السّـرديـات في مـيـزان التّـاريخ والعــقـل
تاريخ النشر: 11th, June 2025 GMT
إذا كانـت السرديـات التـاريخيـة منـظـومات مـن القـول حاملـة لمحـتـوى يـعـرض نفـسـه بوصـفـه مطابـقـا للحقـيقـة وصادقـا؛ وإذا كـان مـقصـدهـا إلى إقـنـاع مـن يـتـوجـه إليـهـم خـطابـهـا بـوجاهـة ما تحـملـه إليـهم وقـفـا على تـماسـك معطياتـهـا وعلى بـدوها مـؤكـدة ومـوثـوقـة السـنـد؛ وإذا كان استـقـبـالها من المتـلـقـيـن يـجـري عـفـوا مـن غـيـر حـوط وحـرز وتـقـليـب للنـظـر فيـها وإمـعـان، فإن مقـدرتها على الاستيـلاء على الوعـي تـكون، في هـذه الأحـوال والشـروط، أوفـر إمكانـا وتحقـقا والطـريق إلى بغـيـتـهـا يصـير سالكا من غير وعورة مما لو تـغيـر نمط الاستقبـال، مـثـلا، أو تهيـأت له أسباب أخرى وشروط مختلفة.
حين يصيـر المزعوم والمختـلق حقيـقـيا، واللاتاريـخ تاريخـا، والمتـخيـل واقعا، والمكذوب مصدوقا... يكون ذلك علامة مؤكـدة على انهيار دفاعات العقـل في وجه ما قـد يـدهمـه من أباطيـل، وحينها تكـف المعرفة عن أن تكون تبـيـنـا دقيقا للمائـز بين الواقع والوهـم في الأشياء والمقولات، فيختـلط معناها بمعنى الاستـبـداه: أي تـلقـي الأشياء والكلمات بما هي معطيات بديـهيـة عارية عن الحاجة إلى التـبـيـن والافـتحاص النـقـدي، أو حتى متعالية عن الشـك والسؤال في أضعـف الأحـوال! والحق أن الأغلـب الأعم من السرديـات التـاريخيـة هكذا يـتـلقى من قـرائها: هنا في إطار الثـقـافة العربيـة، وهناك في غيرها من ثـقافـات العالـم، مع مـقـدار مـا من التـفاوت بين الثقافات في درجات الممانـعـة الفـكريـة لتزييـف الوعـي. وليست المشكلة، بهذا المعنى، في أن السرديـات مادة ثـقافـيـة مزدحمة بالأوهام والأكاذيب والمبالغات، التي قـد تبلـغ حـدودا خـرافـيـة أحيانا، إنـما المشكلـة في أن الوعي المتلـقـي لها مجـرد من الأدوات الحمـائيـة العـقـليـة على نحـو تـتزايـد معه القابليـة عنده للابـتـداه والتصديق لكل ما يتـلقـاه من معطيات محمولة إليه. هذا ما يـفـسـر لماذا تـفصح السرديـات تلك عن القدرة السحريـة على التلاعب بالوعي والفهم واصطناع «الحقائـق» وتحويل ما هـو في حكـم المختـلـقات إلى يـقـينـيـات في أذهـان النـاس!
ينبغي، إذن، أن تـوضـع سلطـة السرديـات التـاريخيـة على الوعـي واستيـلاؤها الطاغـي عليه موضع مراجعـة وافتـحـاص نـقـديـيـن قصد تحـريره من سطـوتـها الضاربة، ومحو آثارها السلـبيـة في التـفكـير والمعرفـة بحسبانها مـن أظهر العـوائـق المعرفـيـة في كـل فـكـر، وتحديـدا في الفكـر العربي. وغـني عـن البيـان، في هـذا المعرض، أن تـفكـيك تلك السرديـات وبيان مجافاتها للواقع والحقـيقـة التـاريخيـة هـو التعبيـر الأكثر جـلاء عن المراجعـة المنشـودة؛ وهـو تـفـكيـك ينبغي إقامة أركان عـمليـته على مبـدأين ومعـياريـن مرجـعيـيـن: التاريخ والعـقـل؛ المبدآن اللذان بهما يكـتسب معناه الكامل بما هـو تـفكيـك تاريخي وعـقلاني.
ما من معيار أدق لمعايـرة وزن الصـحـة والبطلان في أي سرديـة مـن معيـار التاريخ. معـدن التاريخ المزيـف: الوهمي والمتخيـل والأسطوري، ينكـشف في رائـز التاريخ الحقـيقي العاري عن الأخـلاط والزوائـد. ليس هذا معيارا نفـسيـا للتـفرقـة بين الغـث والسـميـن في سرديـات تـتعـلق بشؤون غير تاريخيـة، فـقط، كمـثـل تلك التي تدور على مسائل الاجتماع السياسي والثـقافـي والديـني، بـل هو معيار يليق إعمالـه حتى في حالة السرديـات التـاريخيـة أيضا، أي التي مدارها على أخبار وعلى سلاسـل الأسانيـد التي تحـمـل عليها تلك الأخبار.
في مثـل هذه الحال، يصير التاريخ هـو عينـه الذي يصحح التاريخ ويكشـف ما ليس بتاريخ في ما يرويه؛ يصير الفـيصل بين التاريخي واللاتاريخي في السرديـات التـاريخيـة. بعبارة أخرى، للنـقـد التاريخي للمصادر التـاريخيـة الأثـر الفعـال في الإبانـة عن أصول فساد الرواية التـاريخيـة وجنوحها لركوب الميثي والمتخيـل والافتراضي، كما في الإبانـة عن أسباب تقـع في باب السياسة والتمـذهب والمنافع وتضع الرواية التـاريخيـة على نحـو لا تقول فيه واقـعـا تاريـخيـا، بـل تـتلاعب بوقـائعه تبعا لما تمليه على صاحبها اعتبارات المصالح. ولقد بات هذا النـقـد التـاريخي مألوفا حتى في مجال دراسات الكتاب المقـدس (العهد القديم والعهـد الجديد)؛ حيث يسلط الضوء على تاريخيـة النـص الدينـي ومراحل تشكـله جنبا إلى جنب مع النـقـد النـصـي الداخلي الذي يدور على لغة ذلك النـص وبنى التـعبيـر والخطاب فيه وعلى تاريخ اللـفظ المستخـدم ناهيك بمصادر النـص... إلخ. باختصار، لا يكـون تـفكـيك للسرديـات إلا متى وقع فحصها، فحصا دقيقا، من منظور التاريخ وقـوانينه وأحكامـه.
قد يـعـز وجـود المعـيار التاريخي المناسب لزنـة ثـقـل الصـحة والبطلان في السـرديـات، ويحصل ذلك - في الأغـلب - حين تـفـتـقـر السرديـة إلى أي قرينة فيها على تاريخ تـقـديري ما يـبـنى عليه افـتراض عـلمي.
يمكن في هذه الحال أن يـلـجأ إلى طـرائـق أخرى في القياس ليست بعيدة من التاريخ، تـماما، من قـبيـل تقـدير زمـن اللغـة التي صيغت بها، مثـلا، وبيـان تاريخـها الموضوعي من طريقها، غير أن أفعل معيار يمكن إعمالـه، في هذه الحال، هو معيـار العـقـل. للعقـل قـوانيـنه، مثـله في ذلك مثـل الطبيعـة والتاريخ؛ فكما ليس من شـذوذ في الطبيعـة والتاريخ عن السـنـن التي يجريان بها مجرى الانتظـام، كذلك لا شذوذ في العقـل عن نظامه الصارم.
ما يخـرج عن نظام الطبيعة والتاريخ خارق لذلك النظام (ومنه المعجزات التي تـنتهـك ذلك النظام وتوقـف عمله). لذلك لا يـقـبل العقـل تلك الخوارق ولا يعتبرها في حسـاب الممكنـات فـتراه، بالتـالي، ينـتـقد كـل قـول بها. هكذا يسع النـقـد أن يضع السرديـات المفحوصـة في ميزان العـقـل وقـوانينـه لتـبـيـن ما إذا كانت معطياتها مقـبولـة في العـقـل (أي معقـولة)، أم هي مرذولة فـيه - على قـول أبي الريحان البيروني في تحقيـقه لـما للهـنـد من مقـولة - بحيث لا يؤخذ بها. وغني عن البيان أن معيار العقـل هذا بالغ الفعاليـة في باب نقـد ما يكـتـنـف السـرديـات من خوارق وخرافات ومبالغات يـنـوء بحملها الواقع والعقـل على السـواء، وتـفسـد بها قيمـة السـرديـات في ميـزان الفـكـر والمعرفـة.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
إسبانيا.. اكتشاف كنيس قديم يعيد كتابة التاريخ اليهودي المبكر في شبه الجزيرة الإيبيرية
اكتُشف كنيس محتمل في كاستولو جنوب إسبانيا، يعود إلى القرن الرابع الميلادي، عبر قطع أثرية تشمل مصابيح ومنورات. الطرح يعيد النظر في التاريخ اليهودي المبكر في إيبيريا ويثير جدلاً حول طبيعة المبنى الذي كان يُعتقد أنه كنيسة. اعلان
كشف فريق من علماء الآثار عن أدلة جديدة تشير إلى وجود مجتمع يهودي صغير وقديم في مدينة كاستولو الإيبيرية-الرومانية، والتي تقع بالقرب من بلدة ليناريس الحالية في منطقة أندلوسيا جنوب إسبانيا. وقد سبق أن تم اعتبار هذا الموقع مقرًا لكنيسة مسيحية، لكن الاكتشافات الحديثة تفتح الباب أمام إعادة النظر في طبيعة المبنى، إذ قد يكون في الواقع كنيسًا يهوديًا.
وجاءت هذه التطورات بعد حفريات أُجريت بين عامي 2012 و2013 ضمن مشروع "كاستولو سفاراد، برينيرا لوز" التابع للحكومة الإقليمية لأندلوسيا، والذي يهدف إلى الكشف عن الجذور اليهودية للمدينة.
وخلال هذه الحفريات، عثر الباحثون على مجموعة من القطع الأثرية التي تدل على وجود يهودي في المنطقة في نهاية القرن الرابع أو بداية القرن الخامس الميلادي.
من بين هذه القطع: ثلاث قطع من مصابيح نفطية مزينة برسوم منورات، وقطعة من بلاطة سقف تحمل رسمًا لمنورة خماسية الفروع، بالإضافة إلى قطعة من غطاء إناء مخروطي الشكل تحمل كتابة عبرية بالجرافيتِو. ورغم اختلاف العلماء حول ما إذا كانت الكتابة تعني "ضوء الغفران" أم "نشيد داود"، فإن وجود هذه القطع يُعد مؤشرًا قويًا على وجود سكان يهوديين غير معروفين سابقًا في كاستولو.
ما يجعل هذا الاكتشاف أكثر أهمية هو موقع المبنى الذي عُثر فيه على هذه القطع. فالموقع كان يُعتقد أنه كنيسة مسيحية مبكرة، لكن الباحثين بدأوا في طرح سؤال جديد: هل يمكن أن يكون هذا المبنى في الواقع كنيسًا؟
وبحسب الباحث باولستا سيبريان، أحد القائمين على المشروع، فإن هناك عددًا من العناصر المعمارية والتنقيبية تشير إلى أن هذا المبنى لم يكن كنيسة تقليدية. فقد شوهد ثقب محتمل في الداخل ربما استخدم لوضع منورة كبيرة، وهو أمر غير مألوف في بنية كنيسة مسيحية. كما لم يتم العثور على أي قبور أو رفات داخل المبنى، مما يتعارض مع المتطلبات العادية للكنائس المسيحية في تلك الفترة، حيث كان من المعتاد وجود أماكن دفن قريبة.
Related شاهد: أقدم كنيس يهودي في مصر يفتح أبوابه بعد عملية ترميم ب100 مليون جنيه"خطأ تقني".. الجيش الإسرائيلي يكشف عن نتائج تحقيقه في قصف كنيسة العائلة المقدسة في غزةأصيلة المغربية تُرمّم كنيس "كحال" بعد 200 عام وتُدرجه ضمن التراث الوطنيإلى جانب ذلك، يشير الباحثون إلى أن تصميم المبنى يشبه بعض الكنائس اليهودية المعروفة في فلسطين من نفس الفترة. ففي حين أن الكنائس المسيحية عادةً تكون ذات هيئة مستطيلة مع مذبح في النهاية (الأبسيد)، فإن المساجد اليهودية كانت غالبًا أكثر مرباعيه، وتتضمن منصة مرتفعة (البِمَا) تحيط بها المقاعد، مما يتوافق مع ما تم رصده في كاستولو.
موقع المبنى أيضًا يُعزز هذه الفرضية. فالمبنى كان يقع في مكان معزول بالقرب من حمام روماني مهجور، وكان يُنظر إليه آنذاك على أنه مكان وثني، وبالتالي كان يُعتبر "خاطئًا" أو "شيطانيًا" من قبل الأساقفة المسيحيين. وقد أغلق هذا الحمام في نهاية القرن الرابع أو بداية القرن الخامس، وهو الوقت نفسه الذي يُعتقد أن المجتمع اليهودي في كاستولو عاش فيه.
يقول سيبريان: "إن قرب هذا الكنيس المحتمل من حمام روماني مهجور يُظهر كيف حاول الهيكل المسيحي ربط اليهود ببعيدة عن الطقوس المسيحية، بل وحتى بعملية الشر". وأضاف: "في ذلك الوقت، كان الأساقفة يلعبون دورًا كبيرًا في تنظيم المدينة، ويمكنهم استخدام هذه الروابط لتقويض مكانة اليهود".
إذا تأكدت هذه النظريات، فإن كنيس كاستولو سيكون من أقدم المعابد اليهودية في شبه الجزيرة الإيبيرية. فمعظم المساجد الأصلية الناجية في إسبانيا تعود إلى العصور الوسطى، مثل مسجد أوتريرا في أندلوسيا، الذي يعود إلى القرن الرابع عشر.
ومع ذلك، يعترف الباحثون بأن التحدي الأكبر أمامهم هو غياب الدليل التاريخي الكتابي المؤكد. وقال سيبريان: "نحن نعلم أن هناك من سيشكك في هذه الفرضية، وهذا طبيعي في العلم. لكننا نعتقد أن البيانات التي قدمتها دراستنا كافية لطرح السؤال بشكل جدي".
على أي حال، سواء كان المبنى كنيسة أو كنيسًا، فإن الاكتشاف يسلط الضوء على وجود مجتمع يهودي صغير عاش في كاستولو في وقت تعايش مع جيرانه المسيحيين. ومع مرور القرون، بدأت الكنيسة في تكريس فكرة "الاختلاف" حول السكان اليهوديين لإعادة تعريف الهوية المسيحية، مما أدى في النهاية إلى أعمال اضطهاد ديني وطرد شامل للسكان اليهوديين من إسبانيا في عام 1492.
ويختتم سيبريان قائلاً: "هذا الاكتشاف يُظهر لنا أن التعايش بين مختلف المجموعات الاجتماعية والدينية كان ممكنًا في الماضي. لكن مع تزايد قوة الكنيسة، بدأت مجموعات قوية في التصدي لمجموعات ضعيفة، وهي ظاهرة لا تزال قائمة حتى اليوم".
انتقل إلى اختصارات الوصول شارك هذا المقال محادثة