حين طلب مني الأصدقاء من إحدى المنصات أن أكتب المقالة الافتتاحية لمشروعهم التنويري النبيل، تقافزت أمامي كل الكتب والمقالات والقصص والمقاطع اليومية، لم يكن ما يتقافز أمامي كلماتٍ أو حروفًا؛ بل مصائر أناسٍ يعبث بهم ساسةٌ انتقلوا من الاهتمام بالمصير الجمعي، إلى النفع الشخصي، فترّدت أحوال الناس -الصعبة أساسًا- وبدأت تفقد الدول هويتها الراسخة وتذوب فـي الهويات الجديدة، ليقف المرء أمام حضارةٍ ضاربةٍ فـي القدم متسائلًا بذهولٍ يشبه ذهول المجنون الذي لا يصدق ما تراه عيناه: «أهذه حضارة كذا وكذا أم مسخ سينمائي مصغَّر؟».

إنني أُشبّه الأمة بالأرض والشجر؛ فالأرض الطيبة الخصبة تُنبت النباتات النافعة للبلاد والعباد، ولكنها لا تخلو من الحشائش الضارة التي يواظب المزارع المجتهد على اقتلاعها. وليست كلمة الاقتلاع هنا مجازيَّةً؛ لأن الحشائش الضارة -كما هو معروف عند أهل الزراعة- كالهيدرا ذات الرؤوس التسع، تتكاثر إن تم تقليمها، لكن نسبة الخلاص منها عالية إن حرص المزارع على اقتلاعها من جذورها. وهكذا المثقف الحقيقي فـي كل أمةٍ وأيةِ ثقافةٍ، يقتلع جذور الأفكار الخبيثة ويدركها ويعرفها بعينه الفاحصة وعقله المتقد الذي يرى جذور الشجرة العملاقة، ولا تُخلبه أغصانها الكثيفة أو جذعها الضخم الفارع، بل يرى ما تحت التراب ومبدأ البذرة الأولى فـي مهدها الأول.

كيف نقرأ التاريخ إذن؟ وما السياقات التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه اليوم؟ وهل للأحداث التي تحدث اليوم جذور تاريخية أم أنها مُنبتَّةٌ عن تلك الجذور؟

إن التاريخ فـي كل البلدان واحدٌ لا يتغير مهما تغيرت الأزمان والأدوات، فالتاريخ هو هو مذ بدأت الخليقة؛ غالبٌ ومغلوبٌ، منتصرٌ وخاسرٌ، قاتلٌ ومقتولٌ، مُسْتَبِدٌّ ومظلومٌ، فما الجديد؟

لقد تغير كل شيء مع معرفة الإنسان، ولذلك تبوأت المعرفة والعلم مكانةً فـي كل الحضارات والأديان، والعلم هنا ليس بمعناه الإنجليزي -Science- فحسب، بل يتعدى ذلك إلى المعرفة بمفهومها الواسع ومشاربها المتعددة. فمذ بدأت المعرفة تتغلغل فـي الأرواح البشرية، لم تعد الحياة مقتصرة على المَعاش والمَأكل والمشرب، لقد ظهرت المعاني الجديدة والجليلة لحياة الإنسان، فأضحى يموت لا لأجل لقمة العيش فحسب؛ بل فـي سبيل مبادئه وأفكاره ومعتقداته، وأصبح يُقتل أو يُغتال عليها!

لم تعد الحياة مقتصرة على اتّباع القوي إذن؛ لكن هل توقّف الشرُّ وأسدل جفونه وهو ينظر إلى تلك النهضة وذلك الاستيقاظ؟ بالطبع كلا!

لقد تطورت أساليب القمع فـي مقابلة التوق إلى التحرر من سجون الظلم والظلمات، وكلما وجد الناس منبعًا يَرِدونه؛ سارع الشرُّ إلى تجفـيف ذلك المنبع أو طمسه، فغدا منسيًا لعقود طويلة، ثم ما يلبث أن تنتشله يدٌ مؤمنةٌ بالإنسان، لتعيده إلى مكانته السامقة، فـيغدو ذلك النبع أكبر من الوقت الذي طُمِسَ فـيه!

واعجبْ لنبعٍ كَبُرَ بعدما ظنناه ميتًا، هكذا هي آثار المفكرين الأحرار والمثقفـين الساعين إلى صلاح البلاد والعباد لا إلى مصلحة شخصية أو منفعة ذاتية.

إننا ننسى أنفسنا فـي اليوميِّ العاديِّ أكثر من اللازم، فلا ننظر إليه بعين جديدة فاحصة تراقب تمثلاته وسياقاته وبذرته الأولى؛ بل نتعامل معه باعتباره شيئًا جديدًا منفصلًا عما سبقه من تاريخ وثقافة ووعيٍ كاملٍ وشاملٍ إزاء الإنسان والحياة.

فندرس ما فعله الإغريق فـي السياسة، ونتعلم عن دور المرويات الشعرية عند العرب فـي صنع التاريخ وتزويره وطمس المعادين لصاحب السلطة والنفوذ، ونتحدث بشغف عن الثورات والثورات المضادة، كما نتحمس وتفور دماؤنا حين نتدارس ما فعله الإنسان بأخيه الإنسان فـي الحربين العالميتين الأولى والثانية.

لكن، لماذا نظن أن هذا كله فـي الماضي فحسب؟ أليست أيامنا الحالية ماضيًا بالنسبة إلينا بعد حين؟ فما الذي ينبغي علينا فعله إذن؟

مرّ عليَّ مقطعٌ من خطابٍ مصورٍ لمدرب كرة القدم، الإسباني القدير بيب جوارديولا، يقول فـيه فـيما معناه وفـي سياق حديثه عن غزة: «فـي عالم يقولون لنا فـيه إن تأثيرنا صغير جدًا، لكن الحقيقة أن القوة فـي هذا العالم ليست فـي السلطة؛ بل فـي الاختيار، وعن امتلاك المبادئ، وعن رفض الصمت عندما يكون ذلك ضروريًا».

هذا ما ينبغي علينا فعله فـي حياتنا كلها، أن نختار. نختار مبادئنا وطريقة تفكيرنا وحياتنا كلها.

لقد اقترن الظلام بالخوف فـي وعينا منذ الأزل، واقترنت الشعلة بالأمل بعد تلك الظلمة. فبعدما كنا نخشى أن تتخطفنا يد الأقدار عبر الحيوانات المفترسة أو المخاطر الطبيعية التي لم نكن نراها؛ أعطتنا الشعلة الأولى الخيط الأول والأمل الأول فـي الدفاع عن أنفسنا ومعرفة الأخطار على السواء.

فبتنا نشبّه الجهلَ الذي سيقتلنا لا محالة، بالظلام الذي عشناه فـي الكهوف والغابات والأودية والجبال. وباتت المعرفة الشعلة التي منحتنا الطمأنينة -وإن لم نهزم بها أعداءنا دومًا- والإيمان بمقدرتنا على الصمود ومعرفة مكامن الخطر.

إننا نتجاهل الأدب فـي تعاملاتنا مع التاريخ وعلم النفس وفهم المجتمعات البشرية وحكمتها، ونقرن الشعر خصوصًا بالكلام المنمق المعسول الذي لا فائدة فـيه سوى التربيت على أرواح المتعبين المنكسرين، ولا عائدة منه سوى دراهم يتلقاها الشعراء فـي المحافل وأمام الملوك.

لكن، أليس الشعر تاريخًا آخر؟ أوليست القصائد ثمرة المجتمعات ومعتقداتها وطريقة عيشها؟

هو كل ذلك وأكثر، ففـي تلك الأبيات المنثورة هنا وهناك، تجد الحكمة المخبوزة برفقٍ وتأنٍّ، الحكمة التي لو أخذناها بحق لرأينا تمثلاتها الجيدة فـي حياتنا، ولجعلناها مكشافًا ننظر به فـي الحقائق، أو ما تبدو على أنها كذلك.

وما من امرئٍ يقرأ الشعر القديم اليوم بعد قراءته لعلوم العصر -الإنسانيات خصوصًا- إلا وسيبلغ ذهوله ودهشته مداهما، ففـيه من النظريات والمخرجات والنتائج التي لم تُسَمَّ فـي حينها، مما يجعل المرء يُكبِرُ أولئك العظماء وكيف توصلوا إلى تلك النتائج مع قلة الوسائل والأدوات فـي حينه.

أما عن قراءة التاريخ، فإنني أميل أكثر إلى قراءة الإنسان نفسه لا آثاره.

يبدو أن فـي وعينا شيئًا يجعلنا ننسى أن الإنسانَ إنسانٌ، فنُضفـي عليه صفات الألوهية والقدرة المطلقة والنور الكلي حين نحبه ونزنه بميزان المآثر والمنجزات. ونلقي عليه اللعنات وأبشع العبارات حين لا نحبه أو نصنفه فـي القسم المضاد للنور -الذي نعتقد بأنه نور وفقًا لتصوراتنا وما ترسخ فـي وعينا الذي نقارب به الأشياء ونزن به الأمور- ونُلصِق به أشنع الصفات و«نؤبلِسُه» ما استطعنا إلى ذلك سبيلًا.

لكنَّ السيئ فـي مكان، خيّرٌ فـي مكان آخر، وما ينبغي أن نتنبه إليه حقًا، هو مكمن السوء ومنبعه.

إن الحديث عن الإنسان ودراسته كما تُدرَس المادة الخالية من الروح، أو كما تُدرَس الكائنات الحية حتى؛ مبدأٌ خاطئ حتى النخاع.

فالغضب والثأر والانتقام واليأس والاكتئاب والحقد والحسد وغيرها من الطبائع التي لا يمكن إغفالها، تصنع المعجزات.

وليست المعجزات هنا تلك الخوارق الحسنة، بل قد تكون من الخوارق المخيفة والفظيعة فـي آنٍ. وما يبدو أنه مستحيلٌ وبعيد المنال، قد يغدو أقرب مما تخيلناه يومًا.

قراءة التاريخ تبدأ بقراءة الإنسان، صلاحه وفساده. ومتى ما ملك الإنسان القدرة المطلقة، وغابت المساءلة عنه؛ ظهرت حقيقته وبانت مقاصده وارتفع قناعه وانكشف وجهه.

فإما أن تنتصر روحه الخيّرة، أو يظهر لنا مسخٌ لم نتفطن لوجوده تحت تلك الطبقة الرقيقة من الجلد النظيف.

كيف نقرأ كل شيء إذن بعينٍ بصيرةٍ ومساءلةٍ دائمةٍ وبحثٍ لا ينقطع؟ فزمن اليقينيات والنبوات ولّى منذ مدة طويلة؛ ولم يعد بأيدينا سوى مساءلة كل شيء لنصل إلى جزءٍ من الحقيقة الواسعة.

وإذا كان بمقدور السلطات تحويل الرمل إلى ذهب، والقاتل إلى ضحية ولم تكن تملك ما تملكه اليوم؛ فكيف سنصل إلى الحقيقة غدًا وقد أصبح للذكاء الاصطناعي أيادٍ تفوق الأخطبوط، ومحيطٌ لا نهائيٌّ من الأفكار والوسائل والطرق؟

كل هذا يدعونا إلى التوقف هنيهةً، وتقرير ما نريده فـي حياتنا لأجلنا أولًا، ولأجل من حولنا.

الإنسان هو الجذر الأول والبذرة الأولى للتاريخ، وإذا أردنا أن نغيّر واقع الحال؛ فلا بُدَّ من دراسة البذور النافعة المفـيدة التي أنتجت لنا أطيب الثمار التي نتنعم بها حتى اليوم.

كما لا ينبغي لنا ألبتة أن ننسى تلك الحشائش والأحراش التي تخنق الأرض وتقتل خصوبتها وخيراتها، والتي اكتوينا بها ونكتوي حتى اللحظة.

قراءة التاريخ، والتأمل والتفكر فـيه، لا يمنح الإنسان رفاهية المعرفة أو امتيازها؛ بل هو ضرورةٌ يدركها جيدًا من يدرك هدفه فـي هذه الحياة.

هنالك الكثير مما نتفاوت فـيه كبشر، فبعضنا يولد غنيًا والبعض فقيرًا، سيدًا ومسودًا، قويًا وضعيفًا، ذكيًا وأقل ذكاء؛ لكننا نملك الوقت نفسه أكنّا ملوكًا أم أناسًا فـي أقصى البلاد لا يعرفنا ولا يسمع لنا أحدٌ حِسًّا أو نَفَسًا.

لهذا تغدو قراءة التاريخ ضرورةً لا غنى عنها، وإن العاقل من يعرف نفسه حق المعرفة ليختار طريقه التي يسلك، ودربه الذي يشق، وهل هنالك ما هو أجدى وأنفع من قراءة التاريخ كي لا نكرر الأخطاء والحماقات التي قد تودي بنا إلى ما لا نُحب؟

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: قراءة التاریخ

إقرأ أيضاً:

حين يكتب الدّعاة بالدم.. قراءة في رسائل الشهادة من دعاة غزة إلى دعاة الأمّة

في غزة، حيث تتداخل الدّعوة بالمعركة، وتتقاطع الآيات مع أزيز الرصاص، لا يبقى للنظرية مساحة خالصة، ولا للحياد مكان آمن؛ فكلّ شيء هناك يُختبر على حوافّ النزف، ويُوزن في ميزان الفعل، ويُقرأ في كتاب الدم لا الورق.

ليلةٌ أخرى من ليالي غزة الحارّة، توغّلت فيها يد الاحتلال خلسة، تظنّ أنّ الليل ستار، وأنّ البارود أبلغ من الصوت، لكنّ الأرض نطقت، واليقظة انطلقت، وسُجّلت على الرمال دماءٌ لم تكن لمقاتلين فحسب، بل لدعاةٍ حملوا العلم والقرآن، وساروا به إلى مواقع الاشتباك.

لم تكن تلك اللحظة مجرّد عمليّة اغتيال في قصف جوي، أو في تسلل أمنيّ، بل كانت شهادة من نوع آخر، كتبتها أجساد تحمل في صدرها علما، وتختزن في روحها دعوة، وتؤمن أنَّ ما بين المنبر والمتراس شعرة، لا يفصلها إلا صدق النيّة وعلوّ الهمّة؛ إنّهم دعاة غزة الذين ما فتئوا يجودون بأرواحهم ليكتبوا سطور دعوتهم بالدم؛ وما أبلغ الداعية حين يكون دمُه لسانَه النّاطق.

الوجه الجديد للعالِم.. من الفتوى إلى الفداء

منذ عقود طويلة، استقرّ في أذهان كثيرين نموذجٌ نمطيّ للعالِم؛ رجلٌ وقور، محاطٌ بالمجلّدات، يُفتي من وراء حجاب، وينأى بنفسه عن ضجيج السياسة أو طين الواقع؛ غير أن غزة، في لحظاتها الصادقة، أعادت تشكيل هذا النموذج.

ما عادت ساحة العلم تقتصر على المساجد، ولا حلقات الدرس وحدها تخرّج العلماء؛ بل باتت خطوط التماس ميدانا جديدا يُنتج عالِما متقدّما لا يتوارى حين تشتدّ الكلفة، ولا يبرّر تخلّفه بلغة التوازنات أو الحياد الأكاديميّ
لقد قدّمت غزة للعالم صورة للعالم والداعية لا يفصل بين الحبر والدم، ولا بين الدرس والرصاصة؛ إنّه رجلٌ قرأ في الفقه، ثم كتبه بالدم، ولم يجعل من تخصّصه حجابا، بل جسرا، ولم يرَ في الشهادة نهاية الرحلة، بل تمام الموقف.

وما عادت ساحة العلم تقتصر على المساجد، ولا حلقات الدرس وحدها تخرّج العلماء؛ بل باتت خطوط التماس ميدانا جديدا يُنتج عالِما متقدّما لا يتوارى حين تشتدّ الكلفة، ولا يبرّر تخلّفه بلغة التوازنات أو الحياد الأكاديميّ.

هكذا، تكشف دماء دعاة غزة عن بُعدٍ ثالثٍ للعلم؛ بعد الحضور في الثغور، والانحياز العمليّ للحق، ورفض أن يتحوّل العالِم إلى مؤرّخ صامت على مجازر العصر.

بين منابر الغُرف المكيّفة وخنادق الدعوة الحيّة

لم تكن تلك الدماء مجرّد إدانةٍ للعدوّ المحتلّ، بل صفعة هادئة لتيارٍ دينيّ عريض، استمرأ البقاء على مسافة آمنة من المعركة.

كم من دعاةٍ اليوم تلبّسوا لبوس الشريعة، لكنهم حوّلوها إلى واجهة دعائيّة أو بضاعة قابلة للتسويق؟ كم من الخطباء ازدحموا على شاشات الفضائيّات، لكنّ حديثهم لم يكن إلا ترجمة لأهواء السلاطين أو نزوات السوق؟ كم من المتحدّثين باسم الإسلام يتوشّحون لغة الإصلاح وهم يقدّمون برامجهم بين إعلان لعطر فاخر وترويجٍ لمنتج منزليّ؟

إنّ صورة الداعية الذي يصعد من ساحات النار، مضرّجا بدمه، تفوق في أثرها آلاف الحلقات المنمّقة؛ إنها تعيد ضبط البوصلة، وتضع المتلقّي أمام المفارقة المؤلمة؛ من يمثّل الإسلام حقا؟ أهو من صعد على منصة، أم من سقط في الميدان؟

ولئن بقيت الدعايات تزيّن وجوه المترفّعين، فإن الوعي الشعبيّ لا يُخدَع طويلا؛ لحظة الشهادة تبقى لحظة تطهير؛ وكما أنّ الدماء لا تكذب، فإنها لا تسمح لغيرها بالكذب في حضرتها.

فلسطين في ميزان الدعوة.. أولويّة أم واجب مؤجَّل؟

لطالما صدّرت المؤسّسات الدعويّة خطابا يُجمّل فلسطين بعبارات الصدارة والقدسيّة، لكنّ السؤال الذي يُطرَح بإلحاح: أين تقع فلسطين فعليّا في أولويّات العالِم الإسلاميّ الدعويّة اليوم؟

البيانات المتكرّرة، والخطب الموسميّة، والدعوات العابرة، لا تكفي لأن تكون فلسطين قضيّة حيّة؛ إنّما تحيا القضايا حين تصبح جزءا من البرنامج اليوميّ للداعية، حين يُزرع الوعي بها في الدروس، ويُعاد تأطير الصراع معها في ذهن الجيل الجديد.

فإذا كان دعاة غزة يواجهون الاحتلال ببنادقهم ومصاحفهم، فإنّ سلاح الدعاة في العالم الإسلامي هو الكلمة، والخطاب، والتوجيه. ولا معنى لهذا السلاح إذا لم يُشهَر، ولا جدوى له إن بقي محفوظا في مجلّد أو مؤجَّلا إلى "ظرف أنسب".

العالم الذي لا يُعلن موقفه من قضيةٍ بهذه الجلاء، ولا يوجّه جمهوره نحوها بتخطيطٍ وتفعيلٍ ومناهج واضحة، يكون شريكا -بصمته- في خذلان القضية، حتى لو أنكر ذلك بألف بيان.

بين المعرفة والموقف.. مسؤولية لا تقبل التأجيل

العالِم الحقيقي لا يُقاس بمدى ما يملكه من معرفة، بل بمقدار ما تَصنع هذه المعرفة فيه من موقف.

العالِم الحقيقي لا يُقاس بمدى ما يملكه من معرفة، بل بمقدار ما تَصنع هذه المعرفة فيه من موقف
وهذا ما جعل دماء الدعاة في غزة لا تمرّ كحادثٍ عابر؛ بل جعلت من أجسادهم الممتدّة على الإسفلت الغزّي، وثائق أخلاقيّة حيّة، تُدين صمت الصامتين، وتربك من اعتادوا أن يعيشوا دور الناصح دون أن يدفعوا ثمن النصيحة.

في تلك اللحظات، لم تكن غاية الشهداء أن يصبحوا رمزا، بل كانوا يقومون بواجبٍ بسيطٍ في عيونهم، عظيمٍ في المعيار الربّاني؛ أن يثبتوا حيث ينبغي الثبات، أن يُتمّوا العلم بالفعل، أن يوقّعوا على صدق دعوتهم لا بالحبر، بل بالدم.

صدق لا تمحوه السنين

غزّة لا تكتب كثيرا، لكنّها حين تكتب تفعل ذلك بالدم؛ ومَن يكتب بالدمّ لا تُمحى كلماته، ولا تُنسى رسائله.

لقد قدّمت غزة إلى الأمّة نماذج نقيّة من الدعاة، ممن اختلط في وجدانهم العلم بالإيمان، والتفقّه بالبطولة، فصاروا شهداء بلا استعراض، وأعلاما بلا تكلّف.

وهؤلاء، وإن غابوا بأجسادهم، فإنّ أثرهم لا يندثر؛ لأنّهم قالوا للدين: "نحن معك حتى النهاية"، وللدعوة: "لسنا نداء، بل جسدا"، وللعلم: "نحنُ الترجمة".

أما البقيّة، فعليهم أن يجيبوا عن السؤال الصامت الذي تتركه صور الشهداء خلفها: ما قيمة علم لا يُصاحبه صدق؟ وما وزن دعوةٍ لا تبلغ الثغور؟

x.com/muhammadkhm

مقالات مشابهة

  • محمد حميد الله.. العلّامة المنسي الذي أعاد السيرة النبوية إلى قلب الإنسان والعالَم
  • «الوطنية لحقوق الإنسان» تحمل «داخلية الدبيبة» مسؤولية الانتهاكات التي ارتكبها «العمو»
  • 10 أسابيع لاكتشاف تطبيقات الفضاء في مراقبة الأرض
  • وزير الري: الإجراءات الأحادية تُهدد استقرار الإقليم.. والعلم لم يعد رفاهية في إدارة المياه
  • حين يكتب الدّعاة بالدم.. قراءة في رسائل الشهادة من دعاة غزة إلى دعاة الأمّة
  • "جوجل" تعرض خروجاً طوعياً لموظفيها ضمن خطط تقليص العمالة
  • "جامعة 4.0".. جامعة المجتمع المعرفي
  • مؤتمر الطوارئ الطبي بصحم يؤكد على أهمية تحديث المعرفة السريرية
  • صوفان: وجود شخصيات على غرار فادي صقر ضمن هذا المسار له دور في تفكيك العقد وحل المشكلات ومواجهة المخاطر التي تتعرض لها البلاد.. نحن نتفهم الألم والغضب الذي تشعر به عائلات الشهداء، لكننا في مرحلة السلم الأهلي مضطرون لاتخاذ قرارات لتأمين استقرار نسبي للمرحلة