحرر وقد أصاب الوباء كل سكان المدينة؟! عليك أن تتخيل حكايتك وأنت تعيش بمفردك في مدينة كاملة من الأموات! كتب أحمد عبد اللطيف هذه الرواية بلغة تشبه الطوفان، تنهمر عليك، فلا تملك أن تتوقف، فالتداعي يجرفك من كلمة إلى كلمة، ومن جملة إلى جملة، ومن شلال إلى شلال، ومن منعطف إلى منعطف، لا تجد علامة ترقيم واحدة بطول الرواية يمكنك أن تتشبث بها كفرع شجرة مائل على نهر، وقد بدأ تلك التجربة في مجموعته القصصية السابقة "مملكة مارك زوكربيرج وطيوره الخرافية" ونجح فيها ببراعة، والقارئ لا يحتاج إلا لعدة فقرات ليدرك أبعاد اللعبة، إذ إن أحمد يدفعه في ظهره منذ الكلمة الأولى، والسطر الأول، دفعة خفيفة، ليجد نفسه يجري بلا إرادة منه على جبل منحدر، محاذراً السقوط، وسرعان ما يكتشف أنه في قلب عالم شديد الغرائبية، وإذا أراد أن يكمل رحلته الممتعة فلا مجال لخفض السرعة، أو التأمل.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: إلا أن

إقرأ أيضاً:

أسامة قابيل: لطفي لبيب عُرف عنه الاحترام والرقي والقيم الإنسانية النبيلة

قال الدكتور أسامة قابيل، من علماء الأزهر الشريف، إن الدعاء بالرحمة والسكينة لأي إنسان رحل عن عالمنا؛ هو لغة القلب قبل أن يكون حكمًا فقهيًا، وهو تعبير طبيعي عن الحزن والمواساة، ولا يجوز أن يتحول إلى ميدان للصراع أو المحاكمات الدينية.

وأضاف، في تصريحاته له، أن الفنان لطفي لبيب – وقد عُرف عنه الاحترام، والرقي، وحرصه على قيم إنسانية نبيلة في أعماله وحياته – لا يليق أن يُقابل نبأ وفاته بتجريح أو تضييق أو تشدد، قائلًا: "إذا كان قد عاش بيننا بخلق كريم؛ فلماذا لا نودّعه بخلق كريم؟".

وأوضح أن الترحم في لسان الناس لا يعني بالضرورة إصدار حكم على مصيره في الآخرة، بل هو تعبير وجداني يعكس الحزن، والتقدير، والدعاء بالراحة لأهله ومحبيه، مشددًا على أن الله وحده يعلم ما في القلوب، ويحاسب كل إنسان بعدله ورحمته.

وأشار الدكتور قابيل، إلى أن منهج الإسلام لا يقوم على القسوة، ولا على التربص بأحزان الناس، مضيفًا: "حين نفقد إنسانًا كان بيننا بالأدب والهدوء والصدق، لا يصح أن نضيق على من أحبوه ودعوا له، نحن لا نملك مفاتيح الغيب، ولسنا وكلاء عن الله في الناس".

وتابع: "الناس أحرار في مشاعرهم، والدعاء ليس صك دخول أو خروج، بل هو أمنية صادقة بالسلام، وفي النهاية، الله وحده هو العدل، وهو أرحم الراحمين".

كنت سند ليا في الفن والحياة.. هاني رمزي ينعى لطفي لبيبرحل الإنسان بجدارة .. نهال طايل تنعي لطفي لبيبرانيا محمود ياسين تنعي لطفي لبيب بكلمات مؤثرةيا ألطفنا وأظرفنا وأطيبنا وأجدعنا.. هكذا نعى صلاح عبدالله الراحل لطفي لبيبيا ألذ لطف وأذكى لبيب لك الرحمة.. بيومي فؤاد ينعي لطفي لبيبتفاصيل اللحظات الأخيرة في حياة الفنان لطفي لبيب ورد فعل أسرته طباعة شارك لطفي لبيب أسامة قابيل علماء الازهر

مقالات مشابهة

  • رصد 157 طائراً معشّشاً في إيليزي
  • الإيجابية السامة وفن التخلي
  • الهلال الأحمر المصري يستعد لإرسال خبز جاهز إلى غزة
  • الله يرحمني .. سيمون تسخر من تصريحات ليلى عبد اللطيف
  • إنسان” تختتم مشاركة 20 موهوبًا من أبنائها في برنامج “تحدي البقاء”
  • البيت الأبيض: ترامب إنسان ذو قلب كبير يحاول إنهاء أزمة غزة
  • تفاصيل مثيرة للجدل.. ليلى عبد اللطيف تفجر مفاجأة عن أزمة وفاء عامر
  • النمر: لا دواء يوقف الشيخوخة وNAD+ مجرد وهم تجاري
  • أسامة قابيل: لطفي لبيب عُرف عنه الاحترام والرقي والقيم الإنسانية النبيلة