لجريدة عمان:
2025-06-13@04:36:25 GMT

السّـرديـات في مـيـزان التّـاريخ والعــقـل

تاريخ النشر: 11th, June 2025 GMT

إذا كانـت السرديـات التـاريخيـة منـظـومات مـن القـول حاملـة لمحـتـوى يـعـرض نفـسـه بوصـفـه مطابـقـا للحقـيقـة وصادقـا؛ وإذا كـان مـقصـدهـا إلى إقـنـاع مـن يـتـوجـه إليـهـم خـطابـهـا بـوجاهـة ما تحـملـه إليـهم وقـفـا على تـماسـك معطياتـهـا وعلى بـدوها مـؤكـدة ومـوثـوقـة السـنـد؛ وإذا كان استـقـبـالها من المتـلـقـيـن يـجـري عـفـوا مـن غـيـر حـوط وحـرز وتـقـليـب للنـظـر فيـها وإمـعـان، فإن مقـدرتها على الاستيـلاء على الوعـي تـكون، في هـذه الأحـوال والشـروط، أوفـر إمكانـا وتحقـقا والطـريق إلى بغـيـتـهـا يصـير سالكا من غير وعورة مما لو تـغيـر نمط الاستقبـال، مـثـلا، أو تهيـأت له أسباب أخرى وشروط مختلفة.

كلما وهـنت اشتغالـيـة منظومة اليقـظـة الذهـنـيـة أمام ما ينهـمر على سطح الوعي من أفكار ومعارف وأخبار، انـفسـح أعـرض المساحـات أمام استباحـة السرديـات الوعي إيـاه وأمام يسـر دخول مـزعمتها وأغاليطـها في عـداد ما يتـلـقـاه بوصفـه حقائق أو معطيـات خارجة عن نطـاق الاشتـبـاه.

حين يصيـر المزعوم والمختـلق حقيـقـيا، واللاتاريـخ تاريخـا، والمتـخيـل واقعا، والمكذوب مصدوقا... يكون ذلك علامة مؤكـدة على انهيار دفاعات العقـل في وجه ما قـد يـدهمـه من أباطيـل، وحينها تكـف المعرفة عن أن تكون تبـيـنـا دقيقا للمائـز بين الواقع والوهـم في الأشياء والمقولات، فيختـلط معناها بمعنى الاستـبـداه: أي تـلقـي الأشياء والكلمات بما هي معطيات بديـهيـة عارية عن الحاجة إلى التـبـيـن والافـتحاص النـقـدي، أو حتى متعالية عن الشـك والسؤال في أضعـف الأحـوال! والحق أن الأغلـب الأعم من السرديـات التـاريخيـة هكذا يـتـلقى من قـرائها: هنا في إطار الثـقـافة العربيـة، وهناك في غيرها من ثـقافـات العالـم، مع مـقـدار مـا من التـفاوت بين الثقافات في درجات الممانـعـة الفـكريـة لتزييـف الوعـي. وليست المشكلة، بهذا المعنى، في أن السرديـات مادة ثـقافـيـة مزدحمة بالأوهام والأكاذيب والمبالغات، التي قـد تبلـغ حـدودا خـرافـيـة أحيانا، إنـما المشكلـة في أن الوعي المتلـقـي لها مجـرد من الأدوات الحمـائيـة العـقـليـة على نحـو تـتزايـد معه القابليـة عنده للابـتـداه والتصديق لكل ما يتـلقـاه من معطيات محمولة إليه. هذا ما يـفـسـر لماذا تـفصح السرديـات تلك عن القدرة السحريـة على التلاعب بالوعي والفهم واصطناع «الحقائـق» وتحويل ما هـو في حكـم المختـلـقات إلى يـقـينـيـات في أذهـان النـاس!

ينبغي، إذن، أن تـوضـع سلطـة السرديـات التـاريخيـة على الوعـي واستيـلاؤها الطاغـي عليه موضع مراجعـة وافتـحـاص نـقـديـيـن قصد تحـريره من سطـوتـها الضاربة، ومحو آثارها السلـبيـة في التـفكـير والمعرفـة بحسبانها مـن أظهر العـوائـق المعرفـيـة في كـل فـكـر، وتحديـدا في الفكـر العربي. وغـني عـن البيـان، في هـذا المعرض، أن تـفكـيك تلك السرديـات وبيان مجافاتها للواقع والحقـيقـة التـاريخيـة هـو التعبيـر الأكثر جـلاء عن المراجعـة المنشـودة؛ وهـو تـفـكيـك ينبغي إقامة أركان عـمليـته على مبـدأين ومعـياريـن مرجـعيـيـن: التاريخ والعـقـل؛ المبدآن اللذان بهما يكـتسب معناه الكامل بما هـو تـفكيـك تاريخي وعـقلاني.

ما من معيار أدق لمعايـرة وزن الصـحـة والبطلان في أي سرديـة مـن معيـار التاريخ. معـدن التاريخ المزيـف: الوهمي والمتخيـل والأسطوري، ينكـشف في رائـز التاريخ الحقـيقي العاري عن الأخـلاط والزوائـد. ليس هذا معيارا نفـسيـا للتـفرقـة بين الغـث والسـميـن في سرديـات تـتعـلق بشؤون غير تاريخيـة، فـقط، كمـثـل تلك التي تدور على مسائل الاجتماع السياسي والثـقافـي والديـني، بـل هو معيار يليق إعمالـه حتى في حالة السرديـات التـاريخيـة أيضا، أي التي مدارها على أخبار وعلى سلاسـل الأسانيـد التي تحـمـل عليها تلك الأخبار.

في مثـل هذه الحال، يصير التاريخ هـو عينـه الذي يصحح التاريخ ويكشـف ما ليس بتاريخ في ما يرويه؛ يصير الفـيصل بين التاريخي واللاتاريخي في السرديـات التـاريخيـة. بعبارة أخرى، للنـقـد التاريخي للمصادر التـاريخيـة الأثـر الفعـال في الإبانـة عن أصول فساد الرواية التـاريخيـة وجنوحها لركوب الميثي والمتخيـل والافتراضي، كما في الإبانـة عن أسباب تقـع في باب السياسة والتمـذهب والمنافع وتضع الرواية التـاريخيـة على نحـو لا تقول فيه واقـعـا تاريـخيـا، بـل تـتلاعب بوقـائعه تبعا لما تمليه على صاحبها اعتبارات المصالح. ولقد بات هذا النـقـد التـاريخي مألوفا حتى في مجال دراسات الكتاب المقـدس (العهد القديم والعهـد الجديد)؛ حيث يسلط الضوء على تاريخيـة النـص الدينـي ومراحل تشكـله جنبا إلى جنب مع النـقـد النـصـي الداخلي الذي يدور على لغة ذلك النـص وبنى التـعبيـر والخطاب فيه وعلى تاريخ اللـفظ المستخـدم ناهيك بمصادر النـص... إلخ. باختصار، لا يكـون تـفكـيك للسرديـات إلا متى وقع فحصها، فحصا دقيقا، من منظور التاريخ وقـوانينه وأحكامـه.

قد يـعـز وجـود المعـيار التاريخي المناسب لزنـة ثـقـل الصـحة والبطلان في السـرديـات، ويحصل ذلك - في الأغـلب - حين تـفـتـقـر السرديـة إلى أي قرينة فيها على تاريخ تـقـديري ما يـبـنى عليه افـتراض عـلمي.

يمكن في هذه الحال أن يـلـجأ إلى طـرائـق أخرى في القياس ليست بعيدة من التاريخ، تـماما، من قـبيـل تقـدير زمـن اللغـة التي صيغت بها، مثـلا، وبيـان تاريخـها الموضوعي من طريقها، غير أن أفعل معيار يمكن إعمالـه، في هذه الحال، هو معيـار العـقـل. للعقـل قـوانيـنه، مثـله في ذلك مثـل الطبيعـة والتاريخ؛ فكما ليس من شـذوذ في الطبيعـة والتاريخ عن السـنـن التي يجريان بها مجرى الانتظـام، كذلك لا شذوذ في العقـل عن نظامه الصارم.

ما يخـرج عن نظام الطبيعة والتاريخ خارق لذلك النظام (ومنه المعجزات التي تـنتهـك ذلك النظام وتوقـف عمله). لذلك لا يـقـبل العقـل تلك الخوارق ولا يعتبرها في حسـاب الممكنـات فـتراه، بالتـالي، ينـتـقد كـل قـول بها. هكذا يسع النـقـد أن يضع السرديـات المفحوصـة في ميزان العـقـل وقـوانينـه لتـبـيـن ما إذا كانت معطياتها مقـبولـة في العـقـل (أي معقـولة)، أم هي مرذولة فـيه - على قـول أبي الريحان البيروني في تحقيـقه لـما للهـنـد من مقـولة - بحيث لا يؤخذ بها. وغني عن البيان أن معيار العقـل هذا بالغ الفعاليـة في باب نقـد ما يكـتـنـف السـرديـات من خوارق وخرافات ومبالغات يـنـوء بحملها الواقع والعقـل على السـواء، وتـفسـد بها قيمـة السـرديـات في ميـزان الفـكـر والمعرفـة.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

رونالدو يحطم كل الأرقام القياسية ويواصل كتابة التاريخ في عمر الـ40

خاص

واصل النجم البرتغالي كريستيانو رونالدو مهاجم نادي النصر ، تعزيز مكانته كأحد أعظم لاعبي كرة القدم في التاريخ، بعدما أحرز هدف التعادل لمنتخب بلاده أمام نظيره في نهائي دوري الأمم الأوروبية، مؤكدًا من جديد قدرته على التأثير في المباريات الحاسمة رغم تقدمه في العمر.

الهدف الأخير الذي سجله في الدقيقة 61 من عمر اللقاء، أضاف إلى سلسلة طويلة من الإنجازات الفردية التي جعلته يتربع على عرش الأرقام القياسية، سواء على صعيد المنتخبات أو الأندية.

إنجازات دولية غير مسبوقة

رونالدو رفع رصيده إلى 138 هدفًا في 221 مباراة دولية، ليُعزز رقمه كأكثر لاعب تسجيلاً للأهداف في تاريخ المنتخبات، متفوقًا على ليونيل ميسي. كما أصبح أكثر لاعب تحقيقًا للانتصارات الدولية (134 فوزًا)، وشارك مع البرتغال في 6 نسخ متتالية من بطولة أمم أوروبا (2004–2024)، وهو رقم غير مسبوق.

ويُعد الهداف التاريخي لبطولة “يورو” بـ14 هدفًا، كما أنه الوحيد الذي سجل في جميع نسخ كأس العالم الخمس التي شارك فيها.

أرقام مذهلة على مستوى الأندية

على صعيد الأندية، وصل رونالدو إلى 800 هدف رسمي، توزعت بين:

ريال مدريد: 450 هدفًا

مانشستر يونايتد: 145 هدفًا

يوفنتوس: 101 هدف

النصر السعودي: 99 هدفًا

سبورتينغ لشبونة: 5 أهداف

وبات الهداف الوحيد في أربعة دوريات كبرى:

الدوري الإنجليزي (31 هدفًا في موسم 2007/08)

الدوري الإسباني (40 هدفًا في 2010/11)

الدوري الإيطالي (29 هدفًا في 2020/21)

الدوري السعودي (35 هدفًا في 2023/24 و25 هدفًا حتى الآن في 2024/25)

كما يُعد الهداف التاريخي لدوري أبطال أوروبا بـ140 هدفًا، وصاحب الأرقام القياسية في عدد المباريات (183)، والتمريرات الحاسمة (41)، وعدد الأهداف في النهائيات (4).

ويُعد أول لاعب يسجل 50 هدفًا على الأقل في كل من البريميرليغ، الليغا، والسيري آ، ونجح في التسجيل في جميع ملاعب الدوري الإيطالي الـ18 خلال مشواره مع يوفنتوس.

في عمر الـ40، لا تزال ماكينة الأهداف البرتغالية تدور بكفاءة عالية، ما يؤكد أن رونالدو لم يكتب الفصل الأخير من مسيرته المذهلة بعد، بل ما زال يضيف سطورًا ذهبية في كتاب التاريخ الكروي العالمي.

مقالات مشابهة

  • «متنزه مليحة».. نافذة على التاريخ
  • لقب الأكثر ربحاً في التاريخ ينتظر مونديال 2026
  • أغنى حطام في التاريخ.. كنز أسطوري يظهر بعد 300 عام من الغرق
  • ملك التاريخ للمستقبل
  • قراءة التاريخ وعلاقته بالواقع.. رفاهية أم ضرورة؟
  • تدمر السورية.. ندبات على جبين التاريخ
  • هل «يُعيد التاريخ نفسه» مع الابتكارات التكنولوجية ؟
  • فلسفة نشوء الدول عبر التاريخ.. بحوث أكاديمية للدكتور عزمي بشارة
  • رونالدو يحطم كل الأرقام القياسية ويواصل كتابة التاريخ في عمر الـ40