الباب المقفول
فيصل محمد صالح
أظنني لفترة طويلة كنت من المؤمنين بضرورة الحوار مع التيار القابل للحوار داخل «الحركة الإسلامية»، ليس لإقناعهم بما نؤمن به، مع آخرين، لكن للوصول لتصور مشترك لإدارة الخلافات داخل إطار التحول الديمقراطي، ومع ذلك كنت مقتنعاً بما تم اتخاذه من إجراءات ضد «المؤتمر الوطني» و«الحركة الإسلامية» خلال الفترة الانتقالية، ولم أكن أرى تناقضاً في ذلك.
ببساطة شديدة كان المبرر الأساسي هو تجريد «الحركة الإسلامية» من السلاح، فالثابت عندي أنها تنظيم سياسي مسلح بكتائبها وبأعوانها داخل الأجهزة النظامية، ثم تجريدها أيضاً من أموال الدولة التي اغتنت بها طوال ثلاثين عاماً حين كان جيبها هو جيب الدولة، وتنظيف جهاز الدولة من أصحاب الولاء الآيديولوجي، حتى تعود تنظيماً سياسياً عادياً مثل غيرها. لهذا بدا منطقياً عدم إشراك «المؤتمر الوطني» و«الحركة الإسلامية» في الفترة الانتقالية، مثلما حدث في العراق بعد سقوط صدام، وما يحدث في سوريا الآن. فليس من المعقول أن تثور الجماهير ضد نظام رفض تقديم أي تنازلات للحركة الجماهيرية ومارس ضدها أقسى صنوف القمع، وتسقطه، ثم تشركه في المرحلة الانتقالية ولم تجف دماء شهداء الثورة بعدُ. لكن كان معلوماً أيضاً أن التيار الإسلامي لن يختفي أو يتبخر، سيظل موجوداً في الساحة بتعبيرات مختلفة، والمتوقع أن يقوم بمراجعاته ويكون جزءاً من التنافس الديمقراطي بعد نهاية المرحلة الديمقراطية. لكن من الواضح أن ذلك لم يحدث، حتى الآن، على الأقل.
حكم «المؤتمر الوطني» – «الحركة الإسلامية» البلاد لمدة 30 عاماً، حكماً شمولياً قاهراً، لم تقبل أطراف الحركة نفسها أن يتم تقاسم السلطة بين قياداتها، فانقلب البشير ضد الترابي وأودعه السجن أكثر من مرة، وتعرض أنصار الترابي الذين وقفوا معه للاعتقال والتعذيب والتصفية. يمكنك أن تتخيل إذن كيف كان النظام يعامل المعارضين له. يمكن فقط اختصار الصورة بأن النظام بدأ تاريخ التعذيب بالقتل والتعذيب والتشريد.
انفردت الحركة بالسلطة تماماً، وفصلت عشرات الآلاف من عملهم، بمن فيهم ضباط من الجيش والشرطة وجهاز الأمن، وأطباء ومهندسون وأساتذة جامعات، وقضاة ووكلاء نيابة، وعمال صغار في مصالح حكومية مختلفة، وعينت مكانهم كوادر الحركة حتى سيطرت على مفاصل الدولة، بما فيها الخدمة المدنية.
أما المؤسسات والمشاريع الكبرى التي ورثها النظام فقد نزل فيها التخريب والتدمير والخصخصة والبيع بلا أي ضوابط. إلى جانب هذا شهدت البلاد فساداً لم يحدث في تاريخ السودان؛ فقد كان مال الدولة هو مال «الحركة الإسلامية» وقياداتها، فابتنوا القصور داخل السودان وخارجه، وتحول كبار «المجاهدين» لرأسمالية جديدة متخفية.
كان طبيعياً أن تتراكم الحركات والانتفاضات ضد النظام رغم سياسات القمع والترهيب، حتى أسقطته ثورة شعبية وأطاحت بقياداته في أبريل (نيسان) 2019. فهل نهض رجال من «الحركة الإسلامية» ليراجعوا التجربة ويقروا بأخطائها، ويعلنوا العزم على القبول بالإرادة الشعبية، وليعيدوا تأسيس أنفسهم على قيم جديدة ورؤى حديثة يعملون بها بعد نهاية الفترة الانتقالية؟
الإجابة بالطبع هي النفي؛ فقد تكبروا واستكبروا وقالوا، كالعادة، إن الثورة الشعبية هي مؤامرة صهيونية أميركية شيوعية إمبريالية، وإنهم عائدون لحكم البلاد إلى ما شاء الله.
حتى الذين تخلوا عن النظام في سنوات سابقة من رموز ومفكري «الحركة الإسلامية» وكانت لهم كتابات ناقدة معروفة، لم يساهموا في عملية المراجعة بعد سقوط النظام ولم يدعوا لها، بل تراجع بعضهم عن أفكاره وعاد لحظيرة الحركة، وكأنهم كانوا ينتقدونه مع رغبتهم في إصلاحه وبقائه بشكلٍ ما، وعزّ عليهم أن يسقط، فلم يستطيعوا أن يتواءموا مع فكرة غيابه ومحاولة صناعة البديل.
مع قيام الحرب ازدادت الأوضاع تعقيداً، وعادت كوادر الحركة لحمل السلاح، والإعلان في كل فرصة أن عدوهم الحقيقي هم من قاموا وساهموا في الثورة ضد النظام السابق، وبالتالي فإن آليتهم للحوار هي البندقية، مما يعني دفع الطرف الآخر لكي يفكر أيضاً في اقتلاع «الحركة الإسلامية» بطريقةٍ ما، ولن يكون شعارهم: «سلمية… سلمية»، مثلما كان الحال خلال الثورة الشعبية.
خلاصة الأمر أن باب الحوار مقفول، وآلياته غير موجودة، ومستقبل البلاد غير معروف، و«الحركة الإسلامية» القديمة لا تظن فقط أنها ستعود كما هي، بل هي تتعامل باعتبارها قد عادت وصارت الآمر والناهي، إلا إذا اصطدمت بحلفائها الآخرين، وعنده ستكون كل الاحتمالات مفتوحة.
* نقلاً عن صحيفة الشرق الأوسط
الوسومالثورة الجيش الحرب الحركة الإسلامية السودان الشرطة الشرق الأوسط الفترة الانتقالية المؤتمر الوطني جهاز الأمن فيصل محمد صالحالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: الثورة الجيش الحرب الحركة الإسلامية السودان الشرطة الشرق الأوسط الفترة الانتقالية المؤتمر الوطني جهاز الأمن فيصل محمد صالح الفترة الانتقالیة الحرکة الإسلامیة المؤتمر الوطنی
إقرأ أيضاً:
باحثون يمنيون يطرحون خارطة طريق سياسية لبناء الدولة المدنية واستعادة القرار الوطني ويؤكدون بأنه لا خلاص لليمن إلا بالعلم وإنهاء العسكرة.. عاجل
اختتمت في مدينة إسطنبول التركية، اليوم الأحد، فعاليات المؤتمر الأول للباحثين والخبراء اليمنيين الذي انعقد خلال الفترة من 11 إلى 12 أكتوبر 2025، تحت شعار "لا إمام سوى العلم"، بتنظيم من مؤسسة توكل كرمان، وبمشاركة نخبة من الأكاديميين والباحثين اليمنيين من داخل البلاد وخارجها، يمثلون أكثر من خمسة عشر بلداً حول العالم.
المؤتمر، الذي يُعد أول ملتقى علمي من نوعه يجمع العقول اليمنية في الخارج والداخل، ناقش أكثر من أربعين بحثاً ودراسة أكاديمية تناولت مختلف جوانب المسألة اليمنية، من التعليم والصحة إلى الاقتصاد والطاقة والهوية الوطنية والسياسة، وقدم رؤى علمية وعملية يمكن أن تسهم في صياغة حلول واقعية لأزمات البلاد. ومن المقرر أن تُنشر هذه الأوراق في كتاب علمي شامل يوثّق أعمال المؤتمر وتوصياته النهائية.
وأكد البيان الختامي أن اليمن يعيش منذ أكثر من عقد في “مرحلة تيه وفقدان للبوصلة”، وأن السياسة بمفردها لم تعد قادرة على اجتراح الحلول، داعياً إلى إشراك النخب العلمية في النقاش الوطني وصناعة القرار، باعتبار ذلك ضرورة وطنية لإنقاذ الدولة والمجتمع.
في الجانب السياسي
شدّد المؤتمر على أهمية التمسك بالثوابت الوطنية المتمثلة في النظام الجمهوري، والوحدة، والديمقراطية وفي مقدمتها حرية التعبير والفكر والبحث العلمي والتداول السلمي للسلطة من خلال الاقتراع الحر المباشر، ويشدد على أهمية نزاهة الحكم، واستقلال القرار الوطني.
كما أكد المؤتمر أيضا على ضرورة وجود قيادة وطنية موحدة ذات رؤية جامعة تتبنى عقدًا اجتماعيًا جديدًا يقوم على أسس المواطنة والكفاءة، ويضمن المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية، ويجرّم خطاب الكراهية والإقصاء، ويعيد بناء الحركة الوطنية كمرجعية جامعة للمجتمع.
وطالب البيان على ضرورة إنهاء مظاهر العسكرة وبناء الدولة المدنية من خلال نزع سلاح الجماعات المسلحة، وإعادة تأهيل ودمج المقاتلين في مؤسسات الدولة، بما يعزز سيادة القانون ووحدة القرار الوطني، واعتماد ميثاق شرف سياسي يجرم كل أشكال الكراهية ودعاوى التفوق العنصري.
وفي التعليم الأكاديميشدد مؤتمر الباحثين والخبراء على تأسيس رؤية وطنية شاملة لإصلاح حقلي التعليم الجامعي والبحث العلمي ومواءمة التخصصات مع متطلبات التنمية المستقبلية (كالذكاء الاصطناعي، الطاقة المتجددة، والأمن السيبراني) وربطها بسوق العمل.
وشددوا على حماية السلسلة الأكاديمية كلها من الطالب الجامعي إلى المنهج التعليمي فالأستاذ. في سبيل ذلك لا بد من حياد التعليم إيديولوجياً، والعناية بالأستاذ الجامعي بوصفه عنصراً جوهرياً في الأمن الوطني، وحارساً للمستقبل.
كما طالبو ايضا بتوفير بيئة تعليمية عادلة ومحفزة تعزز الهوية الوطنية وتضمن عدالة الوصول للتعليم، والاستفادة من خبرات وكوادر المهجر في تطوير التعليم العالي والبحث العلمي.
وحول البنية التحتية الطبيةفي اليمن شدد الببان الختامي للمؤتمر على توسيع نطاق الخدمات الصحية لتصل إلى الريف وتفعيل نظام التأمين الصحي الشامل من خلال إعادة هيكلة التمويل الصحي وتعزيز الشراكات مع القطاع الخاص والمجتمع والجهات الدولية لضمان الاستدامة.
كما نوه البيان أن الحروب والصراعات تترك من خلفها مجتمعات سقيمة، وأن الأثر النفسي للحروب قد يبلغ جيلين وثلاثة في المستقبل، وهو أمر يستدعي وضع استراتيجية وطنية كفؤة وذكية قادرة على إدراك الأزمة واحتوائها مع الأيام.
وطالب المؤتمر بإنشاء نظام وطني متكامل للصحة النفسية والبدنية من خلال تطوير البنية التحتية، دمج الخدمات في الرعاية الأولية، وتحديث منظومة إدارة الدواء لضمان الجودة والسلامة.
وكذلك تفعيل أدوات الذكاء الاصطناعي والرقمنة الطبية لرفع كفاءة الخدمات الصحية، مع فرض رقابة صارمة على القطاع الطبي (عام وخاص) لضمان الجودة والشفافية.
وحول الطاقة والغذاء:
طالب المؤتمر بإقرار سياسة وطنية شاملة للطاقة ترتكز على مراجعة اتفاقيات الغاز والنفط، وإعطاء الأولوية لتلبية احتياجات المواطنين من الكهرباء والغاز، مع التوسع في مشاريع الطاقة المتجددة (شمسية، رياح) وتهيئة البيئة التشريعية والتمويلية، وبناء القدرات الوطنية لإدارة القطاع بكفاءة واستدامة.
وشدد على تعزيز الأمن الغذائي كأولوية وطنية، وتوسيع تقنيات الزراعة المائية المنزلية، وتمكين المجتمعات الريفية من إدارة مواردها، ودعم قطاع العسل اليمني كجزء من برامج التنمية الريفية، بما يجعل الطاقة والغذاء ركيزتين أساسيتين للتعافي وإعادة الإعمار وتعزيز الأمن القومي.
كما أكد البيان على تطوير سياسة وطنية شاملة لحماية البيئة، تتضمن إدارة مستدامة للمخلفات، وتقليل التلوث، وتشجيع إعادة التدوير وممارسات صديقة للبيئة في المؤسسات والمجتمع، وتعزيز الابتكارات البيئية المجتمعية.
وحول الهوية الوطنية وتحولاتها:
طالب المؤتمر بإطلاق مشروع وطني للهوية الجامعة يستند إلى التوافق المجتمعي على العناصر المشتركة، ويستفيد من تجارب الدول في ترسيخ هويتها الوطنية عبر التعليم والإعلام والسياسات الشاملة، بما يعزز قيم العدالة والانتماء ويحصّن المجتمع من الانقسامات المختلفة.
وشدد على توظيف الأدوات الثقافية والفكرية كقوة ناعمة – مثل الأغنية الوطنية، الاجتهاد الديني المستنير، والمنتج الثقافي والإبداعي – لتعزيز الوحدة الوطنية، ومواجهة التطرف بخطاب عقلاني جامع، وإبراز الهوية اليمنية إيجابيًا في الداخل والخارج.
وحول التكنولوجيا:
طالب بيان مؤتمر الباحثين والخبراء بتوظيف التكنولوجيا والاستفادة من الذكاء الصناعي في التعليم، والصحة ، والزراعة، والإدارة، والبنية التحتية، والطاقة، والحوكمة الرقمية، بما يجعل من الابتكار والمعرفة حجر الزاوية في عملية التنمية والتقدّم.
وفي ختام البيان دعا المؤتمر الدول الصديقة والشقيقة إلى إقامة علاقات قائمة على الشراكة لا التبعية، والتعاون في بناء مستقبل تنموي شامل يعيد لليمن مكانته بين الأمم , وعلى التعاون القائم على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة. إننا نؤمن بأن الاستعانة بالأصدقاء والأشقاء يجب أن تُوجَّه نحو بناء مستقبلٍ يضع التنمية الشاملة في قلب رؤية استعادة الدولة وبناءها، باعتبارها الطريق الحقيقي نحو نهضة اليمن وتقدّمه وترسيخ مكانته بين الأمم.
كما تعهد المؤتمر بالتزامه بمواصلة العمل من أجل توسيع بقعة الضوء هذه، وإشراك المزيد من الفئات الأكاديمية والعلمية، وتغطية حقول أخرى كالآداب، البيئة، الحوكمة، العلوم الإنسانية وغيرها. وسنعمل معاً من أجل نقاش عام تقوده العلوم والمعارف، ونتجاوز الحدود التقنية للعلم إلى رؤية المسألة اليمنية في صورتها الشاملة.