لجريدة عمان:
2025-12-13@17:14:27 GMT

الخريف في ظفار... حين تتعاظم المشاعر

تاريخ النشر: 10th, July 2025 GMT

الخريف في ظفار... حين تتعاظم المشاعر

يُعد يوم الحادي والعشرين من يونيو من كل عام موعدًا استثنائيًّا في وجدان كل أبناء محافظة ظفار، من الحضر والريف والبادية؛ إذ يستعد الجميع لاستقبال موسم خريف ظفار، ولكلٍّ منهم أسبابه، ولكلٍّ طقوسه، غير أن الترحيب بهذا الفصل محفوف دومًا بالمحبة والحنين، وكأن الزمن يعود بنا إلى جذورٍ ضاربةٍ في الأرض.

فمواسم المطر لدى شعوب العالم كافة هي مواسم للخير والعطاء، وللفرح والازدهار.

فحيثما وُجد الماء، نمت الحضارات، وازدهرت الحِرَف، واغتنى الإنسان، وتوسعت التجارة، وتفرّغ الناس للعلم ومجالسه وكتبه وتدارسه. وحين يطول الاستقرار، تترسخ العلاقة بين الإنسان وأرضه، ويتعمق الانتماء إلى الوطن، ويورّث الموروث، وتتشكل الملامح الجمعية المستمدة من الأرض ومناخها ومواسمها.

ومع تسارع وتيرة التنمية والازدهار، أصبحت لفصل الخريف أهميةٌ اقتصادية كبرى في سلطنة عُمان، من خلال استقطاب آلاف السياح إلى محافظة ظفار، في مشهدٍ يتجسد فيه تكامل الأدوار بين المؤسسات الحكومية، والقطاع الخاص، وأفراد المجتمع، كلٌّ في موقعه، يؤدي رسالته، ويسهم في صناعة تجربة سياحية راقية.

وفي هذا الموسم، تزدحم الشوارع ازدحامًا محببًا؛ فالوجوه معظمها مألوفة، والطباع يغلب عليها الالتزام والاحترام للعادات والتقاليد، ويشعر الزائر أنه في بلده، في ظل ما توفره الجهات المختصة من خدمات نوعية ومشاريع ترفيهية، تُيسر زيارته، وتمنحه شعورًا بالراحة والانتماء.

إنّ من أبرز ما يميز أهل ظفار -كما ألحظ ويشعر به الكثيرون- أسوة بأهل عُمان جميعا، هو نبل المعاملة وصدق الترحاب، فلا فرق لديهم بين مواطن أو مقيم أو سائح؛ الجميع ينالون ذات التقدير، وذات الخدمات، وذات الاحترام، فالقانون يُطبق بعدالة، والإنسان يُقدَّر بصفته إنسانًا، وهي سمة راسخة في الشخصية العُمانية الأصيلة.

أما في دواخلنا، نحن أهل ظفار، فلفصل الخريف مكانةٌ لا تضاهيها مكانة؛ يتعاظم فيه كل شعور... الفرح، والبهجة، والنجاح، ولقاء الأحبة، والسكينة، والاستمتاع بالإجازة، وفي الوقت ذاته يتضاعف الحنين، ويشتد وقع الفقد في القلب، لمن غابوا، ولمن لم يعودوا كما كانوا. يبدو المكان في هذا الفصل وكأنه يرقّ لدمعة القلب، يواسيك بصوت المطر، ويحتضنك بضباب الجبل، ويُربّت عليك بندى الفجر، كأن الأرض كلها تخبرك: «إن من رحلوا يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وأن لهم عند الله خريفًا أبديًّا لا يعرف الفقد».

وهذا الارتباط العاطفي بالخريف ليس وليد اليوم، فمنذ أزمان بعيدة، كانت للخريف فنونه ومواويله الشعبية التي تُروى وتُغنّى في المجالس.

ومن أبرزها: شعر النانا وشعر الدبرارت، وهما فنّان شفهيّان يُؤدّيان باللغة الشحرية، تُغنَّى قصائدهما بأصوات شجية، دون استخدام آلات موسيقية، وتتناول مختلف الموضوعات: الرثاء، والفخر، والغزل، والنصح، والمديح.

ولا تزال هذه الفنون تُمارَس اليوم بأداء لغوي أصيل، يحفظ جمالية اللغة الشحرية، وتكرّس الهُوية الثقافية لجيل الشباب، ويحظى من يؤدّيها بتقدير اجتماعي كبير، فهي ليست مجرد غناء... بل هي رسالة أخلاقية وتربوية. كلماتها تُنتقى بعناية، فتخلو من الابتذال، وترتفع بالقيم، وتدعو إلى الكرامة والعزة، وتمجّد مكارم الأخلاق، وتربط الإنسان بجذوره وأجداده وسيرهم الطيبة، حتى باتت هذه الفنون أحد أساليب التربية المحلية المتوارثة جيلًا بعد جيل.

أما عن التجمعات في موسم الخريف، فهي جزء أصيل من النسيج الاجتماعي، حيث يجتمع الناس -لا سيما في القرى والاستراحات- في جلساتٍ ممتدة حول شبّة النار، في أمسياتٍ يطول فيها السهر، تتعالى خلالها الضحكات، وتتلاقى الأرواح.

ورائحة دخان الحطب حين يشتعل، ليست مجرد أثر عابر، بل هي عطر يعشقه الأهالي في ظفار، وينسج في الذاكرة مشاعر الدفء والحنين.

وغالبًا ما تكون تلك التجمعات خارج نطاق الأسرة الضيقة، فالشباب يجتمعون مع أصدقائهم، والنساء مع الجارات أو القريبات، في صورةٍ حيةٍ للتلاحم الاجتماعي، حيث يُروى الحديث، ويُغنّى الشعر، ويُستعاد الماضي، في خريفٍ لا يوثق فقط جمال الطبيعة، بل يحفظ نبض الإنسان وأصالته.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

خمسُ كاملاتٍ أوقفتْ المعجزات

في صباحٍ هادئ، كنتُ أقرأ مع ابني سورة النمل، فتوقّفتُ طويلا أمام مشاهدها العجيبة: سليمان عليه السلام يرى ما لا نرى، ويسمع دبيب النملة وهي تخشى على قومها، ويفهم خطاب الهدهد وهو يحلّق فوق مملكة سبأ. عالمٌ كبيرٌ من المعجزات الحسيّة التي رافقت الأنبياء، من موسى وعصاه، إلى عيسى وشفائه للمرضى، إلى صالح وناقته التي خرجت من الصخر.

معظم الأنبياء الذين ورد ذكرهم في القرآن جاؤوا بآياتٍ كونية، خارقة، محسوسة، تراها العيون وتلمسها الأيدي. لكنني عندما تأمّلتُ تاريخ الوحي بعد بعثة محمد ﷺ وجدتُ شيئا لافتا: توقّفت المعجزات المادية الكبرى، وانتهى عهد الآيات الكونية التي كانت تباغت الأقوام، وتحسم الموقف بين الإيمان والتكذيب حسّا لا جدال فيه.

لماذا تغيّر هذا النظام الكوني؟ لماذا اختفى نمط المعجزات الحسية تماما بعد البعثة الخاتمة؟ وجدتُ الجواب في سورة الإسراء، في قوله تعالى: "وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ.. وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفا". ومع هذا التأمل، كان الحوار الذي دار بيني وبين ابني سببا في إدراك عددٍ من المعاني العميقة، المستفادة من كتاب الله، حول سرّ توقّف المعجزات الحسية بمجيء رسول الله ﷺ.

أولا: لأن الرسالة الخاتمة جاءت رحمة للعالمين

المعجزات الحسية لم تكن مجرد آيات، بل كانت -في كثير من الأحيان- مقدّمات لعذابٍ عام إذا أصرّ القوم على التكذيب. قوم ثمود كُذِّبوا ثم طُحِنوا، وقوم عاد قُضي عليهم بالريح، وقوم لوط بالصّيحة، وقوم نوح بالطوفان.. كان نظام الكون قبل بعثة محمد ﷺ قائما على الآية ثم العذاب.

لكن الله قال عن نبيه الخاتم: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَة لِلْعَالَمِينَ"، ومن تمام هذه الرحمة رفع العذاب الاستئصالي عن البشرية، فلم يعد الكافر يُهلك بالخسف، أو الصيحة أو الريح أو النار، بل أُرجئ الحساب إلى يوم القيامة.

ولو استمرت المعجزات الحسية كما كانت، لكان تكذيبها يستوجب العذاب، ولما بقي على وجه الأرض كافر. فكانت الحكمة الإلهية أن يُرفع نظام المعجزة المادية، وأن يُترك البشر لرحمة الله في الدنيا، وعدله الكامل في الآخرة.

ثانيا: لأن التاريخ أثبت أن المعجزات لم تغيّر قلوب المعاندين

في سجلّ الإنسانية، لم يكن الجاحدون ينتفعون بالمعجزات، بل كانت تصبح -كما قال العلماء- "وبالا عليهم"، لأنهم يشاهدون الحقّ ثم يعاندون فيزدادون بُعدا وهلاكا. المعجزة لم تكن تُنتج إيمانا للقلوب المغلقة، بل تُنتج حُجّة عليهم. ولهذا قال تعالى: "وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ". فجاء الإسلام بنمطٍ جديد: ليس المطلوب أن تُجبَر البشرية على الإيمان الصادق عبر الظواهر الخارقة، بل أن تختار الحقيقة بعقلها وفطرتها. معجزة تُرى بالعين قد تُرعب، لكنها لا تهذّب، أما كلمة تُفهم بالعقل فقد تهزّ الإنسان من داخله.

ثالثا: لأن معجزة الإسلام هي معجزة عقلية ـ خالدة تتجاوز حدود الزمن

المعجزة الحسية يشاهدها قوم ثم تُصبح قصة، أما القرآن فهو معجزة تُشاهد بالعقل، وتتكرر كل يوم، ومفتوحة لكل جيل إلى قيام الساعة. القرآن ليس معجزة واحدة، بل هو منظومة من الإبداع والإعجاز: عمق لغوي، منظور تشريعي، تناسق كوني، دلائل غيبية، منهج إصلاحي، إشراق روحي.

وهو المعجزة الوحيدة في التاريخ التي يمكن لأي إنسان -عالما كان أو عاميا- أن يتذوقها، ويُعيد اكتشافها في كل عصر. لذلك تغيّر النظام الكوني في عهد الرسول ﷺ: لم يعد البشر بحاجة إلى معجزات حسية تأتي وتختفي، لأن بين أيديهم معجزة خالدة، لا تنتهي، ولا تشيخ، ولا تتعطّل.

رابعا: لأن البشرية نضجت.. وأصبحت قادرة على الاقتناع لا الإكراه

من معاني الحكمة الربانية أن الإنسان قد وصل -في عصر الرسالة الخاتمة- إلى مستوى من الوعي يسمح له أن يتعامل مع القرآن بالعقل والقلب، لا بالخوف من العذاب المادي. البشرية أصبحت مستعدة: أن تُقنع وتُحاور، أن تبحث وتستدل، أن تُؤمن عن اقتناع لا عن قهر.

وأصبح الأصل هو التدافع الإنساني، والاختبار، والاجتهاد، والإحسان في العمل: "وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا". إنه إعلان إلهي بأن مرحلة الطفولة البشرية -التي كانت تحتاج الآيات الخارقة- قد انتهت، وأن الإنسان اليوم قادر على أن يُقبل على الله من باب الفطرة والعقل والحوار. لم تعد الحاجة إلى الخسف، ولا الصاعقة، ولا الناقة التي تخرج من الصخر؛ بل أصبحت حاجة الإنسان إلى آيةٍ تهدي العقل قبل العين، وتُصلح القلب قبل الجسد.

خامسا: لأن الرحمة الإلهية اقتضت أن يُترك البشر لصناعة مستقبلهم

بعد الرسالة الخاتمة، لم يعد الله يُظهر آيات حسية لفرض الإيمان، ولا يُهلك الأقوام استئصالا؛ بل ترك الإنسان في ميدان الاختيار، يعمل، ويتنافس، ويجتهد، ويبحث، ويتحاور: "قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ". ومن يُحسن عملا، تتنزل عليه الرعاية الربانية، والنصر، والتوفيق. ومن يُعرِض، يُمهَل إلى يومٍ لا ريب فيه. هذه هي السنة الجديدة التي بدأت بنزول الوحي على محمد ﷺ: سنة الإقناع بدل الإكراه.. وسنة رحمة بدل الاستئصال.. وسنة العقل بدل المعجزة الحسية.

خاتمة: ارتفاع مستوى الخطاب الإلهي.. وارتقاء الإنسان

توقّف المعجزات الحسية ليس نقصا في عصر الرسالة الخاتمة، بل هو ارتقاء للبشرية وتكريم لها من الله سبحانه وتعالى، ونقلة من مرحلة المعجزات إلى مرحلة الهداية المباشرة بالقرآن.

لقد أراد الله أن يدخل الإنسان عصر النضج، عصر الإيمان الحرّ، عصر الإقناع لا القمع، عصر الرحمة لا الهلاك، عصر الكلمة التي تبني، لا الصاعقة التي تهدم.

مقالات مشابهة

  • علي جمعة: باب التوبة مفتوح ما لم يغرغر الإنسان
  • قمار تحت الأرض يُكشف.. ومداهمة خاطفة تُنهي اللعبة في قلب بيروت!
  • خمسُ كاملاتٍ أوقفتْ المعجزات
  • أحمديات: مملكة النمل تتحدث عن البشر
  • محمد رمضان لـ«أجمد 7»: «كلمة ثقة في الله سر نجاحي»
  • محمد رمضان: كلمة ثقة في الله سر نجاحي
  • محمد رمضان: الجنيه المصري فوق أي عملة في العالم
  • رحلة العمر
  • أمطار الخريف تمنح طهران الأمل في الحياة.. هل تنهي أزمة الجفاف؟
  • أمراض القلب أكثر فتكا بالأرواح!